مهنة المحاماة … وإعادة ترتيب موازين القوى
د/ أحمد حموش
تمر مهنة المحاماة في هذه الآونة بفترة عصيبة، في ضوء التغييرات والتحولات السريعة المتلاحقة، والتي ساهمت مجموعة من العوامل والمواقف في صياغة مشهدها، حتى غدا من غير الممكن قراءة تطورات المشهد المهني دون البحث في هذه العوامل ومواقف مختلف القوى الفاعلة في صياغته، وتجليات ذلك على أرض واقعها، وهو ما يحملنا على الاقتناع بأن وعيا مهنيا جديدا ينبثق وتتسارع تجلياته، فمن ينظر إلى خريطة المهنة اليوم، ومقارنتها مع خريطة الأمس، تتأكد له هذه التغيرات العميقة، أمام عسر الاتفاق بين مختلف الفاعلين على الحد الأدنى من الرؤية المشتركة حول المهنة، وعدم القدرة على استيعاب الاختلاف والالتقاء على أرضية واضحة، لنسج تصوّر يكفل الانسجام مع التصوّر الطبيعي لهويتها التي ترفض الانسلاخ والاستلاب، وهذا يعطي مؤشّرا عن واقع مضطرب، ناتج عن فقدان البوصلة، وتشقق سياسة التوافق وتصدع مبدأ الحوار وانتصار منطق الانفراد بالقرار.
فأصبح من الواضح أن أساليب الأمس المعتمدة في التفكير وإدارة الحوار بين هؤلاء الفاعلين غير ملائمة تماماً وآخذة في التكلس والإنهيار، الأمر الذي يقتضي ابتكار أساليب جديدة بعد توفير رؤية واضحة للشكل الذي سيكون عليه المستقبل المهني.
وليس من المبالغة في شيء القول بتعذر وجود مفهوم نال من الحظوة ما ناله، مفهوم «الأزمة» كعنوان لتشخيص واقع المهنة اليوم؛ وذلك بالكم المتدفق من البيانات والبلاغات، والبلاغات المضادة الصادرة عن المؤسسات والإطارات المهنية، وبآية الكثرة الكاثرة من الندوات التي نظمت، وتداولت ما يحفّ بهذا المفهوم من مظاهر وتجليات في مهنة المحاماة، ولو في أنساق مختلفة ومتعددة، لكن بمعان متقاربة في المضمون .وما ذاك في الحقيقة إلا لأسباب تتعلق بحالة المخاض العسير الذي تشهده المهنة بسبب القرارات المستفزة، التي تريد إخراجها من هويتها الصلبة المسيجة بالأعراف والتقاليد والمبادئ الكونية بشأن دور المحاميات والمحامين، إلى هوية سائلة قد تؤدي إلى تغير جذري في المجالات والأنماط والمعايير التي تحكم عملها. وبالتالي بروز بوادر تحوّل تاريخي عميق في كينونتها.
ولا شك أن ثمة عوامل داخلية عدة أدّت إلى تفاقم هذه الأزمة، وفي مقدّمتها عدم قدرة المؤسسات والإطارات المهنية، عن التعاطي مع موازين القوى من جهة، وفهم هذه الموازين على حقيقتها، من جهة أخرى، وهذا تجلى في ثلاث نكبات تعرضت لها المهنة مؤخرا:
تمثّلت النكبة الأولى في طريقة التجاوب مع المقاربة الأحادية التي دشن بها وزير العدل الحالي منهجية تعاطيه مع الشأن المهني، وطريقة طرحه لمسودة مشروع تعديل قانون المهنة بعيدا عن المنهجية التشاركية مع المؤسسات المهنية، وهو ما زاد في تعميق درجة الأزمة القائمة بين الوزارة والمهنة، والتي ألقت بظلالها على المفاوضات الجارية مع الحكومة حول الملفات الأخرى.
وتمثّلت النكبة الثانية في ما ورد في قانون المالية من مستجدات ضريبية أثقلت كاهل المحامين، ببنود تشريعية لم تراع لماهية المهنة ولا لرسالتها الإنسانية والحقوقية، ولا لخصوصيتها التي ينبغي أن تخضع إلى قانون ضريبي عادل ومنصف نابع من تشخيص علمي وواقعي لشروط الممارسة المهنية، واستحضار المطالب المشروعة لعموم المحاميات والمحامين ولحاجيات الأجيال الشابة التي التحقت بالمهنة.
ثمّ كانت ثالثةُ الأثافي ما خلص إليه التقرير الأخير لمؤسسة الوسيط من توصيات بشأن الامتحان الأخير للحصول على الأهلية لممارسة المهنة، والتجاوب الإيجابي لوزير العدل معها، وفي ظرف زمني قياسي، بإعلانه المنفرد عن موعد آخر لإجراء الامتحان، وما تلا ذلك من ردود أفعال مشروعة في الأوساط المهنية.
