مؤتمر تكريس الممارسة الحداثية بنفس ديمقراطي عميق
حسن السوسي
اسمحوا لي، قرائي الأعزاء، أن تكون مقالتي لهذا الأسبوع عبارة عن رسالة امتنان للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لمنحي الفرصة التاريخية للمشاركة في أعمال المؤتمر الوطني العاشر الذي هو مؤتمر تاريخي بامتياز. ولست أخفيكم مشاعر الفرحة والهيبة وبعض الخوف التي تتقاذفني وأنا أشارك في المؤتمر الذي لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن أشارك فيه، لأسباب عديدة، لكل واحد منكم أن يتخيلها، كما يشاء، لأنها صحيحة كلها أو جلها أو بعضها بحسب قراءاتكم للحدث وزوايا نظركم إلى العمل السياسي والحزبي في بلادنا في هذه الظروف بالذات. لذلك أود أن أقول، لنفسي ولعدد من رفاقي الذين يشاطرونني الموقف، قبلكم، ولكم قبل غيركم، من متابعي المؤتمر ونتائجه، أصدقاء كانوا للاتحاد الاشتراكي للقوت الشعبية، أو خصوما وأعداء حتى، أود أن أقول ما يلي: إنني لم آت إليه لأعلن انتمائي إلى عقيدة جديدة، تجب ما قبلها، وإنما لأؤكد انخراطي في مدرسة التغيير السياسي القادر على استيعاب تجارب المنخرطين فيها، الفردية والجماعية، بإخفاقاتها، وهي كثيرة، ونجاحاتها وهي نوعية وكثيرة، مكنت هذه التجربة النضالية من الصمود في وجه أكثر من إعصار واجهته ، كما ليس خافيا عليكم، باعتبارها عامل إثراء وغنى للأفراد وللمدرسة معا.
ولأن الأمر كذلك، فلا ينبغي الاعتقاد بأن هذا الانخراط تنكر لتجربتي الخاصة، في العمل السياسي، التي استمرت بطرق مختلفة ما يقرب من خمسة وأربعين عاما، بشكل تنظيمي صريح ومباشر، أو بشكل انتماء عام غير مباشر، ليس فيه للتنظيم أي نصيب، عرفت فترات اصطفاف خارج معادلات الحكومات والدولة، كما عرفت فترات اصطفاف إلى جانب الدولة المغربية في قضايا الوطن الحيوية، بدءا من قضايا استكمال الوحدة التربية وتحصينها، مرورا بقضايا الإصلاح الكبرى في مختلف المجالات المرتبطة ببناء الديمقراطية على أسس متقدمة كما كرس ذلك دستور عام 2011 وأن هذه الاستمرارية، هي التي أرى أنها في قاعدة هذا التطور في مجال الممارسة، رغم كل ما يمكن أن توحي به من قطائع أو تمرد، على هذا المستوى أو ذاك، على اعتبار أن منطق القطائع يضمر، في كثير من الأحيان، بعد المحافظة، وهو منطق لم أكن قط، من دعاته في كل ما يتعلق بالممارسة السياسية، وفِي القواعد التي تؤطرها على حد سواء. وذلك لسبب بسيط هو كوني أرفض أن أحاكم في تصوري الفكري ونظرتي إلى الممارسة السياسية، بمنطق بدايات انخراطي في هذين المجالين، مطلع سبعينيات القرن الماضي، لأنني أرفض ببساطة، لنفسي ولغيري، منطق الجمود الفكري والدوغمائية النظرية الذي يحاول الإيحاء بأن كل شيء قد ولد مكتملا، خلال تلك الفترة، وأن أبواب الاجتهاد الفكري والنظري قد أغلقت، وأن الحقائق هي التي صاغها حراس معبد النظرية والممارسة في ذلك الوقت بالذات، وهم ليسوا، في واقع الأمر، غير محاكين لمن سبقوهم، في هذا المضمار، والذين جعلوا من الدوغما الجامدة ارقي أشكال الحركة والتطور بدل العمل على اكتساحها بالحركة والتطور، لنبذ الميت فيها، وإعلاء شأن الحي داخلها، شأن النظرية المرتبطة بالممارسة، وليس تقديس الدوغما المرتبطة بممارسة هي من الماضي، لأنها وليدته، في الجوهر، حتى وإن التبس أمر بعض