نتائج السياسات المتبعة وضرورات المرحلة

بقلم: مصطفى المتوكل الساحلي

بعد عقود من سياسات التدافع غير المتوازن واللامتكافئ و اللاديموقراطي والتي نتجت عنها حملات اعتقالات واسعة واختفاءات عديدة وانتهاكات لحقوق الإنسان  داخل المعتقلات وخارجها والنفي والإبعاد القسري والإرادي ، وبعد الطرد والتضييق على الأرزاق وقطعها بسبب الإضرابات وغيرها، وبعد معاناة أسر المضطهدين والمقموعين الذين يعدون بالآلاف .. أقدمت الدولة المغربية النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي على فتح صفحة جديدة  باتفاق مع زعماء المعارضة المغربية وعلى رأسهم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الاتحاد الوطني سابقا وما تفرع عنهما من منظمات وأحزاب يسارية من أجل : المصالحة  في علاقة بماسمي من طرف المعارضة والدولة بالانتهاكات الجسيمة وسنوات الجمر والرصاص .. ، وبموازاة مع ذلك  الإقدام على إصلاحات سياسية وتشريعية في أفق بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات ، كمرحلة انتقالية تطوى بموجبها المواجهات النضالية المختلفة الوسائل والقمع بكل أشكاله …
وبعد ما يناهز عقدين من انطلاق هذه المبادرة المهمة لنا أن نتساءل كل من موقعه ، هل تحققت الأهداف والنتائج المتوخاة في علاقة بالطي النهائي لصفحة الماضي ؟ وهل تم القطع مع انتهاكات أو تجاوزات حقوقية وإنسانية وسياسية واجتماعية طوال العقدين الماضيين ؟ هل طويت صفحة التخلف والظلم الاقتصادي والاجتماعي ؟ ….
لهذا لابد أن نستحضر من معطيات وتقارير ودراسات تلك الحقبة أن من أسباب القمع والانتهاكات تضارب المصالح والرؤى  السياسية والأهداف في علاقة بسعى  أطراف الصراع  من أجل بناء مجتمع ودولة الغد الذي يطمئن إليه الجميع وتتحقق فيه  مطالبه ومطامحه … ، فالدولة كانت تتخوف من نمو قوة  المعارضة  وإمكانية تمكنها من الحكم  لتنزيل تصورها لبناء  مؤسسات وطنية حداثية ديموقراطية  ما بعد الاستعمار ، وكان هذا  يعتبر  بأنه سعي لسلب  بعض مؤسسات الدولة جوهر  اختصاصاتها ومكانتها، بإقرار دستور  يؤطر ديموقراطيا لتمثيليات منتخبة من الشعب تعبر عن إرادته وتسعى لنموه  مع نقل السلطات للمؤسسات التي تفرزها صناديق الاقتراع  ومنها الحكومة التي تتشكل وفقا لنتائج وتحالفات وتوافقات  الاستحقاقات.
