مواسم الهجرة ..تعدد الأسباب والنوايا والغايات …
بقلم: مصطفى المتوكل الساحلي
قال الإمام علي (ض):
وإِذا رأيْتَ الرزقَ ضاقَ ببلدةٍ (***) وخشيتَ فيها أن يضيقَ لا مكسبُ
فارحلْ فأرضُ للّهِ واسعةُ الفضا (***) طولاً وعَرْضاً شَرْقُها و المغربُ
… ضرورات الهجرة تاكتيكية أو استراتيجية عبر تاريخ البشرية تقف وراءها دوافع واعتبارات مختلفة ليقوم بها أفراد أو جماعات صغيرة و كبيرة ..ومنها هجرة الأنبياء والرسل ومنهم الرسول محمد (ص) من مكة إلى المدينة والتي كانت في 22 من شهر ربيع الأول،الذي وافق 24 سبتمبر عام 622م، ولقد ارتأى عمر بن الخطاب بعد ملاحظة من أبي موسى الأشعري الذي علق على مراسلة مؤرخة بشهر شعبان متسائلا: كيف سنميز بين شعبان السنة الحالية وغيرها، فقام الخليفة باستشارات مختلفة أفرزت اقتراحات تأرجحت بين ميلاد الرسول وهجرته ووفاته، ليستقر الرأي فى ربيع الأول من عام 16 للهجرة،على أن يكون يوم 01 محرم من عام 17 للهجرة هو أول سنة هجرية ..
واضطر العديد من الأنبياء والمُرسلين للهجرة لحماية دعوتهم من القمع والبطش والتضييق الاقتصادي للبحث عن أماكن مأهولة او فارغة يتمكنون فيها من ترتيب وتنظيم وتقوية صفوفهم وتبليغ الرسالة لمن وجهوا من معاصريهم وليعلم بها غيرهم سواء كانوا معنيين باتباعها ام لا … وفي إطار الإعداد للهجرة الكبرى المؤسسة للأمة الإسلامية مع النبي الرسول الى المدينة أمر النبي (ص) البعض من أتباعه الأوائل بالهجرة إلى الحبشة بسب الظلم والاعتداءات الكبيرة من غير أتباعه من قريش قائلا: «إن فيها رجلا لا يُظلم الناس عنده».. وعرف العالم الإسلامي هجرات بعد ذلك بسبب الحروب والمعارك والفتن المذهبية والسياسية وبسبب الصراع على الحكم لتأسيس وبناء دول وإسقاط أخرى فيما أصبح يعرف بالعالم الإسلامي منذ إرهاصات قيام دولة بني أمية إلى القرن الحالي … كما ساهم التقسيم الذي كان وراءه الاستعمار الغربي للمناطق الإسلامية وغيرها في صنع خرائط بلقنت ليس فقط الشعوب والدول ، بل وضعوا منهجية استبدادية تحكمية «مستدامة» تتجدد واجهاتها وغاياتها وطرقها حيث امتدت أياديهم إلى الثروات المختلفة استغلالا ونهبا وتفقيرا، وسعيهم الحثيث لضبط سير و إيقاع الاقتصاد على المقاس الذي يبقي الدولة و الإنسان تابعا وخاضعا لسلطاتهم وسياساتهم الاستراتيجية ونفوذهم الدولي الديكتاتوري المغلف بالخطاب الديمقراطي والترويج المسرحي التعسفي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على نقيض ما يطبقونهم في بلدانهم ..وعملت قوى التحكم العالمي تعتمد منهجيات جديدة انطلاقا من امتلاكها وتطورها الكبير في مجال التقنيات والعلوم المختلفة حيث يصعب على الدول الضعيفة متخلفة أو سائرة في طريق النمو ان تساير سرعتهم أو تحقق نموها الطبيعي بمعزل واستقلال عنها .. فحل احتكار الأسواق العالمية والتحالفات الاقتصادية والصناعية والتقنية واللوبيات الامبريالية والمؤسسات المالية محل جحافل الجيوش …كما وظف الابتزاز والكيد وصناعة تفكيك الدول وإضعافها وخلق بؤر للتوتر محل المواجهات المباشرة …
