ملاحظات نقدية حول « أيديولوجيا الكسل »
عصام نكادي
في الفيلم الشهير للمخرج السويسري barbet schroeder « barfly»؛ وهو عبارة عن سيرة شبه ذاتية عن الروائي والشاعر الامريكي ذي الأصول الألمانية تشارلز بوكوفسكي، يقول بطل الفيلم الذي يجسد دور بوكوفسكي في أحد حواراته معبرا عن عدم قبوله ورفض طلبه للعمل من قِبل احد المصانع : «هذا عالم يجب أن يقوم فيه كل شخص بعمل ما، هنالك شخص رسخ هذه القاعدة بأنه على كل شخص أن يقوم بعمل ما، فإما أن تكون طبيبا او مهندسا معماريا أو حارسا أو قسيسا…». قد يبدو هذا التساؤل التهكمي الذي طرحه بطل الفيلم بأنه تساؤل يخلو من الواقعية وبعيدا عن العقل والمنطق، لكن إذا ما تريثنا في إصدار حكمنا وحاولنا النظر إلى هذه الإشكالية التي طرحها فسوف نقف لا محالة على إشكالية جوهرية تحدّث عنها الكثير من علماء الاجتماع والفلاسفة أمثال ميشيل فوكو وبيير بورديو…؛ وتتجلى هذه الإشكالية في «المعيار» الذي نستعين به في التمييز بين ما هو طبيعي وماهو غير طبيعي داخل المجتمع، فالعمل أصبح مكملا للإنسان وبدونه يتم تحقيره ونعته بالكسل. إن «المعيار» الذي نرتكن إليه في الحكم على شخص ما بأنه كسول أو مجد تبدو مسألة طبيعية ومفروغ منها مادام الكل يعمل بها ويتبعها، لكنها مسألة تطرح اشكالات وتساؤلات فلسفية وسوسيولوجية لا بد من الوقوف ولو قليلا عندها من أجل تبيان مدى صحتها و استخراج ملامح العنف والسلطة الثاوية تحتها.
إن المجتمع ومن خلال مؤسساته المتعددة يمارس علينا منذ نعومة أظافرنا سلطة رمزية وعنف رمزي يتمظهر في أشكال القبول المتعددة للوقائع الاجتماعية والتماهي مع العديد من التحديدات والتقييمات والتقسيمات ( مريض#سوي، مجنون#عاقل، كسول#مجتهد…)، واعتبارها على أنها طبيعية، وبأن كل المعايير الموضوعة من قبل المجتمع لا غبار عليها، لكن الفيلسوف ميشيل فوكو تبرم من هذه التقسيمات واعتبرها مجرد نتيجة من نتائج ممارسة المجتمع للسلطة على أفراده من أجل ضبطهم وترويضهم وتحقيق الخضوع التام والكامل لكل مؤسسات الدولة ومعاييرها المتعددة. ومن خلال هذا المنظور النقدي الذي يحطم كل الأصنام والبديهيات التي يغلف بواسطتها المجتمع العديد من الوقائع والظواهر والقضايا، سنعمل على تناول قضية “الكسل” باعتبارها قضية تستحق البحث والتحليل بحكم الأدلجة التي أصبحت تلفها من قبل العديد من دجالي ما يسمى بـ”التنمية الذاتية” وبعض الباحثين في علم النفس، إضافة إلى تسليط بعض الضوء على الثقافة الشعبية والمخيال الشعبي وطرق تمثله “للكسل”. وسنقسم مقالنا إلى ملاحظات متفرقة يربط بينها خيط النقد ومحاولة الفهم.