وعرفت تلك العقود سياسات الردع والتضييق والقمع وبوضع تشريعات تدعمها  بما فيه تلك توبع بها الوطنيون زمن الاستعمار، كما شهدت أقوى  الخطوات والمبادرات  السياسية التنظيمية والتأطيرية والنضالية حزبيا ونقابيا واجتماعيا ، كما عرفت تلك الحقبة زخما تقدميا ويساريا  فكريا وثقافيا وإبداعيا  في أكثر من مجال  وكان المجتمع بطبقاته الشعبية وبورجوازيته الصغيرة والمتوسطة وحتى البعض من الأغنياء في مستويات وعي متميزة ومتجاوبة بشكل واسع مع المعارضة في المدن وفي العديد من المناطق القروية ، فكانت نتائج الانتخابات في أوائل الستينات بفضل مؤسسي الاتحاد واليسار من الوطنيين المجاهدين والمقاومين الذين يحضون بمصداقية كبيرة …كما وثق التاريخ  مواجهات  بين أطراف الصراع تجمل مرجعياتها وروحها في  بيانات قوية  بخطابها ومطالبها الجريئة مدعمة بحراك جماعي شعبي ومدني، كما كانت مواقف وبيانات الدولة تتجاوز في قوتها وردوج افعاله تحركات المعارضين لتكسير شوكتهم وتقزيمهم وعزلهم عن المجتمع ،، فحصل التدافع العنيف الذي حققت به الدولة ضبطا وتحكما  مباشرا أو غير مباشر للعمل السياسي اليساري والتقدمي ، وتعطيلا للمناضلين والقياديين بالاعتقال والنفي والاختطاف وباستقطاب البعض منهم وتحولهم إلى خصوم لرفاق امسهم المشترك .. ولقد حرصت الدولة لاعترافها  بأهمية ومكانة ووطنية رجالات السياسة آنذاك لأن أغلبهم حارب وقاوم الاستعمار وعمل بفعالية في مفاوضات الاستقلال  بتنسيق وتشاور مع المؤسسة الملكية ، بحرصها على  إبقاء  مساحات انفراج  تتوخى فيها  تحقيق  توافقات « ممكنة « بالاستجابة لبعض المطالب السياسية   المفتقرة للفعالية والجدية في التطبيق ،
ولقد حققت المعارضة رغم حالات الاستثناء تحديا إيجابيا باستمرار وجودها الرمزي والأخلاقي القوي  بفضل قيادتها الوطنية ومناضليها ومناضلاتها  بالداخل  والمنافي، وهذا التاريخ بهؤلاء الرجال والنساء هو الذي جعل الاتحاد الاشتراكي اتحادا للقوات الشعبية وحركة تقدمية  لها مكانتها على  الصعيد الرسمي  والمنظمات الجماهيرية عالميا ..
وفي علاقة بين الماضي والحاضر وخاصة في العشرية الأخيرة 2011 حتى 2020. يمكن القول إن العديد من القرارات والتشريعات والسياسات المعتمدة من طرف الحكومات المتتالية خلالها  ألحقت الضرر الكبير بالعديد من المكتسبات ، وزعزعت حتى ما تبقى من التوازن الاجتماعي ، ووسعت من الفوارق الطبقية ، وألحقت الضرر الجسيم بالمجتمع واقتصاد الطبقة المتوسطة التي تضم الشغيلة والموظفين بالقطاع العام وشبه العام و بالقطاع الخاص والخدمات  بما في ذلك الفلاحي .. إلخ  ،  كل هذا وغيره خلق وتسبب في احتقان وأزمة اقتصادية واجتماعية  أثرت بشكل سلبي كبير  على سوق التشغيل والخدمات الاجتماعية وخاصة الصحية ، وأضر  بمهام وأدوار قطاع التعليم العمومي بكل أسلاكه ،  وأفرز تدمرا كبيرا وسط الشباب العاطل وخريجي الجامعات ومؤسسات التكوين المختلفة .. إلخ
إن ما  يهمنا هنا هو أن نسجل  الفرق الأساسي  بين الحقبتين :
فقبل المصالحة والتناوب التوافقي  كانت أحزاب اليسار والأحزاب الوطنية الديموقراطية وفي مقدمتهم الاتحاد الاشتراكي  مصطفة  مع الشعب يؤطرون نضالاته شبابيا ونقابيا واقتصاديا واجتماعيا ، وكان ترافع المناضلين والمناضلات من القيادة  إلى القواعد يقود ويؤطر  وينظم  النضالات ومختلف أنواع الحراك بشكل حضاري ، فأحيانا يكبحون جماح التسلط ومرات  يفشلون تمادي الحكومات في سياساتها المجحفة  التي تمس بحقوق الشعب ، كما  يبرعون في  التدافع النضالي بحس وطني   بإصدار مواقف سياسية قوية ، وإطلاق مبادرات نضالية في كل الواجهات ومنها البرلمان بترافع راق وحكيم كان يتتبعه الرأي العام باهتمام وحماسة زمن جلسات الأسئلة الشفهية  التي يرى فيها الشعب ممثليه الحقيقيين مصطفين معه بصدق قولا وعملا .
