ميركل القائدة التي أبهرت العالم !

اسماعيل الحلوتي

في عالم يشهد الكثير من التحولات والتطورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة وتتسابق فيه المجتمعات الإنسانية في اتجاه تحقيق التقدم والازدهار، أظهرت عدة تجارب أن بناء دولة متماسكة وضمان استقرارها ورفاه شعبها رهين بوجود أحزاب سياسية قوية بقيادة شخصيات وطنية وازنة، في مستوى الالتزام بالمسؤولية، تتميز بالحكمة والصبر والتبصر وتتحلى بالاستقامة والنزاهة ونكران الذات. تكون قادرة على دراسة وتحليل الواقع بموضوعية واستشراف آفاق المستقبل، وتمتلك من الخبرة ما يؤهلها لابتكار أنجع الحلول للمشاكل المطروحة، رفع التحديات وكسب رهانات التنمية…
وبما أن المشهد السياسي ببلادنا فقد الكثير من مقوماته خلال السنوات الأخيرة، وأنه رغم ما جاء به دستور 2011 من مقتضيات متقدمة وصلاحيات غير مسبوقة لفائدة رئاسة الحكومة، لم يعد يبعث على الاطمئنان. حيث أصبحت الساحة السياسية مستباحة من قبل أشخاص يفتقرون إلى ذلك الضمير الحي وتلك الغيرة الوطنية وفق ما كان عليه الأمر في الزمن الجميل، الذي عرف جيلا من السياسيين المخلصين وقادة من الشرفاء ذوي الكاريزمات المحترمة والخصال الحميدة. وتحولت إلى مرتع لعدد من الانتهازيين والشعبويين، الذين جعلوا من «السياسة» سلما للارتقاء نحو الاغتناء وتحسين ظروف عيشهم، مرجحين مصالحهم الذاتية والحزبية الضيقة على المصلحة العليا للوطن، غير مكترثين بهموم وانشغالات الجماهير الشعبية، التي ما انفكت تتطلع إلى التحرر من قيود التخلف والفقر والأمية والبطالة والتهميش والإقصاء، وتتوق إلى الإصلاح والتغيير…
وبما أنه لم تجد نفعا تلك الانتقادات القاسية التي وجهها ملك البلاد محمد السادس للأحزاب والنخبة السياسية في خطاب العرش بمناسبة الذكرى 18 لتوليه الحكم، والتي أبدى من خلالها امتعاضه من الطريقة التي يمارس بها العمل السياسي، ومصرحا في ذات الوقت بفقدانه الثقة في بعض السياسيين، الذين ألهتهم الصراعات الحزبية والمزايدات السياسوية عن أهم قضايا البلاد ومصالح العباد. وأنه لم يلبث أن عاد بعد سنتين وفي نفس المناسبة، لتكليف رئيس الحكومة سعد الدين العثماني الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة لولايتين متتاليتين، بأن يرفع لنظره مقترحات بشأن إغناء وتجديد مناصب المسؤولية الحكومية بكفاءات وطنية عالية المستوى، على أساس الكفاءة والاستحقاق يكون بمقدورها تحمل مسؤولية تنفيذ النموذج التنموي الجديد، الذي أوكلت مهمة بلورته إلى لجنة ملكية خاصة، مما يعكس حاجة الأحزاب السياسية إلى نخب جديدة ومقتدرة…
إننا نربأ بأنفسنا عن الخوض في ما صار عليه الحقل السياسي من عبث، إذ مجرد سماع أسماء بعض المنتمين إليه يشعرك بالاشمئزاز والاستفزاز. وأن يقتصر حديثنا هنا في هذه الورقة المتواضعة على تجربة متميزة من خارج الحدود، ويتعلق الأمر بتجربة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل زعيمة الحزب الديموقراطي المسيحي، التي استطاعت بما لديها من قدرات علمية عالية وخبرة سياسية عميقة قيادة حزبها قرابة عقدين بحزم، إلى الحد الذي وصفتها فيه مجلة «فوربيس» الأمريكية الشهيرة بالمرأة الأقوى في العالم، فيما يصفها إعلام بلادها بالمرأة الحديدية. إذ تم انتخابها أمينة عامة للحزب سنة 1998 قبل توليها رئاسته بعد أربع سنوات فقط، وهي أول امرأة يقودها اجتهادها وانضباطها إلى اعتلاء كرسي الحكم في نونبر 2005 بجمهورية ألمانيا الاتحادية وتحدث ثورة حقيقية تمثلت في اتخاذ قرارات جريئة، ساهمت في إحداث العديد من الإصلاحات الكبرى ببلادها…
ف»ماما» ميركل كما أطلق عليها السوريون النازحون إثر اتخاذها قرارا إنسانيا باستقبال بلادها سنة 2015 مليون لاجئ عربي وإيلائهم الرعاية اللازمة، غير مبالية بكلفته السياسية وانعكاساته على شعبيتها. ويشار إلى أنها ركبت قطار السياسية مبكرا في رحلة استثنائية، إذ كانت من أبرز قياديات الحركة الثورية الشبابية في ألمانيا الشرقية، اكتسبت خلال مسارها النضالي اللامع خبرة واسعة وتعلمت فن التواصل والتصرف بمسؤولية كبيرة وهدوء أكبر مع كبار الشخصيات داخل وخارج بلادها. فضلا عن اتسامها بروح الدعابة التي ظلت حريصة على عدم إظهارها أمام الجمهور، خلافا لما اعتاد عليه بعض «الزعماء» في بلادنا من تهريج وصراخ وسرد النكت «الحامضة»، دون أدنى احترام لمناصبهم السامية وما يلزمهم من واجب التحفظ…
فها هي ميركل التي انتخبها الألمان قادت حزبها بإرادة فولاذية في اتجاه ترجمة أهدافه المسطرة على أرض الواقع في إطار من المسؤولية المشتركة، كما قادت بلادها بحكمة وتبصر نحو رفع الكثير من التحديات الجيوسياسية الحاسمة وتجاوز عديد الأزمات الاقتصادية والسياسية، تترجل اليوم معلنة عن تواريها إلى الخلف والعودة إلى بيتها المتواضع وسط جيرانها، دون حاجة إلى حرس أو سيارة مصفحة، وهي مرتاحة البال وجد مطمئنة على وطنها، بعد أن أدت رسالتها بأمانة ووفق ما أملاه عليها الواجب والضمير، من غير أن تجعل من مسؤوليتها السياسية غطاء لتحقيق الثروة أو استغلال منصبها لأغراض حزبية أو عائلية. وأنها علاوة على ما أسدته لبلادها والاتحاد الأوربي والإنسانية من خدمات جليلة، لم تفاخر يوما بتجربتها الموفقة ولم تسع إلى الابتزاز أو الحصول على امتيازات من المال العام…
إن اختيار ميركل نموذجا سياسيا ناجحا ليس فقط بهدف إعطاء درس بليغ للقادة السياسيين ببلادنا، الذين لا يجمعهم بالسياسة عدا التهافت على المناصب والمكاسب والمصالح الحزبية الضيقة، وإنما للتأكيد على أن دور المرأة في القيادة لا يقل شأنا عن دور الرجل، وأن عالمنا العربي اليوم بحاجة إلى ثورات فكرية وسياسية تقودها نساء إلى جانب الرجال.

الكاتب : اسماعيل الحلوتي - بتاريخ : 02/02/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *