كما تكون النخب السياسية المحلية يكون مستقبل الشأن العام المحلي : أزمة اللامركزية من أزمة النخب والقيادات المحلية

ذ. محمد برادة

 

منذ صدور ميثاق العمل الجماعي في سنة 1976 والخطاب السياسي في بلدنا يصب في توطيد دولة اللامركزية ودولة الجهوية وصولا إلى دولة حداثية وعصرية بمفهوم المؤسسات العصرية.
كان قانون التنظيم الجماعي (ظهير 76) مرحلة اولى في ولوج المغرب إلى عهد التجربة الديموقراطية المحلية، ولقد خلق ذلك تطورا نوعيا في مسألة الحكم التي أخذت اتجاها واسعا، وأصبحت مرتبطة بقيم جديدة، قيم المواطنة وقيم المشاركة أو قيم التشارك وقيم التوزيع، أي توزع الحكم حسب الاختصاصات مصحوبة بثقافة الالتزام، وهكذا تم إشراك المنتخبين المحليين في تدبير الشأن المحلي لترسيخ ثقافة القرب، أي أن يكون المنتخب المحلي أو الحاكم المحلي قريبا إلى المواطن في مشاكله ومعاناته وفي مطامحه الأساسية. وهذا هو الدور المنوط بالجماعات المحلية والمؤسسات الجهوية. اما الدولة فيبقى دورها التحكيم والتخطيط والتوجيه والتنشيط إضافة إلى دور التصحيح حين يكون عليها أن تتدخل إذا رأت انحرافا عن تطبيق القانون.
هذه التجربة الديموقراطية قادت إلى الحديث عن تقاسم الحكم وتقاسم السلطة أو دمقرطتهما، بمعنى خلق مؤسسات تساهم في خلق القرار والتحكم فيه عن طريق القنوات الديموقراطية أو قوانين انتخابية ديموقراطية، لكن ما يلاحظ على أرض الواقع أن الممارسات الإدارية والبيداغوجيات التدبيرية في اتخاذ القرارات هي ممارسات بينت على أن هناك تناقضا بين الخطاب وبين طموح الدولة من جهة والحصيلة العامة من ناحية إنتاج القرارات والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذا العلاقة بين المواطن والإدارة من جهة ثانية.
منذ بداية مسلسل التجربة الديموقراطية الجماعية في سنة 1976إلى الآن لم نقم بالشكل الكافي بتقييم نتائج هذه المؤسسات الجماعية المنتخبة، ولم نقم بالتقييم الشمولي لها مما ساهم في تراكمات سلبية وخطيرة على تسيير الشأن العام المحلي وعلى تسيير المرافق العمومية، وبموازاة هذه السياسة التدبيرية ” التشاركية “استمرت سياسة التشبث بالمفهوم القديم للسلطة عن طريق الولاة والعمال ورجال السلطة تحت غطاء لا مركزية منحرفة عن مقاصدها وديموقراطية أريد لها أن تكون ملجمة وموجهة، كما ظلت هذه السلطات تتصرف كمؤسسات مستقلة عن الحكومة، ومهيمنة على عدد من المصالح الخارجية للوزارات، ومشددة رقابها على الجماعات، ومتطاولة أحيانا على صلاحياتها، لذا لم تفلح الجماعات ولا المجموعات الحضرية –آنذاك- في تدبير شأنها بشكل مستقل وبالتالي فإن روح المفهوم القديم للسلطة ظلت حاضرة حتى بعد إقرار النظام الجماعي الحديث. وأفضت هذه الممارسات القديمة للسلطة إلى :
فبركة أعيان جدد عوض منتخبين ممثلين للسكان.
تغليب معيار المحسوبية والولاء على معيار الكفاءة والاستحقاق.
تهميش الكفاءات داخل الإدارات المحلية.
تفشي الرشوة والفضائح المالية.
تراجع روح المواطنة والالتزام السياسي.
ترسيخ اقتصاد الريع.
كل ذلك أدى إلى تعطيل المؤسسة الدستورية وتقليص دورها كمولد للديموقراطية المحلية مما دفع الدولة إلى إعطاء المزيد من الفرص للجماعات المحلية حتى تلعب دورا أكثر فعالية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ودعم مسار اللامركزية الإدارية بإحداث الجهات الإدارية اللامركزية والتي أعطيت لها الاختصاصات القانونية في ميدان التنمية بموجب القانون 96-47 الصادر في 2 أبريل 1997 –
ومع نهاية التسعينيات فتح باب الأمل باستدعاء الأحزاب الديموقراطية للمشاركة في تسيير الشأن العام للدولة، وتجسد ذلك في تشكيل حكومة التناوب الديموقراطي، فدخلت البلاد مرحلة الأوراش الكبرى الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية إلى أن جاء الخطاب الملكي في الدار البيضاء عن المفهوم الجديد للسلطة وإعطاء البعد الاقتصادي والاجتماعي للتدبير المحلي –وإرساء الأسس الجديدة للاتمركز- وإنشاء المراكز الجهوية للاستثمار–وتفويت صلاحيات جديدة لرؤساء الجهات والجماعات –وهيكلة الإدارة الجماعاتية–وفرض نمط الاقتراع باللائحة –ولزوم تعليل القرارات الإدارية.
لكن استمرار أساليب التدبير التحكمي العتيق، ووطأة مركزية سلطوية مطلقة،أحكمت الطوق على السكان والمجال وقاومت المطلب الديموقراطي والحركات الديموقراطية، وهذاما ساعد على استمرار الفشل في العديد من المجالات والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية في اغلب الجماعات والمجالات الترابية، فحال ذلك دون تحقيق شروط التنمية الاجتماعية والاقتصادية في ظل القانون المنظم للجماعات المحلية أو القانون المتعلق بتنظيم الجهات.
أزمة اللامركزية هي أزمة نخب وقيادات