وبعد انطلاق الإنصاف والمصالحة وما بعد حكومة التناوب،وبدل تقوية  التنظيم في جميع القطاعات وتحديثه وعصرنته وتثمين جبهة النضال الوطني الضامنة لمأسسة  التأطير ونجاعته  ،   تفككت آليات النضال وتوازن القوى بتفكك لحمة النواة الصلبة للقيادة بتفريطها وتعاملها  الغريب مع مبادئ وهوية الحزب النضالية في علاقتها بتدبير الزمن السياسي والشعبي والزمن  الحكومي  ، وتعطيلها لمواقف الحزب الشعبية بسبب الخلط  الذي لم يضع مسافة فاصلة موضوعية بين التواجد بالحكومة وبالمؤسسات المنتخبة واستمرار الأداء النضالي الذي لاشك كان سيشكل قوة دعم للتغيير والإصلاح بالحكومة في مواجهة قوى المحافظة ومناهضة التغيير ، وتم تسجيل تباعد متدرج في الطروحات والأولويات كشف عن تناقض وتضارب في سياسات الحزب  وعدم مسايرتها أحيانا للروح النضالية للاتحاد في علاقة بالمواطنين والمواطنات وانتظاراتهم الفعلية .
هكذا تفرغ الاتحاديون والاتحاديات لتصريف مواقف وأفعال أغرقت الحزب في مشاكل وصراعات  بمبررات مختلفة طالت الشبيبة الاتحادية والعمل النقابي القوي بتخندقات  عشوائية وراء تكثلات تؤطرها بعض القيادات لغايات خاصة  حيث اتسم الوضع  بغموض ونزوع واضح نحو التحكم والنزعات التبريرية العقيمة  ،
إن كل من كان وراء الاصطفافات  التي وقعت داخل الحزب ومنظماته الموازية يتقاسمون نفس النوايا بتباين في مضامينها وغاياتها  ، وارتكبوا  نفس الأخطاء والانزلاقات التي تسببت في التعطيل والتباعد ،  فاعتزل من اعتزل ،  وفتحت صراعات تفتقد لقواعد وآداب الاختلاف والديموقراطية واللياقة والعقلانية والوضوح والموضوعية ، فأصبح الحزب في حاجة استعجالية وقوية  للإنقاذ   في الوقت الذي كانت كل مهامه وطموحه وحتى رغبة الدولة والمجتمع   أن يكون وراء  إنقاذ المغرب من السكتة القلبية وغيرها من السكتات  وهذا المنحى جعل العديد من القياديين والمناضلين ينبهون ويحذرون ومنهم عبد الواحد الراضي الكاتب الأول السابق للحزب ورئيس لجنة الأخلاقيات  الحالية الذي شبه الحالة بالاتجاه إلى « انتحار جماعي  « ..
هكذا تسببت  بعض القيادات الاتحادية ومن معها بالقواعد  في أن يجد المغرب نفسه قد ضيع وهج واهمية النضال اليساري ، واختلت بوصلته ، وتضررت سلامة المواقف السياسية  ، و»تفككت» و «تجمدت» بنيات وحركيات قطاعات نضالية اتحادية  عريقة  ، وتضرر منسوب الوعي والتأطير بشكل كبير ، وكان أكبر متضرر خلال هذه المرحلة الوطن ثم اليسار والاتحاد الاشتراكي  حيث وقع الإخلال بأهم  قواعد النضال التي وجد من أجلها والتي تشكل أساسا  وطنيا  لوجوده  أي الترافع والإرتباط بقضايا الشعب ، فأصبح  عامة الناس في مواجهة غير متكافئة مع أضرار السياسات المعتمدة  التي جعلتهم يفقدون الأمل ويتشككون في الجميع ، في مقابل مواقف وخطاب  غير مقنع  ، فحصل تباعد في  الاصطفافات البناءة  مع قضايا الناس بسبب الوهن والانشغال بما لايهم الرأي العام  ،  فحتى  النقابات التي يقودها المناضلون والمناضلات المنتمون للاتحاد ورفاقهم باليسار والعمل الوطني الديموقراطي  لم تعد قادرة  على الحفاظ على تماسكها وقوتها ومكانتها الرائدة ولا أن تقوم بمهامها وأدوارها الرائدة التي أنجزتها  بكفاءة في أزمنة الأزمة والشدة ، كما أن  مواقفها وبياناتها لا تقنع حتى من يصوغها  ..