ونذكر بعض أسباب الهجرة وأهدافها من: .. بحث عن الأمن والاستقرار، والرزق، والعلم، والحرية والديمقراطية …إلخ ..وتعني أيضا أن يهجر الإنسان الأفكار الظلامية والعدمية والمتخلفة والتحريفية، ويهجر الظلم والمظالم والتهميش والإقصاء، والسياسات التضليلية والاستبدادية ..الخ
وعند ذكرنا لهجرة المغاربة فسنجدها تتجه من وإلى مختلف مناطق الوطن منطلقة من بوادي وقرى وصحارى المغرب العميق والبلدان والمناطق الخلفية كما تسمى في بعض التوصيفات المستعملة فيما أصبح يطلق عليه السياسات السكانية والعمرانية الحضرية والقروية . وهذه الهجرات مازالت مستمرة وتتقوى سنة بعد أخرى بما لها من نتائج سلبية على العالم القروي ، وما لها من إيجابيات بالحواضر في العديد من القطاعات، كما تنتج عنها سلبيات وقعت وتقع بسبب عدم اعتماد برامج تنموية تؤهل المدن في مجال بنيات الإدماج والاستقبال على مستويات منها السكن والتعليم والعلاج والخدمات والفضاءات الاجتماعية وخلق فرص شغل وتثمين وتنمية الأوراش الاقتصادية وخاصة في مجالات تجارة القرب وتيسير التموين في جميع الأحياء، وإنعاش التجار الصغار والمتوسطين والعديد من الحرف والمهارات والخدمات المختلفة ..
ونجد كذلك هجرات وتهجير للخارج:
* التي اتجهت إلى دول أوروبية مختلفة لتوفير واستغلال اليد العاملة المغربية القوية لتدوير الإنتاج وتفعيل التنمية والنهضة الاقتصادية بها …
*ومنها التي قصدت دولا بالقارات الخمس للبحث عن رزق جديد ينقذ المهاجرين من الفقر ومختلف أشكال الخصاص والتخلف..
* و من أجل العلم والمعرفة والبحث العلمي والعمل الأكاديمي ..
*وأخرى برؤوس أموال وخبرات وتجارب مغربية للاستثمار في بلدان العالم ..
*ومنها « التهجير» القسري التعسفي اللا إنساني الذي أقدمت عليه الجزائر سنة 1975 بترحيل عشرات الآلاف من المغاربة الذين أسسوا أسرهم بزواج مغاربة من جزائريات ومغربيات من جزائريين، وساهموا بجدية في استقلالها و بناء اقتصادها، إلا أن سياسات الحكام بالجزائر كما استهدفت المساس بالوحدة الترابية للمغرب، اعتدت على الشعبين المغربي والجزائري الذين امتزجت دماؤهم سواء في إطار دعم الثورة الجزائرية ، أو علاقات المصاهرة والقرابات العائلية بين سكان الجهة الغربية للجزائر والجهة الشرقية للمغرب منذ عصور …؟؟
* والهجرات التي نظمت من طرف القوى الاستعمارية والإمبريالية للشباب المغربي بتجنيدهم وإلحاقهم بجيوشهم لمواجهة خصومهم وأعدائهم في أوروبا وآسيا وتأثيراتها السلبية على من بقي حيا منهم وعلى أوضاع وظروف عيش أسرهم .. ،
*ومنها التي استهدفت المغاربة اليهود ليرحلوا إلى مختلف دول العالم وخاصة نحو أرض فلسطين المحتلة والذين يتجاوز عددهم بها 500 ألف نسمة، حيث يشكلون ما يقارب 8 في المئة من مجموع سكان إسرائيل.
إن الإحصائيات المعلن عنها رسميا تقول بأن عدد المغاربة المستقرين خارج الوطن ارتفع من 1.7 مليون سنة 1998 ، ليبلغ عددهم ما يقارب 05 ملاين سنة 2013 ،وهذا رقم مهم قياسا بعدد ساكنة المغرب ، ولاشك أن العدد ارتفع ما بين ذلك التاريخ ويونيو من سنة 2018.