إن من أهم أسباب فشل التجارب المحلية هو عامل النخب المحلية، فالنخب والقيادات المحلية هي اداة من ادوات التحكم في التجربة والتحكم في القرار لكن في تجاربنا وواقعنا وخصوصا في الانتخابات الجماعية المباشرة او انتخابات الغرف والمجالس الاقليمية والجهوية أظهرت لنا هذه التجارب الانتخابية اننا فشلنا في خلق وتكوين قيادات مجتمعية وسياسية محلية قادرة على تحمل اعباء المسؤولية، وقادرة على ان تكون في مستوى الفعالية والجدية، بحيث لم ننجح في إبراز فعاليات محلية وكفاءات تدبيرية تحرك التنمية المحلية، لذا فأزمة الجماعات المحلية هي ازمة قيادات وازمة فاعلين قادرين على إنتاج وابتكار واتخاد قرارات حاسمة، وقادرين على أن يكون لهم مشروع تنموي محلي وجهوي، وقادرين على أن يكون لهم طموح سياسي يساعدهم على التفاوض مع مختلف الشركاء، وقادرين على التأثير في وتيرة حل المشاكل اليومية المحلية، وبالتالي في إدماج المجال المحلي في إطار مشروع تنموي مستقبلي.
إن المشكل الرئيسي الذي يعرفه البلد، هو وجود أزمة نخب وقيادات محلية، وطرف من هذه القيادات المحلية الحالية تتصارع مستعملة المال الحرام، والرشوة والمحسوبية فقط للوصول إلى السلطة والشهرة ومراكز القرار، الشيء الذي لم يؤد إلى تنافسية من أجل المصلحة العامة، أي الوصول إلى السلطة من أجل الحكم أو على الأقل الاستئناس بالحكم والتقرب من الحكم.
إن أزمة اللامركزية هي بالأساس أزمة نخب وأزمة قيادات وهو ما أثر بشكل كبير على وتيرة التنمية، وهو ما يفسر التراجع الذي حصل في ما يخص بناء المشروع المحلي أو الجهوي الذي كان يطمح إليه المغرب منذ بداية التجربة الديموقراطية المحلية في سنة1976.
إن الأحزاب السياسية التي تتحرك هذه الجماعات والنخب المحلية باسمها وفي إطارها توجد اليوم امام مساءلة شعبية قوية من أجل العمل على تنظيف صفوفها من فلول الاحتراف والانتهاز الانتخابي المشين من جهة وعليها أعطاء المثل والقدوة في الانخراط الفعلي العملي الجاد في المشروع الوطني الديموقراطي الحداثي الذي بات الانبتاء الديموقراطي المحلي يشكل إحدى دعائمه الأساسية من جهة أخرى.
وعلى صعيد آخر فإن مسؤولية الأحزاب السياسية في اختيار مترشحين تتوفر فيهم النزاهة المطلوبة والكفاءة الضرورية لتدبير الشأن الجماعي بفعالية ومردودية ونجاعة أمست عظيمة وحاسمة في بلورة التنظيم الجماعي الجيد وإنجاز الإصلاح المؤسساتي الذي بلوره الميثاق الجماعي (محمد الخصاصي)
