ملك المبادرات الرائدة والخالدة..

إسماعيل الحلوتي

مرة أخرى وفي خضم الأزمة الصحية الخانقة والمؤرقة التي تمر منها بلادنا في عز فصل الربيع، إثر اجتياح فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19» معظم بلدان الأرض، يؤكد الملك محمد السادس على أنه حقا قائد حكيم ومتميز قولا وفعلا ويستحق كل الإجلال والتقدير، لما يبديه من حرص شديد على ترجمة خطبه السامية التي لا تخلو من إشارات دقيقة ودروس عميقة، وتتسم به من واقعية وطموح في رسم ملامح التوجهات الكبرى للبلاد إلى حقائق ملموسة على أرض الواقع، من حيث إطلاق المبادرات الرائدة ذات البعد الإنساني والاجتماعي. إذ طالما صنعت خطبه أحداثا سياسية رائعة وأثارت نقاشات واسعة، حتى صار الشعب يترقب بشغف كبير مناسبات سماع بلاغة أقواله وحكمة بلاغات ديوانه.

فمع ظهور أول حالات الإصابة ب»كوفيد19» في 2 مارس 2020 ببلادنا، واتخاذ السلطات المغربية سلسة متتالية من الإجراءات الاحترازية والوقائية السريعة، موثرة بذلك صحة وسلامة المواطنين على الاقتصاد الوطني، أبى الملك إلا أن يبادر من جديد في خطوة استباقية إلى توجيه تعليماته الحكيمة للحكومة قصد التعجيل بإحداث صندوق خاص بتدبير ومواجهة تداعيات الوباء الفتاك، وتوفير عشرة ملايير درهم من خزينة الدولة، بهدف تأهيل الوسائل والآليات الصحية ودعم القطاعات المتضررة وتخفيف العبء عن فاقدي مناصب عملهم والأسر المعوزة وغيرها. وكان كالعادة سباقا إلى إعطاء القدوة بافتتاح رصيد الصندوق المحدث يوم الأحد 15 مارس 2020 من خلال تبرعه بمبلغ ملياري درهم من ماله الخاص.
وهي الخطوات الرصينة التي لقيت صدى طيبا ليس فقط داخل المغرب، بل حتى خارج الحدود، حيث جاءت ردود الفعل من مختلف أرجاء العالم حافلة بالتنويه والإشادة بما ينهجه المغرب ملكا وحكومة وشعبا من أساليب راقية في تعامله مع الشدائد والمحن، جعلت منه نموذجا يحتذى به في الرؤية الاستشرافية وعنوانا عريضا للحكمة والتبصر، لاسيما أن الشعب بمختلف مكوناته ومواقعه ومسؤولياته عبر عن تفاعله الإيجابي مع المبادرة الملكية، وأبان عن مدى نضجه ووعيه وتضامنه الوطني الكثيف على عدة مستويات مادية ومعنوية.
وفي إطار تواصل عناية الملك بأبناء الشعب ومبادراته الكريمة التي لا يتوقف معينها، وكما سبق له أن أمر في 27 يناير 2020 بإعادة حوالي أزيد من مائة مواطن مغربي من مدينة ووهان الصينية معقل الفيروس إلى أرض الوطن، لم يغب عن ذهنه اغتنام الفرصة لرفع جزء من المعاناة عن أولئك القابعين خلف قضبان المؤسسات السجنية والإصلاحية وأسرهم، حيث أعلنت وزارة العدل يوم 5 أبريل 2020 عن تفضله بإصدار عفوه المولوي لفائدة 5654 سجينا، وأوامره باتخاذ كافة إجراءات تعزيز حماية النزلاء من مخاطر جائحة فيروس كورونا المستجد.
ولم يلبث أن عاد في غضون يومين وأمر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يوم 8 أبريل 2020، بصفته الناظر الأعلى للأوقاف، بإيقاف استخلاص الواجبات الكرائية لجميع مكتريي المحلات المحبسة المخصصة للتجارة والحرف والمهن والخدمات والسكنى بالنسبة للأشخاص غير الموظفين، إلى حين انفراج الغمة ونهاية فترة حالة الطوارئ والحجر الصحي المعتمد في البلاد منذ 20 مارس 2020.
فكان من الطبيعي أن يعم المواطنين في كافة أنحاء البلاد نوع من الارتياح والانشراح، وأن تخفف مثل هذه المبادرات الملكية الإنسانية من وطأة الضغوطات النفسية، وذلك الشعور بالتوتر والخوف الذي يخيم عليهم في هذا الظرف العصيب والحساس، مبادرات تبعث بإشارات واضحة لكل أبناء الشعب من أجل مزيد من التلاحم والتواؤم، وتساهم في تكريس قيم المواطنة والتضامن والتعاون والتسامح…
من هنا يتأكد لنا مجددا أن محمد السادس الذي لا يذخر جهدا في الدفاع عن مصالح المغاربة العليا وقضاياهم العادلة والسعي الحثيث إلى توحيدهم حول ثوابت الأمة ومقدساتها، هو ملك مواطن يعتز بانتمائه إلى بلده ويؤمن بالخيار الديمقراطي والتنموي، وهو كذلك ملك المبادرات الرائدة بامتياز، حيث أنه ومنذ تربعه على عرش والده الراحل الحسن الثاني رحمه الله، لم ينفك يطلق المبادرات الرامية إلى استنهاض الهمم والعزائم واستعادة الثقة في المؤسسات والنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، غير أن الحكومات المتعاقبة لم تكن للأسف في مستوى مطامحه وتطلعات الجماهير الشعبية…
إنه لمن الجحود عدم الاعتراف بأن الله تعالى حبا بلادنا بقائد محنك تعددت عطاءاته وإبداعاته، فمن الدعوة إلى إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة في يناير 2004 لتصفية ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يغطي نطاق اختصاصاتها الفترة الممتدة من عام 1956 إلى غاية سنة توليه الحكم في عام 1999، إلى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي انطلقت عام 2005، بغاية تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة، وجعل المواطن المغربي أساس الرهان التنموي…
ويكفي المغاربة شرفا أنه لم تمض سوى بضعة شهور على تعيين لجنة استشارية أوكل إليها مهمة صياغة نموذج تنموي جديد، تكون قادرة على مواكبة تطورات العصر، وتلبية حاجيات المواطنين، واجتراح الحلول المناسبة للإشكاليات الكبرى، وتحقيق تنمية متوازنة ومنصفة وكفيلة بخلق فرص الشغل للعاطلين وتعميم التغطية الصحية وتيسير الولوج إلى الخدمات الاستشفائية الجيدة في إطار الكرامة الإنسانية… والتي نتمنى صادقين أن يأخذ أعضاؤها بعين الاعتبار أهم الاختلالات التي كشفت عنها جائحة «كوفيد 19»، لاسيما ما يرتبط منها بمنظومتي الصحة والتعليم. فهلا يستفيد كبار المسؤولين من نبوغ ملك البلاد ويتعلمون من مبادراته الحقيقية، كيف يصنعون مغرب الغد؟

الكاتب : إسماعيل الحلوتي - بتاريخ : 14/04/2020