كيف نكون «علمانيين» و «لا علمانيين» في نفس الآن؟… محاولة في رفعِ سوءفهم
محمد التهامي الحراق
نحتاج في لحظات الاختلاف إلى غير قليل من الهدوء والحكمة، حتى لا يُؤدي ما قد يعتبره المرءُ دفاعا عن الحق إلى هدر الحق؛ وحتى لا يُفضي ما قد يعتبره المرء نهيا عن المنكر إلى منكر آخر. لا مجال للحوار بغير شروط السكينة للإصغاء للآخر، وحُسْنِ الظن به،والاستعدادِ للفهم والتفهُّم والتفاهم؛ والإيمانِ بأن الحقَّ يُتعاونُ على بلوغه،وأنَّ الحقيقة تكمن في مستقبل الحوار لا في منطَلقِه عند طرف دون آخر؛ وهو ما تجملهُ بحكمةٍ قاعدةُ الإمام الشافعي: رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ ورأيُ غيري خطأ يحتملُ الصواب. والسؤال المفتاح لمحاولةِ فهمِ ما ورد في حوارِ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق مع وزير الداخلية الفرنسي من كوننا في المغرب أيضا «علمانيين»، هو: ما الذي يقصدِهُ السيد أحمد التوفيق بمفهوم «العلمانية»؟؟؟
سيكون من غير الإنصافِ نزعُ الكلام من مساقِه الخاص ضمن حوار الوزيرين، وكذا نزعُه من السياق العام، أي من إطارِ عمل الرجل واشتغاله على الشأن الديني وفي مشروع إعادة هيكلته على امتداد عقدين من الزمان. وسيكون قبلَ هذا وذاكَ من غير الإنصافِ نسيانُ أو تناسي ما يطبع مفهومَ «العلمانية» في الفكر العربي المعاصر وسياقاتِ المجتمعات الإسلامية الراهنة من التباسٍ واضطرابٍ وضبابية؛ خصوصا وأن «العلمانيةَ» متعددةُ الحضور التاريخيّ، وتجاربَها مختلفةٌ من حيث الشدةُ والسماحةُ ونمطُ الأجرأة الاجتماعية والقانونية والثقافية داخلَ أوربا نفسها، والتي تُعَدُّ فيها التجربةُ الفرنسية الأكثر تشدّدا و»أرثوذكسية»؛ فضلا عمَّا عرفته العلمانيةُ من استنباتٍ قيصري وتجاربَ مشوهة في المجتمعات العربية.
ولذا، نرى أن السيد الوزير، وفي ضوء المساق الخاص لحواره مع وزير الداخلية الفرنسي، أراد أن يدفع عن المغاربة اتهامَهم بالصدمة عند استماعهم للفظ «العلمانية» بصدمة نظيرة، هي كونُنا نحن المغاربةَ أيضا «علمانيين»؛ صدمةٌ مقابل اتهامٍ بصدمة. لكن لم يكن القصدُ أبدا، كما يدل على ذلك المساقُ الخاص للحوار والسياقُ العام لتاريخ عمل الرجل، القولَ إن المغرب دولةٌ علمانية على الطريقة الفرنسية. فوزيرُ الأوقاف يعلم علم اليقين أن الدستورَ ينص على كون المغرب دولةً إسلامية، وأن الملك هو أمير المومنين، ووزارته واحدة من المؤسسات التي تندرج تحت لواء إمارة المومنين…فكل هذه الحقائق متحصلةٌ ضرورةً في ذهن الوزيرين؛ لكن الأمر الذي أراد أن يدفع به وزيرُ الأوقاف اتهامَ الوزير الفرنسي للمغاربة بالصدمة عند استماعهم لفظ «العلمانية»، هو كونُنا في المغرب «علمانيين» لا من حيث النهجُ الفلسفي أو المذهبُ السياسي أو الاختيارُ الأيديولوجي، وإنما من حيث المقاصدُ الرئيسة والنبيلة المطلوبة من تبني الفرنسيين لـ «العلمانية».
لنقل إنه سعى إلى بيان حقيقةٍ تغيب عن التطرفين العلماني واللاعلماني؛ وهو أننا في المغربِ نطلبُ مقاصدَ العقلانية والديموقراطيةِ وحريةِ التدين وعدم الإكراه على الدين وعدم التدخلِ في الحياة الدينية للأفراد…والتي ترفعها»العلمانية» في فرنسا كقيم منشودةٍ؛ نطلبها في المغرب بالدين لا بإلغاء الدين أو إقصائه. هذا، في نظري، هو المقصد الأسمى المطوي في كلامِ الوزير المغربي؛ والذي تؤكده، في السياق العام، جملةٌ من دروسه الحسنية ومن تدخلاته العلمية والتوجيهية المختلفة على مدار ممارسة الإشراف على الشأن الديني المغربي. وهذاهو ما يميِّز التدينَ المغربي الذي ترعاه مؤسسة إمارة المومنين بـ»الوسطية والاعتدال»، ويؤهّل هذا التدينَ ليحظى «بقبول الجميع» كما جاء على لسان الوزير نفسه.