أبعادها علينا جميعا. لقد آلمني، خلال السنوات الأخيرة، ما تعرض له اليسار الوطني الديمقراطي المغربي الفاعل من حملات سياسية مغرضة، من اتجاهات متعددة في آن واحد، الأمر الذي اضطره إلى حشر نفسه، ضمن زوايا الدفاع السلبي من منطلق إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بدل المبادرة من منطلق الإسهام الدائم، من خلال الاقتراح، والممارسة العملية، في بناء ديمقراطيتنا المغربية على أسس حداثة ديمقراطية ديناميكية في تعاطيها مع مختلف قضايا الوطن. ولست أخفي، هنا، أن أشد ما آلم كل المهتمين بالحقل السياسي المغربي، في بعده الديمقراطي الحداثي واليساري، ليس حملات خصوم الديمقراطية والحداثة واليسار، لأن ذلك من طبيعة الأشياء، وليس هناك أي داعٍ لاستغرابه، أو التألم عند معاينته، هنا أو هناك، وإنما حملات المنتمين مبدئيا إلى الفكر الديمقراطي الحداثي اليساري، خاصة منهم من اعتبروا أنفسهم منخرطين عضويا في مدرسة الاتحاد وهياكله التنظيمية، لهذا السبب أو ذاك. والحال، أنه لم تجتمع الظروف الملائمة لهذا الفكر الديمقراطي الحداثي، في أي وقت مضى، في تاريخ المغرب المعاصر، مثل ما هو عليه الأمر في الوقت الراهن، حيث أصبح هذا التوجه ضمن أولويات الدولة وعلى رأسها جلالة الملك محمد السادس، الأمر الذي يفرض على مختلف مكونات الحقل السياسي التي تشاطر هذا التوجه ،الحرص على تحويل ممارساتها إلى مهماز حقيقي في مجال الدفع به إلى أبعد ما يمكن، اتساعا وعمقا وشمولية، لقطع الطريق أمام مناهضي التقدم الديمقراطي والإصلاح السياسي في بلادنا، المعلنين بتوجهاتهم المحافظة الغارقة في التخلف الايديولوجي والسياسي، والموضوعيين الذين يعلون من شأن الجملة الثورية ويمتهنون المماحكة اللفظية، لتبخيس الممارسة السياسية لمجمل القوى الحية من أي موقع كانت، في قمة هرم السلطة السياسية أو العمل الحزبي الديمقراطي الحداثي اليساري معا. ورفعا لكل لَبْس والتباس فلست من الذين يؤاخذون من لديهم آراء أو مواقف نقدية أو معارضة لتوجهات هذه القيادة أو تلك على التعبير عن آرائهم بوضوح ودون مواربة، وإنما لست لأشاطر المنتقدين الاكتفاء بالنقد دون تقديم بدائل ممكنة، وقادرة على تفعيل الممارسة الحزبية وتطويرها على المستويات النظرية والسياسية. كيف ذلك؟ وما مقياس الحسم في التمييز بين ما هو بديل ممكن وما ليس ممكنا؟ هذا سؤال مشروع تماما. وجوابه، في رأيي واضح تماما. وله مشروعيته التي لا غبار عليها: إن مقياس التمييز هو موقف أعضاء الحزب المخولين تنظيميا وسياسيا وأخلاقيا، أي ببساطة هيئاته المقررة بدءا بالمؤتمر، وانتهاء بمختلف الهيئات القيادية المركزية المنتخبة بين مؤتمر وآخر. والمؤتمر، هو مجال بلورة مثل هذه البدائل، أو إطلاق فكرتها على أقل تقدير، وتمكينها من النضج لتستقطب اهتمام المؤتمر المقبل الذي قد يحولها إلى أطروحة الحزب التوجيهية على مختلف واجهات الممارسة متى حظيت بقبول المؤتمر الذي هو سيد نفسه. إن هذا لا ينبع من ضرورة التشبث بالمنهجية الديمقراطية في شكلياتها التنظيمية، كما قد يرى البعض، بل هو من صميم الديمقراطية في أبعادها النظرية والعملية، من حيث تقديم رأي الذات الحزبية الجماعية على رأي الفرد رغم أن الفرد المواطن بالذات هو المعني لأنه مناط الممارسة السياسية في مختلف أبعادها.