ولقد عرف المغرب أيضا هجرات بلجوء سياسي إلى مختلف دول العالم لتجنب سياسات سنوات الجمر والرصاص التي تضرر منها العديد ممن لم يغادروا الوطن مابين الاختفاء والاعتقال والمحاكمات المختلفة والإعدام و..إلخ ..وكان من بينهم وطنيون كبار ومقاومون أشاوس واجهوا الاستعمار الفرنسي والإسباني وحتى البعض من بناة الوطن بعد الاستقلال ومؤسيين لأحزاب وطنية وللحركة النقابية والجمعوية ، ومنهم مفكرون وأدباء وعلماء وخبراء وكفاءات كبيرة ..عاد العديد منهم بتدرج إلى الوطن كلما حل انفراج إلى أن تم التوافق على المصالحة وطي صفحة الماضي نهاية تسعينات القرن الماضي …
وفي سياق حديثنا عن الهجرة بطعم اللجوء السياسي، لابد أن نشير الى نوع آخر عرف و أطلق عليه من طرف المعارضة المغربية الترحال السياسي الذي أفسد المشهد السياسي ، وتسبب في خلط وتمييع وتبخيس قيم الانتماء للفكر الإنساني الإيجابي المتنور فحصلت بسبب سنوات الجمر والرصاص هجرات من اليسار إلى اليمين تقية وطلبا للنجاة أو بدوافع وخلفيات أخرى أدناها أن البعض منهم كان مندسا ومتقمصا لشخصية التقدمي ومكلفا بمهمة ..وحصلت هجرات أخرى بسبب تغير في المبادئ والتوجهات وحتى المواقع والمصالح ..وأخرى بسبب اختلافات وصراعات وتناقضات ..وأخرى بسبب البحث عن اقرب السبل للوصول إلى مراكز القرار والسلطة بالمؤسسات …
وحصلت هجرات وترحال من اليمين إلى اليسار ، ليختلط الأمر على أصحاب السياسة أنفسهم ، وعلى العامة و الطبقة المثقفة .. وهذه الهجرة غيرت وأثرت حتى في المرجعيات الفكرية سواء اليسارية أو اليمينية ، التقدمية وكذا الرجعية لتصبح هجينة …
ومن نتائج تمييع العمل السياسي الوطني وتقزيم دور الأحزاب و البلقنة الحزبية والنقابية هجرة العديد من السياسيين والسياسيات من عوالم المشاركة في العمل السياسي والنقابي إما بمقاطعتها كلها ، أو بالتوجه للعمل المجتمعي المدني والإنساني في جميع المجالات التي تسعى للتنمية المستدامة معرفيا وثقافيا وإنسانيا ونضاليا ،وإما بالهجرة إلى زوايا النفس والعقل والتأمل الروحي والفلسفي كما فعل بعض الصوفية ..
إننا ونحن في بداية الصيف الذي هو موسم عودة مئات الآلاف من المهاجرين لزيارة وطنهم والذين هاجروا للبحث عن لقمة عيش بعد ان تعذر عليهم الأمر بوطنهم ، فكانوا سندا كبيرا من المهجر لوطنهم وأسرهم وبلدانهم، حيث ساهموا بشكل كبير في بناء قراهم وبواديهم ، وفي إطلاق تنمية اقتصادية واجتماعية بمناطقهم ، وفي بناء وتوفير وتطوير وإصلاح البنيات التحتية ، وكانوا وراء إبرام أولى الشراكات ، فأنجزت وشقت وعبدت طرق وربطت قرى بالكهرباء والهاتف النقال والماء الشروب ، بل وبنيت مدارس ومراكز صحية ومساجد ، وفكت العزلة عن العديد من المناطق ، وتجدد وتوسع العمران بالبوادي وتحسنت ظروف عيش من تبقى من السكان بفضل عائدات وتحويلات وبرامج المهاجرين وشركائهم داخل الوطن ..إلخ
ولابد أن نؤكد على أن المهاجرين والمهاجرات من البوادي إلى المدن ساهموا كذلك إلى جانب إخوانهم وأخواتهم بالخارج في تمويل ودعم العديد من البرامج والمشاريع الاستثمارية الصغرى والمتوسطة وحتى الكبيرة ..
لهذا نقول انطلاقا من الواقع الذي عشناه أنه لولا المهاجرون لبقيت مناطق عديدة بالوطن متخلفة على جميع الأصعدة ..