إن عظمة مؤسسةِ إمارة المومنين في السياق الإسلامي والعالمي الراهن، هو إسهامُها في إنقاذِ الناس من تطرفين كبيرين، أحدهما «علماني» يسعى إلى الاستبعاد الكامل والشامل للإيمان وللدين من الحياة الاجتماعية والثقافية والتاريخية العامة للناس، والثاني «لا علماني» يسعى إلى ممارسة الوصاية الكاملة على حياة الناس باسم فهم معين يعتبر نفسَه الأوحد والأرشدَ والمطلَق للدين. فيما تقدم هذه المؤسسةُ من داخل المرجعية الإسلامية الأصيلة والتجربةِ التاريخية المغربية المتميزة طريقا ثالثا، بموجبها تؤكِّدُ، ومن خلال نقد ضمني مزدوِج للطرفين، على أهميةِ الدين في الحياة الإنسانية المعاصرة، وعلى محورية مرجعيته في الإسهامِ في حل عدد من المعضلات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة مثل معضلات التربية والفقر والهجرة والبيئة وحوار الثقافات والبحث عن مشترك قيمي إنساني…إلخ، (راجع مثلا خطاب أمير المومنين عند استقبال البابا فرنسيس بتاريخ30/03/2019م)، وهي بذلك تناهض بقوةٍ التوجهَ العلماني المتطرف الذي يروم اجتثاثَ الدين من حياةِ المجتمع؛ مثلما تناهضُ الرؤى المتشدِّدَة للدين التي ترفض القبول بالمختلِف العقدي أو تُعادي بشكل أعمى الغربَ والحداثة.
هكذا،تحرص مؤسسةُ إمارة المومنين على حمايةِ مختلِف تلك القيم النبيلة الرئيسة التي ترفع باسمها العلمانيةُ المتطرفة عداوتَها للأديان متذرعةً بالقراءات الانغلاقية والمتشددة للدين، بحيث تؤكد هذه المؤسسةُ على قيم العقلانية والديموقراطية والسماحة والحرية وعدم الإكراه في الدين وحقوق الإنسان….؛ وبذلك تُحْرِج التطرفَ العلماني بإثبات هذه القيم من داخلِ الدين لا بإلغائه، مثلما تُحْرِج التطرفَ الديني باستنباط هذه القيم من داخل المرجعية الإسلامية كتابا وسنة وعمل سلف صالح انطلاقا من رؤية تأصيلية مقاصدية علمية وعميقة. من هنا، فإن هذا الطريق الثالث يصدم كل التطرفات، ويحقق التميزَ المغربي وقدرتَه علَى التحرر من التناقضات. إنه طريق «الأنوار التي لا تتزاحم»، أنوار الدين والحداثة، والذي بسطناه بوضوح في كتابنا: «الأنوار التي لا تتزاحم: من أجل أفق تحريري بالدين لا من الدين»(دار أبي رقراق، الرباط، 2022).
ومما يؤكد ما نذهب إليه إشارةُ السيد وزير الأوقاف إلى أننا لم نعرف في المغرب قانون 1905م؛ أي قانونَ الفصل الحَدّي بين الدين والسياسة أو المجالِ العام؛ ذلك أن تاريخنا لم يعرفْ صراعًا نظيرا لما حصل في أوروبا بين الدينِ والعلم، ولا عرف طبقة كهنوتية تمارسُ الوصاية على العقول والأرواح وتبرر الاستبداد الإقطاعي مثل طبقة الإكليروس؛ بل إن بلاطَ الموحِّدين في المغرب هو من أنجبَ، مثلا،فكرَ الفيلسوفِ أبي الوليد بن رشد الذي كان أحدَ مصادِرِإعادة ترتيب العلاقة بين الإيمان والعقل عند النهوض الأوروبي. ومن ثم، فالمغربُ الحضاري له خلفياتُه التاريخية الخاصة المغايرة جذريا لما جرى في أوربا؛ وإذا كان ما يفهمه الغربيون من العلمانية هو الذهاب نحو العقلانية والعلم والحرية والديموقراطية….فإن المغربَ، بنوع من التجَوُّز في لغة الجدل، «علماني»، لكن ليس على الطريقة الفرنسية التي لها خصوصيتُها التاريخية المختلفة؛بل بمعنى أنه قادرٌ على تحقيق نفس المقاصدِ النبيلة للعلمانية من عقلانية وديموقراطية وحرية وعدم إكراه على الدين وحماية لحقوق الإنسان….إلخ، لكن من داخل الدينِ وباسمِه لا بإلغائه أو إقصائه، وهذا ما نسميه بلغتِنَا «اعتدالا ووسطية». «نعم» إنه علماني من حيث تلك المقاصد والقيم الإيجابية المنشودة، و»لا» علماني من حيث الإيديولوجية الرافضة للدين ولقيمه والمستأصِلةُ لكل أشكال حضوره في الحياة والمجتمع. إنها «جدليةُ نعم ولا» التي نعثُر على روحها في ذاك الحوارِ الشهير الذي جرى في مغرب الموحِّدين بين شارح أرسطو الأكبر ابنِ رشد والشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي؛وهي الجدلية الخلَّاقة التي لا يمكن أن يستوعبَها المتعصبون من كل الاتجاهات.ولكونِ مصطلح «العلمانية» غارقا في الالتباس وموضوعَ تنازعات إيديولوجية، فقد أثار ويثير ألوانًا من سوء الفهم لدى مختلِف الأطراف؛ حتى أن المرحوم محمد عابد الجابري كان قاد اقترح، وبسبب ذلك، الاستغناءَ عنه باستعمال لفظي «العقلانية والديموقراطية».
