قراءة في المادة 17 من مشروع قانون رقم 23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية

الدكتور أحمد حموش (*)

تنص المادة 17 من مشروع قانون رقم23.02 المتعلق بالمسطرة المدنية على أنه: «يمكن للنيابة العامة المختصة وإن لم تكن طرفا في الدعوى ودون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام.
يتم الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائيا أو بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ قضائي أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا».
مادة غامضة ومبهمة يتخللها التباس على المستوى المفاهيمي لمصطلحات القانون الإجرائي المعلومة فقها وقانونا وما جرى عليه العمل القضائي في نوازل كهذه ،وكذلك باستقرائها يتضح أنها تتناقض مع مقتضيات الفصل 126 من الدستور الذي ينص على أن:»الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع ويجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة لتنفيذ هذه الأحكام»، مما يجعلها تمس باستقرار المعاملات وبالأمن القانوني والقضائي وبحجية الأحكام، لأن سيف بطلان الأحكام مسلط دائما عليها وبدون التقيد بأجل، لأن المشرع بمقتضاها منح للنيابة العامة، والتي يمكن أن لا تكون طرفا في الحكم، إمكانية الطعن في المقررات القضائية بدون التقيد بآجال الطعن، ورب قائل يقول إن المادة تتحدث عن مخالفة المقرر القضائي للنظام العام، وهو ما يمنح إمكانية طلب التصريح ببطلانه، وهذا ما يعني أنه على النيابة العامة أن تراقب جميع الأحكام الصادرة بالمملكة سواء التي صدرت قبل اعتماد هذه المادة أو التي ستصدر بعد اعتمادها، وأن المشرع بهذه المادة أضاف لهذه الجهة التي هي النيابة العامة مهمة مراقبة مدى احترام الأحكام القضائية للنظام العام من عدمه، أي أن عليها أن تحدث أقساما مزودة بـ (مفاريس) لتشخيص وفحص وتتبع جميع الأحكام القضائية ومدى ملاءمتها وصدورها وفقا للنظام العام على غرار ملاءمة التشريعات للدستور، والذي يدخل في اختصاص المحكمة الدستورية، أي أن المادة استحدثت جهازا رقابيا على الأحكام لا هو درجة ثانية من درجات التقاضي ولا هو محكمة قانون  ولو أن المشرع قيدها ظاهريا بالحصول على أمر من طرف الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض يصدره تلقائيا أو بناء على إحالة من الرئيس المنتدب، وفي هذه الحالة ربطت المادة بين النظام العام والخطأ القضائي دون أن تجعل لذلك من مسوغ مقبول، وهذا يظهر جليا في الجواب المسطري عن سؤال كيف سيتم طلب التصريح بالبطلان؟ وماهي الجهة التي سيقدم أمامها؟
فجواب المادة في الفقرة الثانية جاء مخالفا للأسس الإجرائية المعتمدة في ممارسة الطعون إذ نصت على أنه يتم بواسطة الطعن أمام المحكمة المصدرة للحكم بناء على …. ،لكن نفس المادة ربطت ممارسة هذا الطعن بثبوت الخطأ القضائي الفادح الذي أضر بحقوق أحد الأطراف وذلك بناء على إحالة الرئيس المنتدب أي أننا نتحدث هنا عن شرطين ملازمين حسب المادة، هما أن يكون الحكم المراد بطلانه من شأنه مخالفة النظام العام، وأن يكون هناك ثبوت للخطأ القضائي، وفي حالة ثبوت هذا الخطأ القضائي فإن الاختصاص للنظر في الطعن لا يكون إلا بناء على الإحالة على الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ليصدر الأمر الكتابي لممارسة الطعن بالبطلان من طرف النيابة العامة المختصة والإحالة هنا يمارسها الرئيس المنتدب لدى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
فالمادة بهذه القراءة التجزيئية منحت للنيابة العامة المختصة سلطات واسعة لتقديم الطعن ببطلان الأحكام سواء التي من شأنها أن تكون مخالفة للنظام العام أو التي صدرت وثبت أن هناك خطأ قضائيا ترتب عنه ضرر فادح في حق أحد الأطراف، أي أننا نكاد نكون أمام دعوى المسؤولية المرفقية لمرفق القضاء ولسنا أمام طعن بالبطلان لمخالفة النظام العام.
فالسؤال الذي يتبادر إلى الدهن : ما هو هذا النظام العام الذي يمنح للنيابة العامة هذه الإمكانية للطعن في الحكم وبدون التقيد بآجال الطعن عندما يكون المقرر القضائي من شأنه مخالفة هذا النظام العام؟
