في ذكرى رحيل القائد الكبير سي عبد الرحيم بوعبيد اليسار المغربي في حاجة لنفس جديد

عبد السلام رجواني

 

ما من أحد من أهل اليسار، في كل أطيافه، ينكر أن الحركة اليسارية تعاني من أزمة عميقة، متعددة الأوجه، فكرا وسياسة وامتدادا شعبيا. ويختلف اليساريون أنفسهم حول أسباب الأزمة الشاملة: منهم من يعتمد نظرية المؤامرة، محملا جهات أحيانا معلومة، وأحيانا أخرى مجهولة وخفية، مسؤولية خنق اليسار ودحره؛ ومنهم من يتهم أطرافا من اليسار نفسه بالخيانة والانهزام بحثا عن نصيب من السلطة وريعها، ومنهم من ذهب بعيدا فنعى اليسار وأودعه قبر التاريخ، متنكرا لانتماء بنى عليه مجده الشخصي. وهي تفسيرات تبدو لي بعيدة عن الفهم التاريخي والتحليل الموضوعي للأزمة، في سياقاتها الكونية والجهوية والوطنية، وفي أبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية.
هي تفسيرات صادرة عن ذوات يسكنها الشعور بالذنب الذي تحاول التخلص منه بإلقاء المسؤولية على الأخر المتعدد(المخزن وخدامه، والامبريالية، والرجعية العربية، والبورجوازية، و… و…)، دون مساءلة الذات الجماعية لكيانات اليسار، ونقد أطروحاتها الفكرية والسياسية ،ومراجعة مرتكزات خطابها وأساليب تواصلها، من أجل تجديد فكرها، وإعادة بناء تصوراتها عن الواقع الراهن المعقد والمتغير باستمرار، وابتكار أساليب متطورة للتواصل الفعال.
إن تقييم التجربة النضالية والسياسية لليسار تقييما علميا هادئا ورزينا، بما لها من إيجابيات وما راكمته من مكاسب، وبما لها من سلبيات على مستوى الفكر والممارسة السياسية، ويستحضر الشروط التاريخية للمغرب وللمنطقة العربية والمحيط الجهوي والخريطة السياسية الدولية، التي أحاطت بتلك التجربة ونحتت مضمونها وشكلها ودلالتها، هو( التقييم) الأداة المنهجيه الكفيلة ببلورة فهم أقرب إلى الموضوعية والنزاهة الفكرية لما وقع وما يقع وما يمكن ان يقع مستقبلا.
إنه السبيل الوحيد لتجديد فكر اليسار على نحو يستجيب لحاجات المغاربة وطموحاتهم في التقدم الحضاري الذي لن يكون ممكنا إلا من خلال نموذج تنموي مغاير يضع نصب عينية الإنسان المغربي المؤهل للمشاركة الواعية في بناء الوطن وتنمية المجتمع ودمقرطته. وما دون ذلك، سيبقى اليسار على ما هو علية من تشتت تنظيمي، وتيه فكري، وتجريبية سياسية.
من المؤكد أن الفكر السياسي اليساري الذي ساد عقودا مضت، ووجه خلالها الممارسة السياسية للأحزاب التقدمية المغربية على اختلاف تلاوينها، لم يعد كافيا لتقديم إجابات ملائمة عن إشكالات اجتماعية وثقافية وسياسية راهنة. إنه، بلا شك، أمر بديهي، لكن المشكل هو أن بعض من يعتبرون الأمر كذلك، ما زالوا، على مستوى الخطاب والممارسة معا يعيدون إنتاج خطاب الأمس وممارسات الماضي، في نوع من الحنين ل«الزمن الجميل» و«الجيل الذهبي»؛ وكأني بلسان حالهم ينبس:» ليس في الإمكان أحسن مما كان». والحال أن «مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس» كما قال مرة القائد الاتحادي الكبير سي عبد الرحيم بوعبيد، وهو في الاتجاه العام أحسن مما كان عليه منذ عقدين على كافة الأصعدة، لا سيما في مجالات الحريات وحقوق الإنسان وصدقية المؤسسات والبنيات التحتية والتطور التكنولوجي، رغم ما يعتري مجتمعنا من ظواهر سلبية من قبيل الفساد الإداري وضعف أداء النخب السياسية، ومن تفاوتات اجتماعية/اقتصادية بين فئات الشعب وجهات الوطن، ومن نواقص المرفق العموم، والارتداد الثقافي، ومظاهر العنف والتطرف.