كما ان على الدولة مسؤولية كبرى لتطوير معارف وخبرات المنتخبين في مجالات البيئة والهندسة المدنية والاقتصاد والقانون والتواصل حتى يكونوا قادرين على تدبير الشأن المحلي بشكل فعال وايجابي وكذلك عبر تكوين وتأهيل اطر وموظفين وتقنيين وملاءمة معارفهم النظرية والتطبيقية مع تطوير حاجيات التدبير العمومي المحلي والجهوي،وانتاج الخدمات العمومية وتنويعها، وتوفير الجودة للمواطنين، واستقطاب المستثمرين الوطنيين والاجانب، وخلق تدبير للشأن العام بطريقة عصرية. ان كل ذلك لا يمكن ان يحصل دون تطوير وتحسين مردودية واداء الموارد البشرية وكفاءات النخب المحلية لانهم مسؤولون سياسيون ومسيرون ومحركون للتنمية المحلية، ومخاطبون اساسيون للدولة، وشركاء اساسيون وهامون في الحقل الاقتصادي والاجتماعي، وعند غياب هذه الحكامة المحلية او ضعفها او انحرافها او فسادها يكون العمل التنموي المحلي والجهوي محدودا وضعيفا.
إذن فالمسؤولية متقاسمة الأطراف بين الدولة من جهة والأحزاب السياسية من جهة أخرى، وهذا هو المأزق الذي وصلنا إليه دون الوصول إلى جهوية عميقة وموسعة … حيث الصراعات الحزبية وتضارب المصالح الشخصية مع المصلحة العامة، فمن له الحق أن يقرر ويشرع ويمول وينفذ؟ ومن ليس له الحق في ذلك؟ هناك تداخل بين الأطراف وتداخل بين الفعاليات وتداخل بين المؤسسات، والمجتمع في حاجة إلى نخب وقيادات محلية يكونون مدبرين يهتمون بمشاكل التنمية ..تنمية العالم القروي وتنمية المدينة وبالتالي عليهم أن يقوموا بدور الحكم ودور المدبر ودور الفاعل الأساسي وصولا إلى ترسيخ مفهوم الجهوية الموسعة. إذن فالمسؤولية متقاسمة بين الطرفين الدولة والأحزاب.
إن على الأحزاب مسؤولية تشجيع وتحفيز النخب والقيادات الجديدة من الجيل الجديد الذين يتوفرون على قدر هام من الكفاءة والفعالية والنزاهة والمسؤولية حتى يكونوا قادرين على إحداث قطيعة حاسمة مع مناهج وأساليب التدبير العشوائي الذي أفرز في أكثر من مكان تجارب جماعية مغشوشة قوامها التحايل على القانون والتلاعب بالمال العام والاستغراق في الفساد والارتشاء.
كما على الدولة مسؤولية خلق نموذج للعمالات والأقاليم تقوم على مرتكزات الجهوية الموسعة وأهدافها وليس إلى رجالات سلطة يعتمدون فقط على تطبيق السلطة، بل رجالات يكونون مدبرين يهتمون بمشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويكونون حلقة أساسية في دعم الديموقراطية المحلية وفي تعاون وانسجام تام مع النخب السياسية المحلية الحاكمة.
إن نجاح العملية السياسية رهين بنجاح العملية الانتخابية ونزاهتها، في أفق التحول الديموقراطي الذي أصبح اليوم منوطا بتضافر عمل ومسؤوليات كل فرقاء التجربة من دولة وأحزاب سياسية وناخبين ومترشحين كل في ميدانه وإطار مسؤولياته، وما أعظمها من مسؤولية، فكما تكون الانتخابات الجماعية يكون مستقبل الديموقراطية المحلية.

الكاتب : ذ. محمد برادة - بتاريخ : 25/11/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *