مدن تشبه ساكنتها؟

خديجة مشتري

يتشابه الإنسان مع الكثير من الأشياء والكائنات التي تتقاسم معه هذا الجزء الصغير من الكون، فهو قد يشبه ملامح جاره أو طباع صديقه وقد تشبه طريقه عيشه تلك التي يتبعها شخص آخر في الجانب الآخر من الأرض، أو قد يتشابه حتى مع قطه الأليف، لمَ لا؟ ولكن هل يمكن أن يشبه المدينة التي يعيش فيها؟
هناك مقولة شهيرة حول وجود أربعين شبيهًا لكل شخص، يخلقهم الله متشابهين في الملامح وربما حتى في العادات والطباع، فهل يمكن أن تكون المدن ضمن هذا الرقم الأربعين؟
مثلًا: هل الساكن في الدار البيضاء يشبه مدينته؟
هل أثرت فيه سرعة الحياة بها؟ نزقها؟ توحشها؟ غضبها؟ ضجيجها؟ فوضى أزقتها؟ ليصبح كائنًا «بيضاويًا» يسري عليه ما يسري على الدار البيضاء مما سبق ذكره؟
هل الإنسان الفاسي يشبه مدينته العريقة؟
هل أثّر فيه تاريخها؟ عراقتها؟ طبخها؟ عمارتها؟ مهارة صُناعها؟ روائح ماء الزهر في دروبها المتاخمة لضريح مولاي إدريس؟ ليصبح كائنًا فاسيا رقيقا، فنانا، تنطبع على ملامحه صورة مدينته، ويسري في شرايينه عبق نسائمها، كما يسري نهر بين أزقتها؟
هل الرباطي يشبه مدينته الجميلة الراقية؟
هل أثّر فيه هدوؤها؟ رتابة الحياة فيها؟ غموض أسوارها؟ لا مبالاة رقراقها؟
هل يخفي ذلك الكائن ذو ربطة العنق الأنيقة، الذي نصادفه في شوارعها النظيفة، قبعة أخرى يعتمرها حين يتخلص من رقابتها ومن عينها الثاقبة ونرجسيتها الناعمة؟
وهل المراكشي يشبه مدينته الحمراء ؟
هل أثر فيه وهجها وروح التاريخ فيها، حيويتها ونشاطها ومرحها، بهجتها المعدية، انفتاحها على كل الثقافات وحبها لضيوفها المتدفقين عليها من كل الأقطار ؟ ألا يعتبر المراكشي مثالا حيا لتلك المدن التي تضع بصمتها على ساكنها لا تفارقه إلى الأبد؟
وهل يمكن لمدينة أن تنقل بؤسها لينطبع على ملامح سكانها؟
ألا تُسكِن مدينة أزمور مثلًا في ساكنها الإحساس باليأس والعجز واللامبالاة؟
ألا تدفعه العشوائية الظاهرة في كل زاوية من زواياها إلى حدود الضياع؟
ألا يجره نهرها الساكن إلى حواف الجنون المطبوع على صفحته، بعد أن كان في ما مضى حاملًا للأمل والخصب والحياة؟
ألا يوسوس له سورها القديم، الذي يسند عليه ظهره كل صباح ومساء، بأنه لا شيء جميل في هذا الكون الواسع، لذا لا داعي للحلم؟
ألا تتوقف مدينة أزمور، بأيامها المملة، عند محطة توقف لا سير بعدها؟
تماما مثل محطة قطارها: «محطة توقف أزمور». وكأن لسان حالها يقول:
«هذا قدرك: التوقف عند نقطة اللا ذهاب، اللا تنمية، واللا شيء».
كل شيء متوقف في هذه المدينة.
كل شيء مائل إلى الرمادي.
كل شيء باهت.
حتى نهرها الملوث، ملامح أهلها، هندامهم، خطوط وجوههم الغائرة التي حُفرت عليها آمالهم المجهضة.
وجوه مستكينة لألم دفين يحفر بقسوة في أعماق ذواتهم، ويمحو شيئًا فشيئًا ما كان فيها من جمال وحبّ حياة.
أين عراقة أزمور وتاريخها ؟
أين نورها المختفي وراء ستار سميك معتم ؟
أين ألوانها المخلدة إلى الأبد في لوحات فنانيها، وفي مناديلها المطرزة بأنامل صانعات بارعات يصارعن الاندثار ويحرسن «السبع» الساكن فوق أثوابهن كما يحرس أسد عرينه؟
لماذا سقطت هذه المدينة العريقة في غياهب النسيان سقوطا غير مدوي ولا سمع به أحد ؟
لماذا ذهبت حضارتها ورحلت مع وصول ريح البداوة المعششة في أركانها ؟
لماذا أصبحت تشبه إلى هذه الدرجة سكانها أو لماذا أصبح سكانها يشبهونها ؟
لماذا لا تستعيد ألوانها، أزمور التي كانت حاضرة المحيط ومصب النهر الخالد ، أزمور التي انطلق منها مصطفى الزموري ليكتشف العالم الجديد، لماذا لا نعيد اكتشافها وننفض الغبار عن جمالها ؟
ذلك الجمال المتواري خلف قناع جامد، لا تراه ولكن تشعر به، جمال يطل خجولا مثل «القمر الأحمر»…
جمال في وجه طفلة تفاجئك بابتسامة عابرة
في قوس قزح يرسل تحية صباحية بعد سبات عميق طال أمده
في خضرة ترابها بعد قطرات مطر حانية
جمال في زرقة «ربيعها» رغم نسبة التلوث الغارق فيها
في مراكبها وهي تطوف بزائر أتعبه السفر رغم الرياح غير المواتية…
جمال مهضوم منهزم ولكنه يصارع الزمن المتوقف عل القطار السائر ينتبه !

الكاتب : خديجة مشتري - بتاريخ : 23/11/2024