ثم بمقتضى منطوق المادة نفسها من هي النيابة العامة التي نعتها المشرع ب(المختصة) والتي منحها إمكانية طلب التصريح ببطلان حكم يكون من شأنه مخالفة النظام العام؟ هل هي وكيل الملك بالمحكمة مصدرة الحكم المراد التصريح ببطلانه؟  أو الوكيل العام للملك بنفس الدائرة أم الوكيل العام لدى محكمة النقض؟ ثم هل يتدخل هنا بصفته وكيلا عاما للملك لدى محكمة النقض أم بصفته رئيسا للنيابة العامة؟ ثم إن المادة تنص فقط على (يكون المقرر القضائي من شأنه مخالفة النظام العام) وليس أن يكون في حد ذاته مخالفا للنظام العام، وهنا الشك يفسر لصالح بطلان المقرر والتعبير مستوحى من الفقه والقانون الجنائي بطبيعة الحال،  فمن المعلوم أن التصريح ببطلان الأحكام لا يمارس عن طريق الطعون المعلومة قانونا لأن البطلان هو الجزاء الذي يرتبه المشرع أو تقضي به المحكمة إذا افتقر العمل القانوني -وهو الحكم في هذه المادة- لأحد الشروط الشكلية لصحته قانونا مما يؤدي إلى فقده لقيمته القانونية ولهذه العلة فبطلان الحكم لا يمكن أن يمارس إلا عن طريق دعوى في الموضوع لأنها أداة لرد الأحكام التي أصابها عوار في مقومتها من إنفاذ آثارها القانونية، وهذا العوار ينطوي على عيب جوهري جسيم بالحكم وبه تختل قرينة الصحة التي تلازمه وتكون هذه الدعوى مرفوعة من طرف أحد أطراف الحكم المراد إبطاله طبقا لقاعدة نسبية الأحكام، ولأن الحكم في ديباجته ينص على أنه صدر باسم جلالة الملك وطبقا للقانون.
جاء في الفقرة الأولى من نفس المادة أنه «يمكن للنيابة العامة المختصة…. أن تطلب»بمعنى أن تتقدم بطلب،  لتأتي المادة نفسها في الفقرة الثانية وتنص على أنه: « يتم (الطعن) أمام المحكمة المصدرة للقرار»، وشتان بين الطلب الذي يتم عن طريق تقديم دعوى قضائية، والطعن الذي أفرد له المشرع طرقا على سبيل الحصر سواء منها العادية أو غير العادية فهل يفهم من المادة أننا أمام حالتين لاستصدار حكم ببطلان القرار المطلوب بطلانه: الحالة التي يكون فيها المقرر القضائي من شأنه مخالفة النظام العام والذي حسب منطوق المادة يتم بناء على طلب من طرف النيابة العامة المختصة والحالة الثانية بواسطة طعن والتي يثبت فيها خطأ قضائي أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا والذي لايكون الطعن هنا إلا بناء على إحالة من طرف الرئيس المنتدب إلى السلطة القضائية على الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ليصدر أمر بممارسة الطعن للنيابة العامة المختصة، ثم هل يستقيم المنطق القانوني السليم أن يتم عرض الطعن بالبطلان أمام نفس المحكمة التي أصدرت القرار المطلوب بطلانه، وهي نفس المحكمة التي ثبت في حقها ارتكاب الخطأ القضائي الذي أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا، ثم كيف يثبت أن أحد الأطراف قد تضرر من الخطأ القضائي وما هي الآلية القانونية التي يتم الاعتماد عليها للتحقق من الضرر الفادح الذي ألحقه الخطأ القضائي بأحد الأطراف؟ هل هو القرار النهائي والحائز لقوة الشيء المقضي به الصادر في إطار دعوى المسؤولية الإدارية لمرفق القضاء التي سبق وأن تقدم بها المتضرر من الخطأ القضائي وحصل بموجبها على حكم بالتعويض؟ أم من خلال الشكاية التي وجهت ضد المحكمة مصدرة الحكم المراد بطلانه إلى الجهات المختصة بما في ذلك المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو رئاسة النيابة العامة لثبوت الخطأ القضائي أم من خلال نتائج التفتيش الذي أنيط بالمفتشية العامة للشؤون القضائية بناء على قانون رقم 38.21 يتعلق بالمفتشية العامة للشؤون القضائية، والذي حدد تأليف المفتشية العامة للشؤون القضائية واختصاصاتها وقواعد تنظيمها وحقوق أعضائها وواجباتهم تطبيقا لمقتضيات الفقرة الأولى من المادة 53 من القانون التنظيمي رقم 100.15 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية .
فلئن نص الفصل 122 من الدستور المغربي على أنه: “يحق لكل متضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تمنحه الدولة» فهل يستقيم الأمر بالجمع بين بطلان الحكم الذي قد ينشأ مراكز قانونية جديدة وحقوق مكتسبة والتي ستتأثر لا محالة ببطلانه مع التعويض عن الخطأ القضائي الذي قد يحكم به في الحكم الكاشف للخطأ القضائي في إطار المسؤولية الإدارية لمرفق القضاء، ثم إن نفس المادة في الفقرة الثانية منها نصت على أن الطعن الذي تمارسه النيابة العامة المختصة لا يتم إلا بناء على (أمر) فمن يأمر الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض يا ترى؟ هل النيابة العامة المختصة أم يأمر المحكمة التي ستنظر في الطعن ببطلان المقرر؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا ضرب سافر في مقومات استقلالية القضاء والعدالة ككل، ثم هل يمكن إثارة المسؤولية المرفقية عند تقديم الطعن بالبطلان ومن يتحملها؟ هل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض مصدر الأمر أم النيابة العامة المختصة التي تقدمت بالطعن بناء على هذا الأمر؟ وذلك إذا ثبت أنه تم التعسف في استعمال هذا الطعن بالبطلان وأضر بحقوق أحد الأشخاص، وبحسب المادة يتم الطعن كذلك بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للسلطة القضائية، فالسؤال الآخر المطروح: ماذا يحيل الرئيس المنتدب؟ هل يحيل الطعن أم الدعوى التي كشفت عن الخطأ القضائي في إطار المسؤولية الإدارية أم نتائج التفتيش أم الحكم بالتعويض عن الخطأ القضائي أم شكاية المتضرر من الخطأ القضائي وغيرها من الإشكالات؟
فهذه المادة قيد الدراسة جاءت أكثر غموضا عن الصيغة الأولى التي تم حذفها في المشروع لما كان معروضا على لجنة العدل والتشريع، وتم عرض المشروع على الجلسة العامة خاليا من المادة 17 بصيغة أن المادة 17حذفت ليطلب وزير العدل من الوزير المكلف بالعلاقة مع البرلمان بمقتضى كتاب تعميم تعديل الحكومة على المادة المحذوفة في الأصل وإحالته على رئيس مجلس النواب لإدراجه في الجلسة العمومية التي عرض عليها المشروع ككل للدراسة والتصويت فهل من الناحية الدستورية يمكن عرض تعديل على مادة تعتبر بموجب ما انتهت إليه اللجنة أنها محذوفة أي أنها بصيغتها المقترحة فهي جديدة لأنها بصيغتها الحالية لم يتم عرضها على اللجنة، وربما لم تعرض حتى على المجلس الحكومي، وتم فقط عرضها على أنظار الجلسة العامة دون أن تمر على المجلس الحكومي، ودون أن تناقش أمام لجنة العدل والتشريع ؟والسؤال الأخير هل يقبل الحكم الذي ستصدره المحكمة في حالة التصريح بالبطلان أحد طرق الطعن المنصوص عليه قانونا، سواء الذي صدر بناء على طلب النيابة العامة المختصة بالتصريح بالبطلان أو الذي صدر بناء على الطعن أمامها تلقائيا بواسطة أمر كتابي صادر عن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، أو بناء على إحالة من الرئيس الأول للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ قضائي أضر بأحد الأطراف ضررا فادح؟ ثم ماذا لو أصدرت المحكمة المعروض أمامها حكم يقضي برفض الطلب أو عدم قبول الطعن؟هل يمكن للجهة التي تقدمت به سلوك مسطرة الطعن كذلك، ومن هي الجهة المختصة في ذلك؟إذا ما علمنا أنه يمكن لقرار لمحكمة النقض أن يكون عرضة للطعن بالبطلان بسبب ثبوت الخطأ القضائي أو في حالة ما يكون من شأنه مخالفا للنظام العام؟ ثم هل يحق لأحد أطراف الحكم المراد التصريح ببطلانه ممارسة طرق الطعن في الحكم الذي ستصدره المحكمة المعروض عليها البطلان، سواء بأحد طرق الطعن العادية أو غير العادية؟ ثم هل يمكن لها أن تتدخل في الدعوى تدخلا إراديا كان أم انضماميا؟ ليتضح في الختام أن هذه المادة أرادت أن تؤسس لقاعدة من شأنها أن تخالف المبادئ الراسخة في القانون الإجرائي المدني، وتفتح منفذ اللجوء لبطلان الأحكام القضائية تحت ذريعة مخالفة النظام العام والخطأ القضائي بدون حسيب ولا رقيب !

(*)محام بهيئة المحامين بالدار البيضاء

الكاتب : الدكتور أحمد حموش (*) - بتاريخ : 26/07/2024

التعليقات مغلقة.