نتحدث عن الحداثة…ولكن عن أي حداثة…؟

محمد أديب السلاوي

1
على واجهة الإعلام العربي والدولي، وفي المنابر الأكاديمية العالمية، تردد / يتردد مصطلح ” الحداثة” بكثافة، على ألسنة المفكرين السياسيين والاقتصاديين، كما على ألسنة الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى ان مصطلح الحداثة، صعب التحديد لغويا وعلميا، إلا أنه أصبح يستخدم إعلاميا لتحديد مرحلة فنية / صناعية / حضارية متميزة آخذة في التلاشي والاضمحلال، وطهور مرحلة جديدة ، ذات مواصفات وقيم حديثة.
“الحداثة” في مفاهيمها الغربية، هي ذلك الوعي المتجدد بمتغيرات الحياة/ هي تلك المستجدات الحضارية المتوالية / هي الانسلاخ من الماضي، ومن هيمنة أفكاره ومنجزاته والانخراط الشامل في العصر الحديث بقيمه الثقافية والحضارية.
والحداثة في هذه المفاهيم، ليست ظاهرة مقصورة على فئة أو طائفة أو نخبة أو جنس معين، فهي استجابة حضارية للقفز على الثوابت، وتأكيد مبدأ استقلالية العقل الفاعل، تجاه التجارب والانجازات السابقة في كل المجالات ولدى كل الشعوب.
ان مرتكزات الحداثة الغربية في نظر العديد من الباحثين(1)، تمثلت في ظواهر كبرى بارزة للعيان هي : الثورة العلمية والتقنية الهائلة التي غيرت جذريا نظام المعارف و حورت وقلبت الوضع الإنساني نفسه بما وفرته من ادوات تحكم وتسيطر على الوسط الطبيعي/ الدولة المدنية الحديثة بنظمها المؤسسية وعقلانيتها البيروقراطية وشرعيتها المجتمعية في مقابل الدولة الاستبدادية الفردية / هي المثل والقيم الانسانية التي شكلت القاعدة الفكرية والايديولوجية لمسار الحداثة من حيث هي إعلان لشأن الانسان وتكريس لحريته الذاتية.
والواقع ان هذه الظواهر الثلاث تتلخص فلسفيا في منطلقين أساسيين هما :
•النموذج الرياضي-التجريبي : أي اعادة بناء المعارف والعلوم على معيار القابلية للتحقق التجريبي، واعتبار الطبيعة من هذا المنظور مخزون طاقة يستغل لتكريس سيطرة الانسان، وبالتالي تحويل المعرفة الى وظيفة نفعية اداتية ليست في ذاتها مقولة علمية، وان كانت المصادرة الميتافيزيقية التي يقتضيها معيار” اليقين العلمي” كما بين ذلك الفيلسوف الالماني هايدغر.
•مفهوم ” الذاتية” الذي اعتبره هيغل مفتاح فهم العصور الحديثة، ويعني هذا المفهوم تكريس مرجعية الذات ومحوريتها في مسار المعرفة من حيث هو تأمل وتفكير للوصول لليقين عبر حركية داخلية تتم ضمن الوعي نفسه، سواء اعتبرت مفاهيم الوعي افكارا تنتمي عضويا اليه أو ترد اليه عبر التجربة، أو هي مركب منهما.
ويعني هذا المفهوم في ماوراء هذه التحديات الانطولوجية تكريس حرية الانسان في تجسيد ارادته “المطلقة” في بناء وعيه واختيار مؤسساته وادارة حرياته الشخصية.

ومن الواضح ان هذا الإطار المرجعي- القيمي للحداثة أصبح اليوم-في الظاهر على الأقل- ملكا مشاعا بين الأمم والثقافات، فالجميع يتحدث عن امتلاك ناصية العلوم والتقنيات شرطا للتقدم والتحديث والنمو، والدول كلها تتبنى قيم الحريات العامة وحقوق الإنسان واحترام إرادة المواطن.حتى ولو كانت الجذور الفلسفية والنظرية لهذه المفاهيم تظل غائبة ومسكوتا عنها (2).