الملاحظة الأولى : أدت الثورة الصناعية التي برزت في أوروبا القرن 19 والانتشار المهول والسريع للمصانع إلى تبلور تصور جديد للإنسان، هذا التصور الجديد بدأ ينظر إلى الانسان نظرة وظيفية تسعى إلى استخدام جل قواه البدنية (الجسمانية) و العقلية في تحقيق الإنتاج والزيادة في مردوديته، وقد استعان العديد من ملاك المصانع بالباحثين السيكولوجيين (فريدريك تايلور ، فرانسيس كالطون ..) لعمل دراسات وأبحاث تسعى إلى اكتشاف الطرق والوسائل التي يستطيع من خلالها مسيرو المصانع والقائمين عليه أن يستغلوا العمال نفسيا واجتماعيا بغية استخدماهم للزيادة في ثرواتهم وتراكم رأسمالهم. وقد بدأت في هذه الفترة تظهر آليات جديدة في اختيار العمال وانتقاءهم ترتكز على مدى قدرة العامل على تكيفه ودرجة إنتاجيته واندماجه في النظام المؤسساتي. وقد نتج عن هذا الانتقاء الجديد للعمال تبرير للبطالة بحكم أنه يعزوها إلى طبع الإنسان العاطل بنفسه وليس إلى منطق النظام الرأسمالي، فأصبح كل عاطل أو متبطل يوصم بوصمة “الكسل”، وبدأ يوصف بأنه إنسان فشل في مهنته أو ليست له القدرات الذهنية والعقلية والجسمانية لكي يحصل على عمل، وبالتالي أصبحت البطالة والفقر تُبرّر من زاوية أن الإنسان “الكسول» مصيره الفقر والحرمان والتهميش، بحكم أنه غير مؤهل للعمل ولا يملك المهارات اللازمة لقبوله في العمل. ولعل الأسس التي تقوم عليها “التنمية الذاتية” تقوم على نفس المرجعية التي تم ذكرها سالفا، فهي ترى أن الإنسان الفاشل هو إنسان مسؤول عن فشله وهو الوحيد الذي يتحمله فشله هذا، مُبعدة بذلك كل الشروط الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية التي تجعل من العاطل إنسانا محكوما بمنظومة اجتماعية وسياسة واقتصادية هي التي شكلته وأثّرت في مساره وفي الوضع الاجتماعي الذي يحتله ضمن التراتبية الاجتماعية . إلا أن دعاة “التنمية الذاتية” (الدّجالين الجدد) يتمادون في طروحاتهم اللااجتماعية واللاواقعية مشددين على أن كل إنسان هو صانع لذاته، وبالتالي فإن أي شخص حقق “الثروة” و”السلطة”؛ فهو الوحيد الذي حققها بفضل جهوده الخاصة ، وإن فشل في تحقيق مراده فهو شخص “كسول” ليست له القدرة والثقة بالنفس اللازمتين لكي يحقق أهدافه؛ وبالتالي يتم وصمه بمصطلح قدحي غير علمي ولا يمت للواقع بأي صلة (الكسل).
الملاحظة الثانية : إن الفراغ من العمل لم يكن عند الإغريق القدامى مسألة “كسل” أو خمول أو بطالة، بل كان يدل على أن الشخص “الكسول” بتعبيرنا اليوم، هو شخص له مكانة عالية داخل المجتمع، حيث كان هؤلاء المتفرغون يعملون بمجالات العمل الفكري والتربوي والفني…. ففي إيتيقا أرسطو مثلا نجد أن التدبر والتأمل هو أرفع أشكال الإنجاز البشري، دون أن ننسى أفلاطون الذي أعطى مكانة عالية للفلاسفة في دولته الفاضلة في حين بخس من قيمة العمل الإنتاجي الذي يستدعى استخدام المجهود العضلي والبدني. لكن وفي ظل بروز الرأسمالية التي أثرت البروتستانية (وهي طائفة مسيحية تدعو إلى العمل والكد والامتناع عن الملذات والشهوات والزهد في الحياة…) في نشأتها كما وضح ذلك السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر في كتابة الشهير «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، بدأ هذا المنظور يمَّحي تدريجيا، حيث برز العامل (الشغيل) كنموذج يُحتذى به ويضرب به المثل في الجد والكد والبراعة، وبالتالي أصبحت العلوم العقلية والتأملية تُبخّس لصالح العلوم التي تهتم بالزيادة في المردودية والإنتاجية، وهكذا بدأت تسود داخل المجتمعات الأوربية نظرة ازدرائية للشخص العاطل. إن هذا الإعلاء من قيمة العمل إلى حد الجنون جعل من الصحافي والكاتب الثوري بول لافارج (1842-1911) يؤلف كتابا تحت عنوان « الحق في الكسل » سنه 1888 ينقد فيه وبشدة هذه الرؤية التقديسية للعمل، فقد اعتبرها مجرد أيديولوجيا رأسمالية تسعى الى استغلال العمال للرفع من مردودية العمل والإنتاج إلى الحد الاقصى لصالح الطبقة المسيطرة، مقابل إنهاك قواها أي قوى الطبقة العاملة الحيوية وحرمانها من كل متع الحياة وأفراحها، ولعل نفس النقد الموجه للحضارة الرأسمالية وجهه سيجموند فرويد لها لكن من زاوية مغايرة للافارج، ففرويد يرى أن الحضارة تقوم على أساس قمع غرائز وشهوات الفرد في مقابل الحرص على تفريغ هذه الطاقة في العمل والانتاج، وقد جاء من بعده هربرت ماركيوز وتوسع في هذه الفكرة في كتابه « الحب والحضارة » الذي بين فيه ان الحضارة الراسمالية الغربية قامت على مبدأ أساسي يتجلى في قمع الليبيدو من قبل البورجوازية واستغلاله في الانتاج ومراكمة الثورات.
الملاحظة الثالثة : تقسم الثقافة داخل أي مجتمع إلى ثقافتين؛ ثقافة سلطة (الثقافة العالمة) وثقافة العامة (الثقافة الشعبية)، وإن كانت هذه الأخيرة تدخل في صراعات مع الأولى وتنتقدها عبر نسج أمثلة أو حكايات أو نكت تبخس من قيمتها و مضمونها ( والتحليل النفسي يرى أن النكت الشعبية ما هي إلا تنفيس عن المكبوت والتبخيس الذي استدمجه الإنسان المقهور)، فإنها لا تخرج عن دائرة ثقافة السلطة وتبقى تابعة لها في أحايين كثيرة، وسنأخذ من الثقافة الشعبية – التي تحمل في ثناياها الكثير من العناصر – الامثال الشعبية كمثال.