إن الإسهامات النوعية ألتي أغنت الفكر السياسي اليساري، وطورته، وجعلت منه قوة مادية فاعلة في التاريخ، هي التي تميزت بالاجتهاد النظري والجرأة الفكرية، من خلال التجاوز الجدلي المبدع استنادا لقاعدة: التحليل الملموس للواقع الملموس. فلادمير إلتش لينين لم يكرر أطروحات ماركس وإنما بنى نظرية جديدة عرفت بالماركسية اللينيينية التي لم تعد سوى جزءا من التراث الماركسي. وصاغ ماو تسي تونغ ما سمي بالماوية التي أضحت في خبر كان حينما اختارت القيادة الصينية الجديدة طريقا متميزا للنمو والتقدم تحت عنوان «اقتصاد السوق الاشتراكي»، وقدم اليسار الأوربي، اشتراكيا كان أم شيوعيا، اجتهادات قوية، كان ملمحها الرئيسي البحث عن نموذج مركب يقوم على التأليف بين الاشتراكية والديمقراطية.
أتاح الاجتهاد النظري، المرتكز على المعرفة العلمية للواقع الموضوعي والتاريخي للأمة، للأحزاب اليسارية في تلك المجتمعات قيادة التغيير أو الإسهام فيه، من داخل الدولة أو من خارجها، وهو الاجتهاد الذي أضفى على الفكر الاشتراكي كثيرا من الغنى والتنوع،، ومكنه من الاستمرار في صيغ مختلفة، بعيدا عن الخطاطة الأصلية التقليدية، وبمنأى عن كل دوغمائية قاتله للتفكير الخلاق والمنتج، وعن كل إيديولوجية تعلب الفكر وتغتال الإبداع.
مع الأسف الشديد، لم يسر أغلب المفكرين اليساريين في الوطن العربي على نفس النهج النقدي الذي تسلح به الاشتراكيون في الغرب الأوربي، وفي الشرق الصيني، فلم يعملوا على تبييء النظرية الماركسية، ولا القيم الليبرالية، وعلى ملاءمتها للشروط التاريخية لمجتمعاتهم، كما فعل لنين وماو وغرامشي وألتوسير، وغيرهم من المفكرين ألذين طوروا الفكر الاشتراكي، فنجحوا بدرجات متفاوتة في استنبات الفكر الاشتراكي في البيئة الثقافية والدينامية الاجتماعية لبلدانهم.
مغربيا، يمكن القول أن التقرير الإديولوجي المنبثق عن المؤتمر الاستثنائي للإتحاد الاشتراكي الذي ساهمت في صياغتة نخبة من المفكرين الاشتراكيين المغاربة أمثال عمر بنجلون ومحمد عابد الجابري، وكذا الوثيقة التوجيهية الصادرة عن الندوة الوطنية التأسيسية لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، يمثلان محاولتين جادتين لبناء رؤية مغربية متأصلة اجتماعيا وثقافيا، للمشروع الديمقراطي الاشتراكي الحداثي، ولبلورة وعي تاريخي مطابق.
شكل التقرير الاديولوجي المرجع الأساس لإستراتيجية النضال الديمقراطي التي أبدعت القيادة الاتحادية بزعامة عبد الرحيم بوعبيد في تنزيلها عبر محطات نضالية تطلبت تضحيات جسيمة، وبنيت من أجل تفعيلها مؤسسات نقابية وثقافية وحقوقية كانت بمثابة جسور متينة مع الشعب وقواه الفاعلة، وأدوات للتعبئة الشعبية لمواجهة الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي والاستلاب الثقافي. أبانت تلك الاستراتيجية التي تقوم على التدرج والتراكم على نجاعتها، وبرهنت بالملموس والحجة التاريخية، أن سكة الإصلاح أجدى من سكة «الثورانية» في تحقيق التقدم نحو دمقرطة الدولة والمجتمع. ولذلك، لاعجب إن اهتدت أهم التيارات اليسارية المغربية، إلى النضال الديمقراطي المؤسساتي، واقتنعت عمليا بجدوى الإصلاح، بغض النظر عن عنف الخطاب والجنوح إلى الشعبوية كلما لاح في «الشارع» حراك اجتماعي، يخاله المتياسرون فجر ثورة.
إنها سكة النضال الديمقراطي الذي زاوج بين تأطير المجتمع والرفع من وعيه السياسي وتأهيلة للمشاركة في الحيلة السياسية وممارسة حقه في الاحتجاج والتظاهر في إطار القانون، والعمل في خلال المؤسسات الدستورية والمنتخبة من موقع المعارضة البناءة والحازمة. وكان للسي عبد الرحيم الدور الأساس في قيادة ذاك المسلسل المعقد، بمرونة سياسية لا تضاهي، وعقل سياسي براغماتي عالي الذكاء، دون تفريط في المبدأ ودون تنازل عما جوهري، سواء تعلق الأمر بالقضية الوطنية أو بالمعركة من أجل الديمقراطية.