والأكيد أن هذا سهل عملية عزل مجمل المعارك التي خاضها جمهور المحاميات والمحامين ،خلال هذه السنة، عن سياقها التعبوي الشامل، وترك المهنة محاصرة بفرض الأمر الواقع ليطالها الضعف ثم الإحباط واليأس.
ومعلوم أن ميزان القوة في المجال السياسي عموما يتحدد بعدد من المعطيات، أهمها قوة الإقناع، والنفوذ والأليات المستعملة أثناء الضغط والتفاوض، والسياسي الناجح هو الذي يدرك جيدا قوته وموقعها ضمن خارطة باقي القوى الأخرى.
وبطبيعة الحال لا يمكن اختزال أسباب الأزمة التي تعيشها المهنة في عنصر واحد، لأن في ذلك محاولة لإنزال واقع مركب ومعقد والإجابة عليه بحل واحد، بأن انفراج هذه الأزمة لا يكون إلا بمفتاح واحد، وهو معالجة هذا السبب الوحيد، وهذا اختزال معيب لصيرورة تاريخية تدافعت فيه المصالح وتزاحمت فيه الأحداث،
ويبقى أن ندرك أن مهنة المحاماة قادرة دوماً على النهوض من كبوتها، وذلك بإدراك العقل الجمعي المهني للواقع على حقيقته، بعناصره ومكوناته وتفاعلات المؤسسات الفاعلة فيه، والوزن النسبي لكل منها، وقوة تأثيرها، بدون اجتزاء أو تغيير واختلاف أو تزييف، وكذلك إدراك ما يجب فعله في هذه اللحظة التاريخية، وتأثير ذلك على المستقبل المهني للأجيال القادمة، فهل لنا أو لدينا القدرة على خلق خيال استراتيجي جديد يسمح لنا بالتعامل مع هذه التحولات والقدرة على استقراء المراحل المقبلة بدقة كبيرة، بعيدا عن «الشعبوية المهنية» والرغبوية في التحليل، والطوباوية في الأهداف، فالأكيد أن مستوى التحديات يفرض على مهنة المحاماة قاموسًا بمفردات جديدة، خاصة ونحن في عالم متحول يعيد ترتيب حساباته، وهذا في نظري يتطلب تشخيص دقيق لمواطن الهوية الصلبة للمهنة وفرزها عن الهوية المرنة للمهنة، وهو ما ينبغي علينا أولا التمكن منهما وفهمهما جيدا، وثانيا استحضار أن أي تصور جاد وعقلاني حول المهنة لا يمكن أن يخرج إلا من رحم الهوية الصلبة لها، والتي ينبغي التعامل معها بشكل جاد وحاسم ووزنها بميزان بيض النمل وبعدم التساهل بشأنها.
وكما يقول المفكر العراقي علي الوردي في كتابه «خوارق اللاشعور» «إن الحياة في حركة متواصلة، وهي في الواقع متقلبة، إذ هي تتغير من يوم إلى آخر، ولا ينجح فيها إلا ذلك المحنّك الذي يرقب تغييرها بعين ثاقبة، وينتهز فرصتها المتراكمة انتهازا عاجلا».
ولئن غدت مهنة المحاماة -راهنا- تحت وطأة بعض الممارسات السيئة، والتي تحولت مع تقادم الزمن إلى (نظام) يصعب كسره، بل أصبحت لدى البعض(عرفا)، مما أفضى إلى حياة مهنية شاذة، فإن ذلك سينعكس سلبا على القوة التفاوضية في القضايا الاستراتيجية للمهنة.
فاليوم إذا أثارت الطريقة التي تعاملت بها وزارة العدل مع الملفات الحارقة للمهنة حفيظة جمهور المحاميات والمحامين، وأثارت كذلك العديد من التساؤلات عن الكيفية التي يمكن من خلالها أن يستمر الحوار مع الحكومة وسط هذا الاستياء المهني العارم، فإن السؤال المطروح هو هل تستطيع المهنة أمام هذا الوضع التغلب على التحديات التي تواجهها والحفاظ على دورها، خاصة
والأنماط المستقبلية التي سيخلقها التطور التقني الرقمي والذكاء الاصطناعي في ميدان العدالة، وما سينتج عنه من تحويل بيئة القضاء إلى واقع افتراضي وانعكاس ذلك على الممارسة المهنية؟
أعتقد أنه إن لم تكن للمحاميات والمحامين بصفة عامة وللمؤسسات المهنية بصفة خاصة القدرة على الاستعداد الجاد والمستمر للمراحل المقبلة، والتي يمكن أن تكون لها معطيات أخرى وربما تختلف كلية عما هو عليه الوضع الآن، فسوف تظل المهنة قابعة في دائرة التهديد الذي قد يأتيها في أي لحظة ليوقف تمدد رسالتها تماماً وربما يهدد بقاءها من الأساس.
الكاتب : د/ أحمد حموش - بتاريخ : 16/06/2023

