مخاطر التيئيس وضرورة الحوار

عبد السلام الرجواني
بعد فشل التناوب الأول والتناوب الثاني، وإن اختلفا من حيث السياق والقيادة والانجاز، في تحقيق الانتقال الديمقراطي في منتهى التمام والكمال الذي يحلم به العامة، وفي تحقيق التنمية المستدامة والعادلة في صيغتها الحالمة، عاش المجتمع السياسي والمشهد الإجتماعي حالة لبس والتباس على مستوى الخطاب والممارسة، بدءا بالتشكيل الحكومي والبرنامج الاقتصادي الإجتماعي، وانتهاء بالتموقف من الحركات الاحتجاجية وتداعياتها السياسية والاقتصادية.
فكانت السياسة أول ضحايا هذا الالتباس، إذ استهدفت الأحزاب السياسية في مصداقيتها، والنخبة المثقفة في نزاهتها، وساد خطاب شعبوي تيئيسي يبخس الدولة ومؤسساتها كافة، ويمجد الغوغائية والفوضى في النفوس والأدمغة، وبعدها في المجتمع، معتمدا لغة التشكيك في كل مبادرة إيجابية من خلال الإشاعة الكاذبة والمعلومة المغلوطة والخبر الزائف.
ومما لا شك فيه أن الاستثمار الفظيع لتكنولوجيا الاتصال الحديثة واحتلال العالم الأزرق من قبل دعاة النكوص والارتداد الحضاري وكل من سولت له نفسه أن يخرج من جحره ليصير مناضلا وزعيما في زمن ضاعت فيه قيم النضال واستبيحت الزعامة من قبل جبناء الأمس، فضلا عن صمت المثقفين، وأعطاب العمل السياسي التقدمي، وعجز الأحزاب السياسية الحقة عن استيعاب التحولات العميقة للمجتمع المغربي ومحيطة الدولي، وإخفاق حكومات ما بعد التناوب في التقدم خطوة واحدة نحو رسم ملامح مشروع تنموي واعد، وإمعانها، بدل ذلك في ضرب القدرة الشرائية للمواطنين، لا شك أنها عوامل تساعد الاتجاهات الشعبوية، المنظمة والعفوية، على خلق رأي عام مناوئ للطبقة السياسية ولمؤسسات الدولة، رأي عام هلامي، غير منظم، وبالتالي غير قادر على الفعل البناء المنتج لبدائل واقعية ولحركة اجتماعية واعية بذاتها اهدافا ومسارات ووسائل، غايتها إنقاد الوطن من مآزقه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إن هي تفاقمت ستؤدي حتما إلى مأزق سياسي لن يقدر الجميع على تقدير مخاطره، فبالأحرى تجاوزه.
وقد يكون ذلك ما يسعى إليه دعاة التيئيس المتعدد الألوان والصفات والخلفيات والرهانات، والذين وجدوا في الأمية الفكرية وتخلف الوعي السياسي تربة ملائمة للتنامي والانتشار.
وحتى لا تؤول وجهة النظر هذه تأويلا خاطئا أو مغرضا، لابأس من تقديم التوضيحات التالية:
1 – الحق في الاحتجاج السلمي حق مشروع غير قابل للنقض أو المصادرة، شريطة احترام القانون وعدم المس بسلامة الآخر وحريته وممتلكاته، ودون تهديد استقرار الوطن وأمن المجتمع، وعلى أساس أن يكون الاحتجاج آلية لمباشرة حوار مسؤول حول الأوضاع التي دعت إلى الاحتجاج. أما أن يتحول الإحتجاج إلى ما يشبه العصيان المدني، ومبررا لتجاوز القانون، ومناسبة لتبخيس كل المؤسسات الدستورية، ففي ذلك ما يدعو إلى التشكيك في نوايا من يمسك بخيوط الحراك، مستغلا سخط الناس وتذمرهم إزاء أوضاع اجتماعية واقتصادية متردية أو بسبب أحداث مأساوية أودت بحياة أبرياء.
2 – الحق في التعبير يكفله الدستور ويزكيه الواقع، بحيث يعد المغرب من البلدان الأكثر احتراما لحرية التعبير في المنطقة العربية الافريقية. لكن من الجدير التساؤل عن الفرق بين حرية التعبير وحرية التعيير.
من المؤسف أن يفهم البعض أن حرية التعبير تعني اختلاق الوقائع وفبركة الصور والمواقف والتشهير بأعراض الناس وتبخيس كل ما هو جميل وترهيب من يعبر عن رأي مخالف وتخوين من لا يتبنى موقف زعماء الفيسبوك.
3 – لا حق لأي حزب أو جماعة أو مجموعة ان تدعي احتكار تمثيلية الشعب والحديث باسمه، ولا ننكر تمثيليتها الجزئية طبعا.
معناه أن الشعب نفسه منقسم حول مختلف القضايا ويحمل رؤى وتصورات مختلفة عن الأشياء كلها، ويتبنى مقاربات متناقضة للتعاطي مع مختلف الإشكالات.
فهناك المحافط والرجعي والثوري والعدمي والإصلاحي، وهناك الديمقراطي والتسلطي والفوضوي، وهناك الاشتراكي والليبرالي والإسلامي والعلماني. هي تعددية سياسية وفكرية تجد جذورها العميقة في التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي للمغرب المتعدد الروافد الإثنية والدينية.
ولا يخفى على أحد أن هذه التعددية شرط رئيسئ وحاسم لتحقق الديمقراطية، بينما يشكل التوافق الوطني حول نظام الحكم والمشروع التنموي والتوجهات الكبرى للدولة، من خلال دستور يحدد الثوابت ويثمن المشترك وينظم الاختلاف، الشرط الثاني لدمقرطة الدولة والمجتمع.
إن إشاعة اليأس بين الناس من خلال استراتيجية التشكيك في المؤسسات، ومحاربة الرأسمال الوطني قصد تأزيم الأوضاع وخلق «الشرط الثوري» و«ظروف القومة»، تكتيك لن يؤدي في نهاية المطاف سوى إلى تعطيل البناء الديمقراطي البطيء أصلا لأسباب ثقافية وسياسية يضيق المجال لبسطها في هذه المقالة. غير أنه لا بد من الإشارة أن صمت المثقفين وانشغالهم بذواتهم، وانقسامات اليسار، وتهاون الأحزاب في النهوض بأدوارها وفق استراتيجيات عمل دائمة ومستدامة، قد ساعدت، موضوعيا على انتشار ثقافة اليأس التي لن تؤدي إلا إلى انسداد الآفاق وضياع الأمل في الإصلاح، وفي ذلك تهديد للوطن.
لذلك أعتقد اننا بحاجة إلى حوار وطني شامل حول مغرب اليوم والغد، تشارك فيه كل القوى الحية، وترعاه شخصيات وطنية من مختلف التوجهات، وتدعمه مؤسسات دولتية مؤهلة، حوار حول قضايا الوطن الكبرى: الوحدة الترابية، النموذج التنموي الجديد، الإصلاح الدستوري في أفق إرساء دعائم الملكية البرلمانية..
الكاتب : عبد السلام الرجواني - بتاريخ : 09/07/2018