اليوم نقول ما يعرفه الجميع ويترصده أهل الاختصاص والخبراء :
ما الذي ستفرزه كل هذه التراجعات والأزمات بالمجتمع ؟ وهل سيكون بإمكاننا جميعا احتواء وتصحيح كل هذه الاختلالات  في مدة زمنية معقولة  تنعش التفاؤل والحماس في الأنفس بالتنزيل المتوالي للعدالة الاقتصادية والاجتماعية والمجالية والمعرفية ..؟ وهل يمكننا جميعا وأخص بالذكر الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن نقدم على قرارات ومواقف فعلية ملموسة  تطبق فورا  ليسترجع الحزب قبل الاستحقاقات وهجه وقوته ومكانته الريادية النضالية التقدمية إلى جانب الجماهير الشعبية ؟
إننا أصبحنا في حاجة كبيرة لمصالحة أكثر تنظيما وعقلانية من المصالحة التي أنجزت أشطر منها  مع الدولة بالاستفادة من كل الأخطاء التي وقع فيها الجميع والتي  يتحمل كل طرف وكل واحد نصيبه من المسؤولية فيما حصل إيجابا وسلبا .. مصالحة لاتكون على حساب المبادئ والتاريخ المشرف والنضالي للحزب وتضحيات الشرفاء والشريفات ، ولاتعتمد تبريرات واهية للحصول على تمثيلية عمومية بالمؤسسات المنتخبة بمن هب ودب من الرحل أو من لامبدأ  لهم  لأن لهم فقط  « الطرق « المحققة  للفوز بالمقعد بغض النظر عن هوية واسم  الحزب ..
ولتسائل  الدولة نفسها ،  وليسائل كل حزب نفسه من سيقوم بتوعية و تأطير وتنظيم  مكونات المجتمع ، ويستحق فعليا أن يكون ناطقا  ومترافعا صادقا باسمهم  يحظى بثقة من يمثلهم أو يلتجؤون إليه لطرح قضاياهم أو يتبنى ملفاتهم ومطالبهم ويحميهم من كل القرارات والسياسات التي ألحقت أو ستلحق  الضرر بمجالات مختلفة  في العالم القروي والحواضر  وبالعدالة الاقتصادية والاجتماعية …؟
إن اجتماع ضعف منسوب ثقة الناس في المؤسسات والسياسات والأحزاب  ، والآثار الخطيرة والمدمرة  لوباء كورونة / كوفيد 19  يشكلان أكبر  تهديد للجميع بسبب حجم التكلفة و لصعوبة التنبؤ  والتحكم بمساراتهما وتداعياتهما إن لم يقدم العلاج الكامل و الشافي  والحلول والبدائل  الناجعة  …  ، إنهما يشكلان أكبر  دافع للجميع للقطع مع العبث السياسي والسياسات التفقيرية  والإرتجالية ، والتفكير النخبوي البئيس الذي يتوهم أن السياسات الحكيمة والجدية و عمليات البناء من مهام  الساسة والنخب  ، وأن الإنقاذ لايكون  بالمزيد من التفقير والإضرار بالطبقات الشعبية  ،  فالذين لايستحضرون بجدية ومحبة صوفية مصالح الشعب والوطن وهم يخططون أو يتخذون قراراتهم  يلقون بأنفسهم والناس إلى التهلكة ،، فالحكمة الحكمة  ،، والعمل العمل مع الوطن والشعب أولا وأخيرا  ، ،  وإيانا وإياكم  استصغار إرادة الشعب والاستخفاف بمطالبهم المشروعة ، وعدم تقدير تضحياتهم الكبيرة وصبرهم المرهق  ..

الكاتب : بقلم: مصطفى المتوكل الساحلي - بتاريخ : 25/09/2020