يعبر «المثل الشعبي» عن تجربة الأفراد والجماعات من خلال احتكاكهم بالواقع والمعيش اليومي، إنه مرآة تعكس الذاكرة الجماعية لجماعة ما، تعكس آمالهم وطموحاتهم وبؤسهم ومعاناتهم مع الواقع. فهو«دستور وقانون العامّة يعتنقه الناس ويؤمنون به بشدّة، لذا أثرت فيهم وحدّدت سلوكهم وتصرفاتهم واعتمدوا عليها في دعم كلامهم وتأييد أقوالهم وتأكيد آرائهم. ولهذا وجدنا الأمثال وكأنها تكاد تكون نوعا من السلطة الأدبية تفرض على العامة من الناس شكلا معينا في تعاملهم ويأخذ بها معظم الأفراد، شأنها شأن كل الظواهر الاجتماعية الأخرى الضاغطة على أفراد المجتمع»)1(. ولكي ندعم قولنا هذا ( أي علاقة الوصل بينها وبين ثقافة السلطة ) سوف نتجه إلى الأعلام باعتباره جهازا من أجهزة الدولة الأيديولوجية الذي أعاد إحياء الكثير من الأمثال الشعبية عبر “برامج ترفيهية» تُقدّم أسئلة للمشاركين فيها سواء في نهاية برامجها أو في وسطها حول بعض الأمثلة الشعبية لكي يُعطوا إجابات تدل عن معناها، والغريب في الأمر هو أن جل الأمثال التي تقدم يتم اختيارها بعناية وبدقة، بحيث يتم إبعاد كل الأمثلة المتمردة على السلطة ومنطق اشتغالها، وهذا الانتقاء يؤدي وظيفة اجتماعية وسياسية تتجلى في إعادة إنتاج وعي جديد خاضع للسلطة ومساير لمؤسساتها بحكم أن العديد من الشباب بدأ ينفلت من مؤسسات الضبط الاجتماعي بفضل انفتاحه على المرجعيات الغربية بواسطة شبكة الأنترنيت والتكنولوجيا المعلوماتية. لكن ما يهمني أكثر هو دلالة العمل في الأمثال الشعبية، حيث نجد بالدارجة المغربية بعض الأمثال التي يتم تناقلها على ألسنة الكثير من الأفراد : “الراجل بحال الفاس فين ما مشا يحفر، ويمكن ترجمته باللغة العربية على الشكل التالي : الرجل كالفأس أينما ذهب يحفر”، وهناك مثل آخر يقول “ راس الكسلان يسكنه الشيطان”، وهذين المثلين إذا ما حللنا مضمونهما سنجدهما يشجعان على العمل ولو في اشد الظروف انحطاطا ولا إنسانية كما هو الحال مع المثل الاول الذي يساير “ايديولوجيا الكسل” ويدعمها، فالفأس تحفر كل شيء وتتحمل أي شيء، وبالتالي على الرجل أن يعمل في أي ظرف وبأي ثمن، لايهم نوعية العمل بل المهم هو العمل فقط. بالإضافة الى انها تحمّل الشخص “العاطل” أو “المتبطل” مسؤولية عطالته أو بطالته كما نجد في المثل الثاني بل تماهي بينه وبين الشيطان بحكم أن تمثُّل الشيطان في الثقافة الشعبية يتماهى مع جسد الافراد ويتملكهم، فالشيطان ينتمي الى عالم المدنس وبالتالي فالشخص العاطل شخص نجس، لايجوز مرافقته ولا الجلوس معه….
إن الوصم الاجتماعي الذي يوصم به الشخص “الكسول” هو وصم لا يخلو من أدلجة واستغلال من طرف الفئات المهيمنة داخل المجتمع، فكل ما يتم تداولها من نعوت و تصنيفات داخل المجتمع يخدم فئة معينة هي التي تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج هذه الثقافة، وبالتالي فإن أي شيء يقدم لنا على أنه شيء طبيعيي وجب التسليم به؛ علينا أن نكون شديدي الحرص تجاهه، لأن أستاذنا ديكارت له مقولة شهيرة تقول “داخل كل بداهة يوجد فراغ”.
المصادر :
(Endnotes)
1()- محمد سعيدي، صورة العمل ودلالاته الاجتماعية والثقافية في المثل الشعبي الجزائري، مجلة انسانيات، الجزائر، العدد العدد 1،1997، ص26. *طالب في شعبة علم الاجتماع بجامعة ابن زهر
الكاتب : عصام نكادي - بتاريخ : 16/06/2020