2
والسؤال الذي مازال يطرح نفسه بقوة على عالم اليوم : ماهي الحداثة؟ هل هي مشروع تحديث يقوم أساسا على العلم والتقنية، في رؤية عقلانية تتغلب فيها الثقافة على الطبيعة ويصبح الإنسان فيها مركزا للكون ومصدرا للقيم. أي تلك الرؤية التي أحدثت قطيعة بين الإنسان وماضيه، عن طريق ضبط عقلاني للتطور العلمي-التقني، أم الحداثة هي سلسلة عمليات للتحديث تقوم على فعاليات تراكمية يدعم بعضها بعضا، وتتجه نحو نمو علمي وفني وسياسي واقتصادي، ” في درب العقلنة التي اختص بها الغرب” الذي يربط وجوده”رابط داخلي” لم يكن عرضيا، والذي أنتج بدوره علمنة الثقافة وعقلنتها، بالتوازي مع نمو المجتمعات وقواها المنتجة وزيادة إنتاجية العمل وتمركز السلطات السياسية وكذلك تشكيل الهويات الوطنية ومبادئ حقوق الإنسان (3).
بدأت الحداثة، بحسب هيغل، مع عصر الانوار، بفعل اولئك الذين أظهروا وعيا وبصيرة، باعتبار ان هذا العصر هو ” حد فاصل” أو “مرحلة نهائية في التاريخ” في هذا العالم الذي هو عالمنا، ويفهم من هذا ان الحداثة، استمرارية الزمن الحاضر في أفق الأزمنة الحديثة التي تشكل تجددا مستمرا(4).
وفي الواقع، كان هيغل اول فيلسوف طور مفهوم الحداثة ووضع مدلولا للعلاقة الداخلية القائمة بين الحداثة والعقلانية، واستخدام هذه العلاقة ضمن سياق تاريخي للدلالة على الأزمنة الحديثة، واعتبارها مفهوما زمنيا يعبر عن القناعة بالزمن المعاش والمرهون بالمستقبل والمنفتح على الجديد الآتي، الذي يتضمن وعيا تاريخيا جديدا يفصل بين الزمن القائم الذي يعاصره، والذي يبدأ مع عصر الأنوار والثورة الفرنسية وحركات الإصلاح الديني التي جاءت لاحقة لذلك.
يعني هذا في نظر العديد من الباحثين المختصين (5)، أن الفكر الغربي يتميز منذ عصر النهضة إلى الآن بكونه لا يتوقف عن مساءلة مقوماته وأساليب اشتغاله، الأمر الذي جعل من النقد مكونا من مكونات النظر إلى الذات والأشياء والزمن.حتى أن عصر الأنوار كرس هذا الإجراء الفكري وأعطاه بعده العقلي. ومنذ بدايات ما يسمى بالحداثة الفكرية وهذه الحداثة لا تكف عن محاسبة نتائجها بأساليب تسترشد بمقاييس العقل والعلم لأن الفكر الفلسفي الغربي، منذ ديكارت إلى الستينيات من القرن الماضي، استبعد عموما كل الملكات الإنسانية الأخرى من أهواء وخيال واعتبرها مصدرا للخطأ وعنصرا مشوشا على المعرفة الحقة.
هكذا يمكن النظر للحداثة من جهتين متكافئتين، بمكن النظر إليها كانفتاح لحقل إمكاني أي لحقل من الممكنات التاريخية انطلاقا من تمازج وانصهار الروحين : العلمية والتحررية السياسية، ويمكن النظر إليها كتجربة ثقافية خصوصية في فهم وتأويل هذا الانفتاح وفي تأسيس عالم تاريخي جديد انطلاقا من هذا التأويل(6)، وفي هذه الحالة يمكن القول بأن الحداثة كتجربة خصوصية غربية لم تستنفذ هذا الحقل الامكاني الناشئ من تمازج الروحين العلمية والتحررية وليست الإمكانية الوحيدة داخله، وهذا التمييز الذي قمنا به بين هاتين الدلالتين غير المتكافئتين للحداثة يفتح مسلكين كبيرين للتفكير:
•إعادة النظر الجذري في الحقل الامكاني الآنف الذكر، وفي ممكناته التي استنفذت خارج إكراهات التأويل الخصوصي الثقافي الغربي له.

•وأما المسلك الثاني فيتمثل في اعادة تشكيل الوعي الفلسفي للأزمنة الحديثة بذاتها وفي الفحص النقدي لفعلها التأسيسي المؤطر لمساراتها اللاحقة والمتمثل في تأويل تمازج الروحين العلمية والتحررية وفي النظر في هذه المسارات وفي مفضياتها ومآلاتها التاريخية وفي المطالب التي انتهت اليها.
3
عربيا، يعود ظهور مصطلح الحداثة الى مطلع القرن الثامن عشر، مع ظهور القوافل الاستعمارية الأولى على الخريطة العربية، التي أشعرت الأمة العربية، أنها متخلفة عن الركب الحضاري الإنساني، والتي حفزت همم عربية عديدة ونخب عربية عديدة لمواجهة القوافل الغازية من جهة، والدعوة الى الانخراط في العصر الحديث، والاستفادة من منجزاته وصنائعه وقيمه الحضارية. وما انفكت هذه النخب والهمم منذ محمد عبده وحتى الآن، وطوال قرنين من الزمان تناضل من أجل الخروج من أزمات التخلف، والانخراط في العهد الحضاري الجديد، مع التمسك بالهوية العربية / الإسلامية.
في كتابه ” العرب والحداثة…دراسة في مقالات الحداثيين” يضع الدكتور عبد الالاه بلقزيز أفكار هؤلاء، وسمات خطابهم، ومدى عقلانيته، ونقاط ضعفه وقوته، موضع تساؤل في محاولة جادة لإعادة كتابة تاريخ الحداثة في الفكر العربي المعاصر. وفي هذا الإطار، يميز الكاتب بين طورين رئيسين مر بهما الفكر الحداثي العربي، الأول : يتمثل في نشأة خطاب الحداثة إبان القرن التاسع عشر، وانتهاء منتصف القرن العشرين. والثاني : يطلق عليه طور النضوج الفكري للحداثيين العرب، الذي يتميز على خلاف الطور البدائي الأول، بسريان النزعة العقلانية في شتى مفاصله الفكرية، وهو يبدأ من النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن. وقد اقتصر المؤلف في كتابه هذا على تحليل الطور الاول ويأمل التعرض للطور الثاني في جزء آخر يأمل في إصداره قريبا.
تتوزع اهتمامات المؤلف ما بين رصد الأطوار التي مر بها الحداثيون العرب، وما بين تحليل الخطابات السائدة تجاه الحداثة، وبديهي أن ينصب النقد في مجمله على خطاب الأصالة المناهض للحداثة، والذي وافق ظهوره بروز تيارات الاحيائية الإسلامية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
في سياق نقده لهذا التيار، يرى المؤلف ان مثل هذه الدعوات تعد بمثابة تراجع الوعي العربي من حالة اليقظة والتفاعل التي دشنها الإصلاحيون الإسلاميون الكبار وعلى رأسهم كل من رائد التجديد في الدنيا والدين الإمام محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمان الكواكبي، إلى حالة التراجع الحضاري والتقوقع حول الذات والتذرع بإيديولوجيات الهوية والاسلمة، مع الانصراف الكامل عن الممكنات الأخرى والتي، بحسب الكاتب، يمكن أن تؤدي وظيفة الممانعة الايجابية دونما تغريم المجتمع والثقافة بغرامة الانكماش والانكفاء والتشرذق على الذات، وفي كل الأحوال، يؤكد الكاتب ارتفاع المنسوب الايديولوجي لدى الفريقين، حيث ذهبت ايديولوجيا الأصالة الى ” التشنيع على مدنية الآخر وثقافته واصمة اياها بالجاهلية، كما انتقلت من الدفاع عن الهوية في وجه الأجنبي الى الهجوم على دعاة المعاصرة باسم الجهاد”.
وفي مقابل ذلك، تحول الاهتمام بالحداثة من صعيد الإطار النظري الى مستوى الايديولوجيا، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام إفقار معرفي لفكرة الحداثة نفسها في السياق العربي، حتى بالنسبة للداعين لها، ومن ثم باتت الحداثة في مجملها عبارة عن مجموعة من الأفكار النخبوية التي تتخندق في خطاب النخبة الثقافية دون ان تجد لها رصيدا مؤازرا بين القطاعات الجماهيرية العريضة، ما اضطرها، في النهاية، الى الانكفاء على الذات والاكتفاء بموقع الدفاع في وجه تيار الاحياء والتقليد المتجدد. على الرغم من ان خطاب الحداثة، بحد ذاته، ليس خطابا برانيا أو مفروضا من الخارج، حتى لو أرجعنا نشأته الى الاحتكاك باوروبا، اضافة الى أن المطلوب حاليا وفي كل وقت مضى ليس التغريب أو “التغربن”، وانما القيام بنقد تركيبي لخطابي الماضوية الزمنية (خطاب التيار الاحيائي) والارتحال الى الغرب (خطاب التغريب) وعندها فقط، يبدأ تاريخ الحداثة العربية في احتلال الموقع الذي يليق به.
