من لا سطح له…لا بيت له

د.الحبيب ناصري

ربما العديد من الأجيال اليوم، قدر لها أن تعيش خارج ما صنعته سطوح المنازل. دوما أقول لأصدقائي من لا سطح له، فلا منزل له. حينما نتأمل جيدا فيلم نوري بوزيد «عصفور السطح»، ندرك جيدا كيف من الممكن اعتبار السطح/الفضاء، في هذا الفيلم، شخصية محورية بجانب الطفل الباحث عن شخصيته/لذته المشتتة في ثنايا بنية مجتمعية مغلقة. الشيء نفسه من الممكن ملاحظته في فيلم عبد الرحمان التازي والمعنون ب» البحث عن زوج امرأتي»، حيث ومنذ بداية الفيلم، نكتشف عمق وجمال وشموخ المعمار المغربي، وما يشهده من قصص وجدانية واجتماعية عديدة. ما علاقة حكينا السينمائي هذا بعنواننا السالف؟
من لا سطح له …لا حياة له
اعتادت الأسر المغربية القديمة، والشيء نفسه بالنسبة للعديد من البلدان العربية، أن تجعل من السطوح، فضاء خصبا لممارسة العديد من أنشطتها الثقافية الشعبية والاجتماعية، إلخ. هو، فضاء جميل من خلاله، تتمدد الأسرة في الزمان والمكان والأحلام ومداواة الجروح الفردية والجماعية، والقبض الدائم على لحظات فرح لا تنسى. الصعود إليه، يشكل فرصة بوح. البوح مضمون حينما نتمدد في صيف حار، أو حينما نلامس فيه حبات مطر نداعبها كما تداعب الأم طفلها.
تربينا في هذه السطوح. من خلالها نتذكر قصص الجدة والأم، بل ألذ أطعمة الأم تطبخ في هذه السطوح، حيث عادة ما تبنى فيها بضعة مرافق مهمة كالمطبخ والمرحاض وبيت يجمع الجميع، وبالتالي يصبح المكان المفضل لدى الجميع، لكونها تعيدنا إلى الجذر الطبيعي لسكننا البدوي الذي هجرناه لدواع عديدة، وحملنا قصصا بدوية جميلة لازالت تشكل زادنا ومخيالنا ومناعتنا الدائمة. سكن ظللنا نحمله في قلوبنا، فجعلنا من سطح منزلنا استمرارية له، بل حاولنا تحويله إلى ما يشبه سكننا البدوي.
دوما أسأل نفسي حينما أكون بمدن إسمنتية، كالدار البيضاء، على سبيل المثال. وأقول هل من ولد هنا، وعاش هنا، ومات هنا، هل هو «كائن» مثلنا؟ . أكيد فوق شقته وشقق «جيرانه»، الذين لا يعرفون بعضهم البعض، سطح. لكنه سطح جماعي لايسمح ببوح فردي ولا حتى جماعي. إذن، فهم ليسوا مثلنا، نحن الذين تربينا في البوادي، وهجرنا بوادينا وسكننا بيوتا لها سطوح فردية، تسمح ببوح جميل بين أحضان الأم والأب. نتلذذ فيه طعامنا الجماعي. نغني ونرقص ونلعب ونلهو، كما يحلو لنا، بل فينا من كان يبني عوالمه الفردية فيه وفق هواه وما كان يحلم به. كان فضاء خصبا يحمي أحلام طفولتنا. كنا نتابع فيه سفر النجوم وتبدل لون السماء طيلة فصول السنة، بل طيلة اليوم الواحد والليلة الواحدة.
أسئلة عديدة، تمزقنا اليوم، ونحن نسكن عمارات شاهقة لا نتبادل فيها التحية. بل كيف ننزل ميتنا وقد فارق الحياة، في عمارة، حيث الناس يسكنونها في فترة ليلية زمنية وجيزة، لاسيما ومعظم أوقاتهم بين مقرات عمل ومطاعم تبيع لهم أطعمة معلبة تقتل ما تبقى في القلب من دفقة دماء يابس…