إجمالا، ليس المقصودُ من هذا المقال الاصطفافَ مع فريقٍ ضد آخر، ولا إساءة الظنِّ بجميع المنتقِدين، وإنما المقصودُ الإسهام في رفع سوء فهم نراه موضوعيا، بحكم ما يصحب اصطلاحَ العلمانية، في سياق فكرنا الإسلامي المعاصر، من لغط والتباس. كما أن من أعز ما يطلبهُ مقالُنا العملَ من أجل إضاءة أمرٍ رئيس؛وهو بيانُ تميُّزِ الاختيار المغربي العميقِ الذي تمثله في سياقنا العالمي الراهن مؤسسةُ إمارة المومنين، والذي يتبرمُ من كل الأطراف المتطرفةِ حين يثبتُ الدستورُ أن المغربَ «دولة إسلامية»، وأن الملك هو «أمير المومنين» والمسؤول عن «حماية الملة والدين»، ويؤكد في نفس الوقت على الخيارِ الديموقراطي وعلى دورِ هذه المؤسسة في صيانةِ حريةِ التدين وممارسةِ الشعائر وحمايةِ أماكن عبادة كل أتباع الديانات السماوية وعدم الإكراهِ على الدين. بعبارة، إن من أبرز معالم فرادةِ هذه المؤسسة شرعيتَها الروحية والاجتماعية؛أي شرعية الانتماء إلى بيت النبوة، وشرعية البيعة بما هي تعاقد اجتماعي لا بما هي حقٌّ إلهي، بخلافما ساد في الحكم التيوقراطي القروسطي بأوربا؛ ثم إن من أبرز معالم فرادة هذه المؤسسةِ كذلك قدرتُها الاستثنائية على المواشجة بين حقوق الدين وحقوق المواطنة، وهو ما يبدو مستغرَبا وموضوعَ صدمةٍ لدى الطرفين الديني واللاديني على السواء. على أن المغرب بهذا الأفق المتفرّد يضمن، من جهةٍ، أمنه الروحي؛ مثلما يحقق، من جهة ثانية، إشعاعَ نموذجه التديني عالميا، ويجعله، من جهة ثالثة، قادرًا على أن يُسْهم في تقديمِ حلولٍ عملية لإشكالية علاقة الدين بالسياسة والاجتماع التي يتخبط فيها المسلمون في الديار الغربية ذات «السياقات المُعَقَّدة» كما أشار إلى ذلك وزير الأوقاف المغربي في حواره الخاص مع الوزير الفرنسي. وهو ما يحتاج إلى تعميقٍ وبيان في حوارات موعودة بين الوزيرين.
تبقى إشارة أخيرة، هي أن سؤال «العلمانية والدين في السياق المعاصر» سؤال روحاني ومعرفي متلاطم المناحي متعدد الأبعاد، وليس من قبيلِ القضايا التي تبتذلها التنازعات الإيديولوجية المتسرعة الغضبى والعابرة، أو الرؤى الحدّية والإمِّيَّة التي يعتقلها اختزال الألوانِ في الأبيض والأسود؛ فيما «الوسطية والاعتدال» هي القدرةُ على اكتشاف الألوان، واستشفاف مناطق «الأنوار»؛ حيث الأنوار قط لا تتزاحم.
الكاتب : محمد التهامي الحراق - بتاريخ : 30/11/2024