وفي الواقع، لم يدخل مفهوم الحداثة الساحة العربية من باب الفكر او الانتاج النظري، اللهم الا لدى القلة من الرواد الأوائل ممن كانوا مستعدين لتحمل أعباء السير في الاتجاه المعاكس. فمن اللافت للنظر في هذا الاطار، ان الحداثة قد طرقت الابواب العربية من المدخل الادبي والفني في حقول المسرح والشعر والرواية والسينما والموسيقى، ولم تستطع أن تؤلف تيارا عريضا على صعيدي الفكر والسياسة. وربما لهدا السبب، لا يزال سؤال الحداثة مطروحا على الوعي العربي (7).
غير ان الكاتب يرجع هذا الامر لسببين ، أولهما : تجذر التيار التقليدي بقوة في المجتمعات الاسلامية، واندفاعه المتجدد الذي يتغذى من اعراض أزمة الدولة الوطنية الحديثة، بما تشمله من ظواهر الاقصاء والهميش الاجتماعيين، فضلا عن فشل البرامج التنموية، والتصدعات الحادة في منظومة القيم. وثانيهما : هشاشة الحداثة العربية ذاتها وعدم قدرتها على الاستيعاب التام لفلسفة مثيلتها الغربية القائمة على تغليب عنصري العقلانية والنزعة الانسانية، بما يعني تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية والاخلاقية بصفة خاصة. الممانعة الثقافية اللاحقة او البعدية، حيث ارتد المجال الاجتماعي الى تجديد اصوله المحلية بعد انتصار الحداثة في تلك المجتمعات، إذ شهدت مصر وايران منذ سبعينيات، بصفة خاصة، عودة الايديولوجيات الرافضة لمضمون الحداثة بعد ان كانتا مركزين مهمين من مراكز الحداثة الثقافية الاسلامية. وبالمثل، حدث تراجع للحداثة الثقافية ابان عقد ثمانينيات القرن المنصرم في كل من : تونس وتركيا وباكستان واندونيسيا، مع تزايد وتيرة تاثير الحركات الصحوية الداعية للتمسك بالتراث الحضاري الاسلامي ونبذ كل ما يمت بصلة للحداثة (8) بمفاهيمها وقيمها الغربية.
4
من خلال الصياغات المتعددة لهذه الكلمة البسيطة والمشعة بالآمال (الحداثة) يبدو ان العديد من الكتاب والباحثين والاكاديميين العرب، ما زالوا لا بفرقون بين ” الحداثة” و”التحديث” ومازالت الكتابات النقدية والاعلامية تخلط بينهما، مع أن الفرق بينهما واسع وشاسع.
ان الحداثة، كما يحددها علماء اللغة، وعلماء النقد الادبي هي الوجه الآخر للاصالة، بينما التحديث هو قلع الجذور الحضارية واستبدالها بالنموذج البديل…وهو نفسه المصطلح الذي استعمله المصلحون في بداية هذا القرن في المشرق والمغرب للتعبير عن احتياج الامة الى التجديد والتنمية والتحديث، للخروج من عهد ” التخلف” الماضي الى عهد ” التقدم ” الجديد، وهو ايضا، نفسه المصطلح الذي ما زلنا نعاني من بقايا مؤثراته في شتى المجالات حتى زمننا الراهن، على المستوى السياسي كما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فلا حداثة اذن بدون جذور حضارية، ولأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالاصالة، لا يمكنها ان تبقى في زوايا المتاحف التاريخية، فهي في حاجة مستمرة الى التفاعل مع الحاضر والخروج بنماذج مناسبة للفكر والسلوك كما للحياة والحضارة والفنون.