وكان من مكتسبات ذاك النهج القويم تنامي الوعي السياسي واتساع مساحة الفعل النضالي سياسيا ونقابيا، وتحقيق مكتسبات في الإعلام والحريات العامة؛ مما أفضى إلى تحسن ميزان القوى العام لصالح القوى الوطنية الديمقراطية التي وحدت صفوفها ضمن الكتلة الديمقراطية، التي اضطلعت بدورها بالإعداد الأدبي والسياسي للإنتقال الديمقراطي عبر حكومة التناوب التوافقي، التي لم يكتب للمعلم الأول سي عبد الرحيم أن يساهم في الإعداد لها.
أحيت حكومة التناوب أمل المغاربة في التغيير في اتجاه الدولة الديمقراطية الحديثة، وزرعت في النفوس الجريحة حلم المغرب النامي والمجتمع العادل والمستقر، وخيم على المغرب مناخ المصالحة الوطنية المؤسسة لأفق يقطع مع أزمنة الاستبداد والتخلف السياسي، وبعبارة موجزة، كان التناوب حدثا فارقا في تاريخ المغرب المعاصر، نقل المغرب من نسق سياسي إلى نسق سياسي آخر، في إطار نفس النظام السياسي، وغير نوعيا من طبيعة الفعل السياسي للقوى التقدمية الديمقراطية، وعزز من دور المؤسسات، وهيأ لإدماج النخب اليسارية، بما فيها جزؤ من اليسار الجذري، في العمل المؤسساتي.
كانت تجربة التناوب في الحقيقة نهاية مرحلة سياسية ميزها الصراع التناحري بين القوى اليسارية الوطنية والمؤسسة الملكية، وبداية مرحلة تاريخية جديدة اتسمت بمشاركة الأحزاب الوطنية الديمقراطية الأساسية في الحكم، ليس فقط من خلال العمل الحكومي والمؤسسات المنتخبة، وإنما ايضا من خلال مختلف مؤسسات الحكامة. هكذا اصبحت قوى المعارضة التاريخية شريكا فعليا في رسم السياسات العمومية، وبالتلي مسؤولة بقدر ما عن الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية.
وبذلك تكون المرجعيات النظرية التي وجهت الممارسة السياسية زمن المعارضة قد استنفذت مهامها، ولم يعد ممكنا التسلح باطروحاتها لإسناد اختيارات سياسية جديدة، في سياقات وطنية وجهوية ودولية، يطبعها تحول عميق وعاصف أهم مميزاته:
– تراجع المد الاشتراكي على الصعيد العالمي منذ تفكك الاتحاد السوفياتي الذي لم يقدم نموذجا له جاذبية، مقابل صعود الرأسمالية المتوحشة والتطرف القومي العنصري في أوربا وأمريكا، والتطرف الديني الإسلامي والعبري. صاخب ذلك ضمور الإديولوجيات المؤسسة للتوجهات السياسية الكبرى وانهيار التحالفات الإديولوجية أمام سيادة الفكر السياسي البرغماتيى والعلاقات الدولية القائمة على تبادل المصالح الاقتصادية.
– هيمنه اقتصاد السوق على الصعيد العالمي،واكتساح قيم الاستهلاك الناجمة عن تسليع االحياة الانسانية في كل مناحيها الثقافية والاجتماعية، وهي القيم التي عممت على كل بقاع العالم عبر تكنولوجيات التواصل الحديثىة العابرة للقارات في زمن قياسي وبصبيب عاصف لا يترك للمتلقي أية فرصة للإفلات من سلطتها.
– تصدع النظام الدولي الذي تمخض عن الحرب العالمية الثانية، واضمحلال الفلسفات ذات النزعة الانسانية التي كانت نابعة من معاناه الشعوب الأوربية من ويلات حرب مدمرة، وعودة النزعات القومية المتطرفة وإرهاصات فاشية جديدة.
– في ذات الوقت، وارتباطا بالتحولات العالمية، عاشت المنطقة العربية أحداثا دراماتيكية عصفت بكل طموحات شعوبها في التحرر والتقدم والوحدة، وجرفت كل المشاريع، الليبرالية والقومية والاشتراكية، بل حولت دولا إلى خراب وحرب ودم، وجعلت دولا أخرى على عتبة فوضى حقيقية، يتهددها العنف والتطرف الناجم عن صعود حركات الإسلام السياسي لأكثر ظلامية.