أكيد، فنحن اليوم نبني عمارات كبيرة وطويلة. نتباهى بها. عمارات ملأت جيوب مفترسي ما تبقى من دماء صفراء للفقراء. يتكدس فيها الناس، ويبقى من بقي ملتصقا بباديته، أفضل حالا ونفسية ممن هو اليوم يشكو من ألم ركبته ولم يعد قادرا على الصعود إلى شقته (بفتح الشين). مظاهر ألم عديدة، صنعتها لنا العولمة المتوحشة التي كدست الناس في علب، لا تصلح، لا لنوم لذيذ، ولا لحلم جميل، ولا لبوح ليلي وفق ما يحلو لهم.
فرطنا في سطوحنا الجميلة، ولم نتمكن من الحفاظ عليها، وكانت النتيجة أننا لم نعد نحلم ونلهو ونلعب كما كنا. أجيال جديدة لم يكتب لها أن عاشت كما عاش «طفل السطح» في فيلم نوري بوزيد، أوكما عاشت أسرة فيلم عبد الرحمان التازي الذي أشرنا إليه سالفا. أمراض عديدة ولدتها عماراتنا الشامخة. قتلت فينا البوح والحلم. علبتنا وباعتنا كما تباع البضاعة لتاجرها.
أصبحنا أمام أجيال عديدة جديدة ومعطوبة في وجدانها. لم تلعب، كما لعبنا في البوادي وفوق سطوح بيوتنا القديمة. لم تلعب لعبا طبيعية وشمت رائحة التراب. لم تصنع لعبها. صنعوا لها لعبا وفق منطق الربح والتدجين والتبضيع والتضبيع. غلفوا لهم أطعمة، فتكت بما تبقى في قلوبهم من رائحة لمة عائلة فقدت على الدوام.
عماراتنا البئيسة اليوم، تصنع أجيالا معطوبة غير ملمة بتفاصيل عيش لذيذ، صنع بقرب بئر كانت تروي كل سكان البادية. وبالقرب منها تحكى الحكايات، وتبنى العلاقات، ويجتمع أهل الدوار ويتشاركون أفراحهم وآلامهم وآمالهم. لم يشاهدوا أعراس القبيلة، ولم يأكلوا أطعمة طبخت فوق مواد طبيعية كبقايا البهائم أو حطب تم جمعه طيلة النهار، وأكسب المناعة للنساء اللواتي جمعنه.
كلما نبشنا في ذاكرة المكان، إلا واستحضرنا العظيم غاستون باشلار وكتابه الجميل، جماليات المكان. عبر فلسفية عديدة، من الممكن أن نقبض عليها ونحن نقرأ مؤلفه هذا الذي يباع اليوم، وربما بأقل من ثمن وجبة غذاء جاهزة ومعلبة لا رائحة أم فيها ولا لمسة جدة ولا مواد طبيعية حاضرة فيها. بل وجبة يعض عليها الطفل أو حتى الرجل المسن، وهو يمشي غير مبال لآداب الطعام الذي تعلمناه من الجدة «الأمية» العالمة بأسرار الحياة وخبايا الكون.
في مشاهد عديدة، من أفلام، حكيم بلعباس، الوثائقية، يسأل شخوصه الفيلمية الوثائقية عن الحلم. من لا يحلم، فقد فقد حياته، وأصبح مجرد رقم، ضمن المعدات التي توثق في دفاتر الشركات والإدارات والجماعات الحضرية، في انتظار الحصول على شهادة الوفاة ومن ثم الدفن ضمن طقوس باردة.
كيف من الممكن استرجاع سطوحنا المفقودة، والتي كلما أحضرها مخرج في فيلم سينمائي روائي أو وثائقي، أوقفنا زمن المشاهدة وحاولنا السفر في ذاكرة سطوحنا لاسترجاع لحظات أمل جميل؟. لكن، ماذا سيفعل من ولد في شقة (بفتح الشين) وعاش فيها وتناسل فيها ومات فيها؟. سؤال صعب وحارق أعتقد؟. لا حل له سوى التماهي والتلبس بأفلام السطوح، لعله يجد متنفسا ولو مصطنعا، وفي انتظار البحث عن حل «رهيب»، كالعودة إلى البادية، للسكن فيها وتحقيق محاولة عيش جديدة ليست كتلك التي نمطته، أو محاولة القبض على سطح ما… في زمن ما… وفي مكان ما.
فعلا من لا سطح له…لا بيت له.

كاتب مغربي

الكاتب : د.الحبيب ناصري - بتاريخ : 29/03/2022

التعليقات مغلقة.