ولأن “الحداثة” ارتبطت دائما بالتجاذب وبالمثاقفة وبالاخذ والعطاء، كان خوف العديد من مفكرينا التقليديين ومن قادتنا السياسيين، من أن تصبح الحداثة بوابة للغزو الفكري والحضاري عموما، وكان من حقنا دائما ان نخشى على حضارتنا من الغزو، وأن نعمل باستمرار على مكافحته.
ولا شك، أن فعالية وحيوية التحرك ضد الغزو، من شانها احالة هذا الغزو الى عنصر ايجابي في حداثة حضارتنا وثقافتنا وشخصيتنا، فالامر كان ولا يزال يتوقف على المواقف التي نتخذها من انفسنا والعالم، اكثر مما يتوقف على القوة الغازية، سواء منها التي تحملها لنا روح المثاقفة الحديثة، أو روح التقنولوجيا الحديثة، فاستسلامنا للعجز وخوفنا من ممارسة حقنا في التجديد والاصلاح بوعي ومسؤولية، وعدم قدرتنا على مجابهة الواقع بالواقع والفكر بالفكر والنظام بالنظام والوعي بالوعي، قد كان ولا زال أكثر فتكا بنا وبأصالتنا من أي غزو.
ولأننا أمة أصيلة في تراثها وفي حضارتها وفي قيمها الاجتماعية والثقافية، فإن حداثتها لا بد وأن تطمح بإشهار اصول ماضيها في وجه حاضرها، وإعطاء ذلك الماضي الأصيل حضوره الواضح على فضاء الحاضر الحديث.
ان الحداثة هنا، تعني بكل وضوح، اضافة اصول الماضي على اصول الحاضر واعطاء ذلك صيغة موضوعية، تميز علاقة الماضي بالحاضر…وعلاقة الحاضر بالمستقبل.
لا احد يستطيع ان ينكر الهوة القائمة باستمرار بين الاجيال، ولا أحد يمكنه ذلك، لكن الامم الحريصة على تراثها وعلى أصالتها لا تعتبر “التراث” و”الاصالة” مختومين بالتمتع.فالإنسان هو تراثه واصالته، ولكن مع ذلك يبقى من شروط بقائه، تفاعله، انفتاحه على نفسه وعلى العالم، فما يؤدي الى حفظ شخصيته وصيانة روحه وقيمه يبقى ويصبح تراثا، وماعدا ذلك يصبح زبدا ويذهب ادراج الرياح.
من هنا تصبح العلاقة بين الاجيال، مرتبطة بالوعي والنضج والحرص على استمرارية الانسان وتراثه الماضي وتراثه الحاضر، كما تصبح العلاقة بين الحداثة وماقبلها محكومة بنفس الضوابط التي تحكم العلاقة بين جيل وآخر.
إن أصحاب الحداثة في القصيدة…وفي اللوحة، وفي القطعة الموسيقية، كما في السياسة والاقتصاد والمجتمع لا يمكنهم ان يستخرجوا أعمالهم الحديثة كما يستخرج الساحر الارنب من كمه، انهم يرتبطون بشروط إنسانية وجودية، لغة وحضارة، وتربية وعلوما وتقنولوجيا، ولا يمكنهم التنكر لهذه الشروط. فالإبداع الفني كما الإبداع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، لا يأتي من فراغ ولا من خواء، انه نتاج معرفي / إنساني/ مجتمعي / حضاري، يخضع لأحكام الإنسان المبدع ولمجتمعه وقيمه وثقافته ومعاييره الذوقية والجمالية، لكن هذه الأحكام والمعايير ليست ثابتة، فهي مثل الإنسان متحركة، متطورة، متحولة من جيل إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن ثقافة إلى ثقافة.
فلا توجد حداثة لكل العصور، كما لا توجد قصيدة أو لوحة لكل الأزمنة، ولا موسيقى لكل الأجيال، فلكل عصر فنونه واختراعاته وصنائعه، ولكل جيل إبداعاته، ولكل زمن حداثته، ولكن هناك حوار خفي يربط بين الإبداعات والأجيال والأزمنة، / بين التراث الماضي والتراث الحديث…وهو حوار حقيقي يقوم على مبدأ التناوب والمغايرة والتأصيل، يعطي للانتماء الحضاري / الانتماء الإبداعي معناه وجوهره بعيدا عن الخلط بين الحداثة والتحديث.

الكاتب : محمد أديب السلاوي - بتاريخ : 13/07/2018