قد يعترض البعض على هذا القول انطلاقا من فكرة ضرورة ممارسة النقد الذاتي، لكن أين يتعارض ومتى تعارض الالتزام بمبادئ وقواعد عمل السياسي المنظم مع مبدأ النقد الذاتي؟ لقد اقترن، على الدوام، في الخطاب السياسي التنظيمي الماركسي، مفهوم النقد بمفهوم النقد الذاتي. فماذا يعني هذا الاقتران وكيف يمكن تفعيل هذين المفهومين في الممارسة السياسية اليسارية اليوم؟ إن هذا الاقتران والتلازم يعني أن النقد ليس على الدوام باتجاه الخارج وإنما ينبغي أن يتوجه إلى الداخل أي إلى الذات التي ينبغي عليها أن تستحضر، عند القيام بأي عمل تقييمي للممارسة السياسية، هذين البعدين أو الشقين في هذه المعادلة الواحدة.
إن القيام بالعمل النقدي أو الفحص الشامل لأي ممارسة ينطوي على أبعاد موضوعية وذاتية على اعتبار أن العملية النقدية لن تكون ذات مصداقية ما لم تكن قادرة على تناول مختلف جوانب الممارسة أو المسألة المطروحة على جدول الأعمال. غير أن معاينة مجمل قادة العمل السياسي لطبيعة الممارسة ورجحان كفة النقد الموجه إلى الخارج مقارنة بكفة النقد الموجه إلى الداخل سواء الذات الفردية أو الجماعية هو الذي دفع بمنظري الممارسة إلى التأكيد الملموس على ما هو مضمر في عملية النقد بالحديث عن النقد الذاتي.
إن النقد الذاتي لا يكتمل إلا إذا اقترن بفكرة التجاوز لأن عملية النقد قصدية بالتأكيد، سواء كان النقد الذاتي صريحا في شكل: أخطأنا التقدير هنا، وجانبنا الصواب بالنسبة لهذا الموقف أو ذاك، أو كان علينا أن نتخذ هذا الموقف في ظروف تميزت بهذه المواصفات أو تلك. وقد يكون غير مباشر من خلال التوجه رأسا إلى صياغة أفكار تجاوز ممارسات خاطئة في الماضي، لأن العبرة، في نهاية المطاف، في تصحيح المسار وليس في مجرد الإعلان عن الخطأ أو عدم الدقة في هذا الموقف أو ذاك. وهل هناك مكان مناسب أكثر لمثل هذا النقد الذاتي المباشر أو الضمني من المؤتمر الوطني؟ أعتقد أنه هو المكان الملائم، دون أن يعني هذا حصر القيام بالمراجعات الضرورية في مجال الممارسة في المؤتمر لأن هذا يعني منع الحزب من تصحيح الأخطاء وتدقيق المواقف خلال الفترات بين مؤتمر وآخر. وهذا هو المعنى الجوهري لانتخاب الهيئات القيادية التي تتولى أمور التدبير والتفاعل مع الأحداث والمستجدات، في ضوء تفويض المؤتمر لها وعلى أساس ممارساتها تلك تكون محاسبتها تثمينا أو سلبا مع اتخاذ القرارات التي يقتضيها الأمر في الحالتين معا.
إنني لست هنا لألقن ايا كان، أي درس كان، لأن انخراطي في هذه المدرسة ، تعبير مني عن الرغبة في التعلم منكم جميعا، شبابكم قبل مجايلي منكم ممن بنوا هذه المدرسة بجهودهم وتفانيهم، وسأحاول أن أتعلم خارج كل ضجيج القول كمنصت دائم لأن كل شيء يبدأ بالإنصات باعتباره شرط الاستيعاب والتملك قبل الخوض في أي عمل إبداعي في مختلف مجالات الفعل الإنساني وفِي مقدمته العمل السياسي، حيث يستحيل على من لا يحسن الإنصات أن يحسن في مجالات الاقتراح والفعل، فأحرى القدرة على التدبير واستشراف المستقبل.
الكاتب : حسن السوسي - بتاريخ : 24/05/2017