في سياق طلب تغيير أسماء شوارع أكادير:تعدّدٌ بلا تنازع، وإنصافٌ بلا محو، من يدبّر الذاكرة يدبّر الوطن

ذ. كمال الهشومي
في زمن التحولات المتسارعة والتحديات المتشابكة، يظل سؤال الهوية أحد أعقد الأسئلة التي تواجه الدول والمجتمعات. والمغرب، بما يحمله من عمق تاريخي وتعدد ثقافي وديني ولغوي، قد اختار، منذ بداية الألفية الجديدة، أن يُجابه هذا السؤال من خلال مسار ناضج للمصالحة مع ذاته وتاريخه.وهو مسار بلغ ذروته مع إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة، ثم تُوّج بدستور 2011 الذي نصّ صراحة على أن الهوية الوطنية موحدة، غنية بتعدد روافدها، العربية-الإسلامية، الأمازيغية، الصحراوية الحسانية، الإفريقية، الأندلسية، العبرية، والمتوسطية.
لكن، هذا الخيار الوطني في التعدد والاعتراف لا يمكن أن يتحقق بفعالية إلا متى توفرت مقاربة عقلانية وإنسانية ومسؤولة في تدبير الذاكرة والرموز.لأن الذاكرة ليست فقط سجلاً للتاريخ، بل هي أداة بناء رمزي للهوية الجماعية. ومن ثَم، فإن كل عملية إعادة تشكيل للذاكرة الرمزية من خلال تسمية الشوارع أو الساحات أو المرافق العمومية يجب أن تتم ضمن منطق التكامل لا المزاحمة، والاندماج لا الإزاحة.
إن المبادرات الرامية إلى تكريم أسماء شخصيات مغربية يهودية أو غيرها ممن ساهموا خلال مسيرتهم بنضالات ومقاومات لصالح تحرير وبناء الوطن، هي مبادرات تستحق التثمين، لأنها تُجسّد اعترافًا بثراء الهوية المغربية وانفتاحها التاريخي. لكنها في الوقت ذاته يجب أن تتم دون المساس بالأسماء الرمزية التي نحتت ملامح المغرب السياسي المعاصر. فالذاكرة الوطنية الجامعة ليست مجرد استرجاع لتواريخ الأبطال والانتصارات، بل هي مشروع ثقافي وسياسي يعكس كيف أراد المغاربة أن يتذكّروا أنفسهم كأمة موحدة في تعددها، ومنتصرة في اختلافها.فهي ذاكرة نُسجت عبر تضحيات المقاومين، واجتهادات المفكرين، ومعاناة المعتقلين، وإسهامات النساء اللواتي كنّ حاضرات لا في الظل فقط، بل في الواجهة أيضًا: يُخبئن الرسائل، ويحملن السلاح، ويخضن معارك الكرامة في الشارع والمدرسة والبيت.
وهذه الذاكرة لا تُختزل في فئة أو جهة أو تيار، بل تحتاج إلى بنية سردية عادلة وشجاعة، تعترف بإسهام فكر اليسار كما بالوطنية المحافظة، وببطولات الرجال كما بعطاء النساء، وبمن قاوم المستعمر كما بمن واجه الاستبداد الداخلي، وبمن آمن بالتحرر المسلح كما بمن اختار النضال بالكلمة والقلم.
وحين تُستحضر الذاكرة بهذا المنطق، تصبح أداة للمصالحة والتماسك، لا للمزايدة أو التنازع. إذ أن كل محاولة لإعادة تشكيل هذه الذاكرة بمنظار ضيق أو بمنطق الغلبة الرمزية تُفقدها بعدها الإنساني التحرري، وتحولها من رأسمال معنوي مشترك إلى مجال صراع مؤدلج بين الأحياء على حساب رموز راحلة صنعت مجد الأمة.
وفي هذا السياق، لا يمكن التغاضي عن أن هذه المبادرة، بصيغتها الحالية، لا ترقى إلى مستوى النضج الوطني الجامع، ولا تعبّر عن إنصاف صادق.بل قد يُفهم منها عكس ذلك: محاولة لإعادة ترتيب سلم الرموز بمعيار ظرفي أو عددي، ما يهدّد بتقويض التراكم الوطني الذي حققته المملكة في مجال المصالحة، والتسامح، والاعتراف بالذاكرة المتعددة.
إن النظر اليوم إلى الماضي بمنظار الغلبة أو بمنطق الأغلبية العددية، ومحاولة بناء المستقبل على هذا الأساس، يُفضي إلى انزلاق خطير:من بناء الذاكرة إلى السيطرة على تمثلاتها، ومن التعدد إلى الإقصاء، ومن التسامح إلى النفي الرمزي المتبادل. وهو ما لا يستقيم لا أخلاقيًا، ولا سياسيًا، ولا تاريخيًا.
إن هوية المغرب لا تُبنى على حساب الذاكرة الوطنية الجامعة، بل على قدرتنا على جعل هذه الذاكرة ذات طبقات متراكبة لا متناقضة.نعم، يمكن أن تُجاور ساحة «نيطا الكيام» شارع «علال الفاسي»، وأن يُقام «متحف أورنا بعزيز» في جوار معهد باسم «عبد الرحيم بوعبيد»، دون أن يشعر أي طرف بالإقصاء أو المحو.
إننا في أمسّ الحاجة إلى هندسة جديدة للذاكرة الرمزية، لا تُدار بمنطق الغلبة أو الإحلال، بل بمنطق الاعتراف المتبادل والتكامل الرمزي بين مكونات الوطن، فـ»الوطن للجميع» ليست مجرد شعار، بل هي مشروع سياسي وثقافي وأخلاقي يجب أن يُترجم في السياسات العمومية، وفي رمزية الفضاء العمومي، وفي كتابة التاريخ الجماعي.
وفي هذا السياق، فإن الحذر واجب من أن يتحول مشروع التعدد إلى مدخل لإعادة صياغة الهوية الجماعية على نحو يُفرغها من مقوماتها الكفاحية، ويُضعف مشروع الدولة الوطنية الجامعة. فالمصالحة لا تعني المحو، والإنصاف لا يُلغي الاعتراف، والوطنية ليست نقيضًا للانفتاح، بل شرطه.
إن حماية التعدد المغربي تستوجب حماية ذاكرة المقاومة، كما أن صيانة الرموز الكبرى تستوجب إدماج الوجوه المنسية. إنها معادلة صعبة، لكنها مُمكنة، فقط إذا توفرت الإرادة الفكرية والرؤية الوطنية والبعد الأخلاقي.
الكاتب : ذ. كمال الهشومي - بتاريخ : 06/06/2025