موت الحضارة

فريدة بوفتاس

تحديد مفهوم الحضارة يحيلنا في الغالب إلى مظاهر التقدم التي أنجزها الإنسان منذ أكثر من ستة ٱلاف سنة، في ظل شروط موضوعية تعددت العوامل الفاعلة فيها .
وبدخول الإنسان مرحلة الحضارة، حيث ظهور الزراعة والتجارة وحصول فائض من الغذاء، مع تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وفيما بعد ظهور مهن وحرف كمظهر لازدهار منطقة ما. يكون الإنسان بذلك قد تجاوز غيره من الكائنات الأخرى غير العاقلة.
فبامتلاكه وحده القدرة على التفكير، استطاع أن يبني إلى جانب عالم الطبيعة المادي المحض، عالما أخر. إنه العالم الثقافي الحضاري، الذي انبثق وتطور عبر سيرورة معقدة في تفاعل تام مع ما يجري من حول الانسان، وهو بصدد تحويل العالم الخارجي عبر الشغل بقصدية السيطرة عليه، لصالح إشباع حاجاته، وبعدها إشباع رغباته، محققا من خلال كل هذا وعيه بذاته .
وهو الكائن الذي تحكمه النوازع الغريزية (الحيوانية)، يكون، باختراعه عالم الحضارة، قد ابتعد بوجوده كانسان، من وجود يهيمن عليه التوحش، والعنف… واعتماد القوة من أجل تحصين البقاء، إلى وجود يخلو من ما يشي بحضور الجانب البهيمي الخالي من كل تعقل، والخاضع فقط للضرورة .
الانتقال من الحيوانية التي يحكمها الغريزي واستخدام القوة الجسدية لتحصين البقاء، إلى الحضارة، أي الى مرحلة توظيف ما ميزه عن كائن غير عاقل، يدفعنا الى ان نتساءل بخصوص هذه الطفرة التي عرفها الإنسان، على ضوء على ما عاشه من حروب وإبادات… أي كل العنف الذي صدر عنه، ومر منه عبر كل الحضارات:
هل مشروع الإنسان الحضاري مشروع فاشل؟
ألا يحق لنا أن نعلن موت الحضارة الإنسانية؟
يصعب كثيرا أن ننفي هذه القضية، حتى وان كان من سيحاجج على ضدها، بأن الإنسان عرف تطورا، وتقدما لا نظير لهما على كافة المستويات، أليس هو من سكن الكهوف، والآن هو ساكن الناطحات؟
أليس هو من هزم الجهل بالطبيعة، حين أدرك العلاقات الثابتة بين ظواهرها، أو حتى في نسبتيها، ليصول في الفضاء وما تحته؟
أليس هو مبدع كل الفنون بمختلف ألوانها، الآداب، المسرح، السينما، الموسيقى، والشعر، الفلسفة، العلم ؟
مبدع القوانين، واضع التعاقدات، أليس هو مخترع الديمقراطية، المنقلب على الديكتاتورية، الطوباوي، الفوضي، السلفي، التقدمي، المتنور، الظلام… أليس هو كل هذا؟
أليس هو مكتشف القارات ومستعبدها؟
أليس هو من توصل إلى ميثاق عالمي يضمن للإنسان حقوقه كلها؟
تأمل كان سيجعله يدرك أنه أمات في أعماقه إنسانيته، وعمق جذور القلق على مصيره على هذا الكوكب الذي لم ينجح أيضا في الحفاظ على عذريته، مثلما فشل في تحقيق توازن، وأمن، وسلام، وحوار بين الجميع، بعيدا عن الصراعات في العالم الذي سار نحو الضياع، بعد إفلاس الإنسان في إثبات دخوله الفعلي، والناجع إلى عالم التحضر، وبهذا يكون قد أعلن بغير تدبر أو ترو، موت الحضارة التي تغنى كثيرا بانتمائه إليها .

الكاتب : فريدة بوفتاس - بتاريخ : 16/11/2023

التعليقات مغلقة.