فإذا كان المهاجرون سابقا يتعرضون لمشاكل وإكراهات متعددة بسبب الغربة ويتعرضون لمضايقات وأحيانا لاستهزاء واستخفاف وحتى ابتزاز عند عودتهم إلى الوطن وإطلاق تسميات ونعوت تحقيرية ، وتتعرض أحيانا مصالح البعض منهم للضرر والضياع بسبب تعقد المساطر والبيروقراطية و..؟؟ ..فإنهم وخلال العقود الأخيرة يسجلون تغييرات في بعض السياسات والتشريعات وطرق الاستقبال والتعامل ، التي مازالت في حاجة الى المزيد من الاهتمام و العناية والحماية ، وتوفير ظروف مشجعة لاستقطاب استثماراتهم ، وتثمين دورهم التنموي الكبير الذي يشكل رافدا قويا للتمويلات بالعملة الصعبة والدعم المباشر ، وتشجيع إسهامهم القوي في الاستقرار والمحافظة على بقاء نسب من الساكنة بالبوادي وتخفيف الهجرة إلى المدن التي تكون تكلفتها مرتفعة على العالم القروي وحتى الحضري …
إن العمل الديبلوماسي والحكومي يجب أن يواكب بقوة أوضاع المهاجرين في كل تفاصيلها ، وان يكون حضور الدولة إنسانيا واجتماعيا وتضامنيا ، ومؤازرة سياسية وحقوقية لهم ، ومواكبة دائمة تنسق لفائدة حماية وخدمة مصالح المهاجرين ببلدان الهجرة من جهة ، وتيسير علاقاتهم بأسرهم ومناطقهم بالوطن ..مع ما يتطلبه الأمر من تأطير تربوي وتعليمي للغتين الأمازيغية والعربية والثقافة والتراث الوطني والتاريخ …
إن كل أسباب ودوافع الهجرة وعلى رأسها التنمية والتشغيل والاستقرار ..جعلت المغرب يتحول إلى جهة متسامحة لاستقبال أفواج المهاجرين من دول الجنوب بإفريقيا وحتى من الذين لم يجدوا ترحيبا بدول الجوار لينضموا إلى كل المتحينين للفرص من المغاربة والمغربيات للبحث عن وسيلة لدخول أوروبا والاستقرار بها ، وهذه الوضعية أصبحت ظاهرة يلاحظها الجميع في أغلب المدن وبالمناطق الشمالية .. تحتاج إلى انتباه واهتمام جدي يهم بنية الاستقبال والإدماج حيث إن غالبيتهم يعيشون في ظروف قد تتسبب في مشاكل غير متوقعة وقد تكون سلبياتها وتاثيراتها غير محمودة ولا مقبولة ، إن دقة المرحلة وتعقيدات المستقبل تتطلب إقرار رؤية واستراتيجية بديلة قوامها تنمية ونهضة اقتصادية واجتماعية وديمقراطية واستثمار وتوزيع عادل للثروات والخيرات والكفاءات والقدرات على كل ساكنة المغرب ومناطقهم حواضر وقرى ، والقطع مع المبادرات التجميلية والانتقائية والانتقالية والمؤقتة ..
إن الهجرة ليست كلها سلبية بل تعتبر ضرورية لتجدد وتطور المجتمعات الإنسانية ، لكنها تحتاج إلى فلسفة وسياسة تتعامل معها كمعطى لايمكن تعطيله ومنعه ..بل أن تتعاون كل دول العالم لتجعلها متبادلة وفي جميع الاتجاهات من الجنوب إلى الشمال ، ومن الشمال إلى الجنوب ، وشرقا وغربا لتحقيق تنمية مشتركة تضمن تطورا وازدهارا مطردا ، وتدعم اكتشاف وتأهيل الكفاءات والطاقات البشرية الخلاقة وإدماجها في التنمية ، وليكون الرأسمال والثروة في خدمة الإنسانية ، ولتطوير مفهوم الوطن بخلق تكتلات واتحادات بقوانين واقتصاد مشترك وقوي ،
..إن الدول المغاربية بشمال إفريقيا ، والتي تمتلك من المقومات والمؤهلات والثروات والعلماء والخبراء والمبدعين ما يجعلها تصبح في قوة الإتحاد الاوروبي وأكثر، لتتحول من دول عبور إلى دول تنمية ورائدة لنهضة واستقرار دول الجنوب والقارة الإفريقية …
تارودانت : الخميس 05 يوليوز 2018.
الكاتب : بقلم: مصطفى المتوكل الساحلي - بتاريخ : 06/07/2018