– انكفاء الحركات اليسارية ببلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدرجات متفاوتة امام هيمنة الفكر المحافظ والإسلام السياسي الذي وجد في مواسيم «الربيع العربي» فرصة لاحتلال واجهات الأحداث والإمساك بمقاليد الحكم في دول كانت مهد الحداثة الديمقراطية والتحديث السياسي.
– احتدام الصراع العربي/العربي، والوهابي/ الشيعي، فجعلا من اليمن وسوريا ولبنان ساحة حرب إجرامية، ورهنت دول الخليج سيادتها لواشنطن، ولم يتردد بعضها في تقوية أواصر الود مع إسرائيل. وفي المغرب الكبير، بقي اتحاد المغرب العربي حبرا على ورق، وصارت ليبيا بؤرة للإرهاب…
– لوحة رهيبة كان من الطبيعي أن تلقي بطلالها على المغرب فكرا وثقافة وسياسة، وكان من أهم تداعيات كل تلك التحولات، التي هزت العالم، منذ سقوط جدار برلين وأحداث 11 سبتمبر، العودة القوية لقيم المحافطة، ارتباطا وتفاعلا، مع حركات الإسلام السياسي
المدعومة، ماليا ولوجسايكيا وإعلاميا، من قبل دول الخليج، وسياسيا من قبل أمريكا/ أوباما عالميا وجهويا،وقد ساعد على ذاك التغلغل الارتخاء الذي أصاب جسم اليسار، ولاسيما الاتحاد الاشتراكي، على مستوى الفعل الثقافي والعمل الميداني، في خضم المشاركة في تجبير الشأن العام..
كل هذه التحولات المتسارعة غيرت من طبيعة الصراعات دوليا وجهويا ووطنيا، وأدت إلى اصطفافات جديدة للقوى المتصارعة. لم يعد الصراع على الصعيد العالمي، بين معسكرين متقابلين، إشتراكي/رأسمالي، كما كان زمن الخرب الباردة.
ولم يعد عربيا بين أنظمة رجعية موالية للغرب وأنظمة اشتراكية/ قومية/وطنية. وعلى المستوى الوطني تغيرت المعادلة تماما، بحيث أن الصراع الأساس الذي كان قبل التناوب والمصالحة بين الحاكمين الممثلين للقوى الرجعية والرأسمال غير الوطني والقوي الوطنية التقدمية، لم يعد يعبر عن ذاته بذلك الوضوح والقوة، فاسحا المجال لصراع أفقي بين مشاريع ورؤى مجتمعية متنافرة لدرجة التضاد. لم يعد التناقض بين الرأسمال وقوة العمل هو الوجه الأبرز للصراع داخل الأوطان بعدما ظهرت للوجود تعبيرات سياسية لهويات ثقافية ودينية، ولم يعد الصراع عالميا بين نمطين للإنتاج، رأسمالي/ اشتراكي، بعد اندماج الاقتصادين الروسي والصيني في النظام الاقتصادي العالمي.
استنادا لما سبق، وجب على اليسار المغربي المتعدد، أن يقوم بمراجعة نقدية عميقة لأطروحاته، والعمل على بلورة أجوبة نظرية على التحديات التي تواجه البلد ضمن محيطة الجهوي والدولي، وتواجه اليسار نفسه الذي صار فكره محاصرا، ومساحة فعله ضيقة، وشعبيته متناقصة، وخلافاته متصاعدة.
فاليسار مطالب اليوم قبل الغد ببلورة تصوراته لمشروع مجتمعي حديد يدمج قيم الاشتراكية بقيم الديمقراطية وحقوق الانسان، ويعتمد التكنولوجيات الرقمية الحديثة والعلوم الرائده، ولنموذج تنموي عصري يسعى لوفرة الثروة وتوزيعها بالعدل، من خلال تعبئة الإمكان البشري والطبيعي والاقتصادي وفق فلسفة تنموية تتسم بالشمولية المجالية والاستدامة الزمنية. على اليسار المغربي أن يسهم في بناء استراتيجيات لمحاربة الفقر والأمية والتطرف، وأخرى تهم البيئة والهجرة وغيرها من التحديات…
هي مهام لا يمكن إنجازها إلا ضمن إستراتيجية عمل غير التي هي سائدة اليوم بين أهل اليسار المنشطر، المتناحر، المشدود لماض تولى، بدل استشراف المستقبل.

الكاتب : عبد السلام رجواني - بتاريخ : 15/01/2019