مغرب ما بعد «كوفيد-19» !
اسماعيل الحلوتي
أيام عصيبة وغير مسبوقة هي هذه التي يمر بها العالم منذ حلول السنة الميلادية الجديدة 2020، أمام مخلوق تستحيل رؤيته دون مجهر، وهو ما يطلق عليه فيروس كورونا المستجد أو «كوفيد -19»، الذي يتحدث الكثيرون عن تطوره وسبل الوقاية منه دون التمكن من إيقاف زحفه السريع، حتى بات يشكل تحديا وجوديا حقيقيا، إذ وقف أمامه العلماء والباحثون من مختلف البقاع والأصقاع عاجزين عن صناعة لقاح مضاد يخلص الإنسانية من بطشه. حيث لم يترك قارة إلا واجتاحها وعبث بآلاف الأرواح من شعوبها بغير تمييز بين الدول والأشخاص والديانات.
فالجائحة أرعبت الناس وشغلت بالهم وغيرت أنماط عيشهم، إذ صار المغاربة على غير عادتهم يولون النظافة اهتماما خاصا، ويحرصون جدا على تتبع النشرات الإخبارية بالقنوات الوطنية، يضعون أيديهم على قلوبهم وهم يترقبون مساء كل يوم ندوة مدير الأوبئة لمعرفة المزيد من مستجدات الحالة الوبائية بالبلاد فيما يخص أعداد الإصابات والوفيات، التي أرهقتهم لغتها متضرعين إلى الله أن يرفع عنهم هذا البلاء، والخروج من أتون المعركة بأقل الأضرار والخسائر، أكثر قوة وتماسكا من ذي قبل …
فالمغاربة الذين أبانوا عن أصالة معدنهم على مستوى التضامن ومؤازرة الفئات الهشة والمعوزة، والتزامهم بحالة الطوارئ والحجر الصحي الشامل وقواعد النظافة والسلامة، لم يستسلموا في أي لحظة أمام تساقط موتاهم بمن فيهم شهداء الواجب من الأطباء، لإيمانهم الراسخ بقدرتهم على إزاحة هذا الكابوس الرهيب والمؤرق. معتبرين «كوفيد 19» محكا حقيقيا للقائمين على الشأن العام في مراجعة سياساتهم، والشروع فور التعافي في بناء مغرب جديد ومغاير لما كان عليه في العقود الماضية، مغرب ديمقراطي حداثي يتسع لجميع أبنائه، بمرتكزات حديثة ومتينة، تيسر العبور نحو تقارب بين المواطن والسلطات، باعتبار أن ما يوحدهما أكثر مما يفرقهما، كما أكدت على ذلك هذه التجربة المرة التي ستظل تبعاتها قائمة إلى حين، وتستدعي المزيد من التلاحم والتعاضد لمواجهة المصير المشترك، بحس وطني صادق وروح المسؤولية، بعيدا عن المشاحنات وتبادل الاتهامات.
ذلك أن المغرب الذي شهد له العالم أجمع بتفاعله الإيجابي والسريع مع الأزمة الصحية الخطيرة، من خلال اتخاذه سلسلة من التدابير الاحترازية والاستباقية والوقائية، وأشاد بالمبادرة الملكية السامية المتمثلة في إحداث صندوق خاص بتدبير ومواجهة تداعيات الجائحة الاقتصادية والاجتماعية، ساهم في التخفيف من معاناة الأسر الفقيرة والمعوزة والكثير من الجهات المتضررة، سيكون لا محالة قادرا على رفع التحديات التي تفرضها حساسية المرحلة، إذا ما توافرت نفس الإرادة والإصرار لدى المغاربة على كسب رهانات المستقبل، لاسيما أن الجائحة كشفت عن عديد الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والبيئية والمجالية، وعرت بالأساس عن الواقع الأليم لمنظومتي الصحة والتعليم، اللتين تعانيان كثيرا من مشاكل عويصة على مدى سنوات طوال.
من هنا يمكن اعتبار «كوفيد -19» دافعا قويا للانكباب الجاد على معالجة الملفات العالقة والحارقة، التي ينبغي أن تجعل من المواطن قطب الرحى في السياسات العمومية، وفرض المزيد من الحزم في محاربة مختلف مظاهر الفساد والريع، والقطع مع كل أشكال الاستهتار بالمسؤولية والتلاعب بمصالحه. تنزيل مقتضيات الدستور وخاصة منها الحكامة الجيدة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسية، تقوية المؤسسة القضائية والارتقاء بأدائها وحماية استقلاليتها. تطوير المجال الرقمي كركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية، وتقديم الأجوبة الشافية للأسئلة المطروحة بحدة وإيجاد المخارج السليمة من أصعب المآزق، مما يستدعي تعميق النقاش والدراسة في اتجاه إعادة بناء مغرب جديد على أسس متينة وسليمة.
ولهذا تقتضي الضرورة أن تعمل اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد تصور متكامل لنموذج تنموي يستجيب لانتظارات الشعب، على استغلال الفرصة في استخلاص العبرة انطلاقا مما طفا على السطح من معطيات ومطبات، خاصة ما يرتبط منها بملف الصحة وما يشوبه من نقائص على مستوى الخصاص المهول في الأطر الطبية وضعف البنية التحتية من مؤسسات استشفائية وتجهيزات لوجيستية. وما يتطلبه ملف التعليم من معالجة دقيقة لتجويد خدماته وربطه بسوق الشغل، سيما أن تردي أوضاعه يرهن مستقبل الأجيال الصاعدة، كما تشهد بذلك التقارير الدولية حول تدني مؤشر التنمية البشرية، وما يترتب عن ذلك من ثقل الفاتورة السياسية والثقافية والاجتماعية…
فالمرحلة القادمة تستلزم بلورة نموذج تنموي ديناميكي ومستدام يواكب التحولات الوطنية والدولية، وأن تهيأ لها السبل والوسائل الجديرة بتحقيق معدل تنمية يضمن تكافؤ الفرص وتكريس قيم التضامن في المجتمع، تفعيل دور الجهوية المتقدمة في تحقيق العدالة المجالية وتوفير آليات خلق الثروة والسهر على توزيع عادل لثمار التنمية بين جميع الجهات، للحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتقليص معدلات الفقر والأمية والبطالة والتهميش. نموذج تنموي يكون بإمكانه تجسيد آمال وأحلام المغاربة، يضع في صلب اهتماماته قضايا الشباب وطبقة وسطى مواطنة، ترسيخ أسس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ويرفع المواطن إلى درجة العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية…
إن بلادنا أحوج ما تكون اليوم إلى إعادة ترتيب الأولويات وإيلاء الأهمية للقطاعات الاجتماعية، بما يتطلب ذلك من مسؤولية وواقعية، ولن يتأتى ذلك إلا بإعطاء الحياة السياسية نفسا جديدا يخرجها من رتابتها، ووجود كفاءات تأخذ على عاتقها مسألة التكفل بابتكار أنجع الحلول لمعضلات الصحة والتعليم والبطالة والأمن الغذائي، دون إغفال إشراك المواطنين في التنمية، ومد الجسور بينهم والمؤسسات وإعادة الثقة فيما بينهما…
الكاتب : اسماعيل الحلوتي - بتاريخ : 14/05/2020