نحتاج منظومة وطنية لحماية الثروة العامة
محمد الطالبي
دخلت حملة “ردّوا المال… ردّوا الأرض” التي توعد بها وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت حيّز التنفيذ خلال الأسابيع الأخيرة في عدد من الأقاليم والمدن، حيث برزت إلى الواجهة موجة واسعة من قرارات الهدم كما هو الحال في النواصر وساحل عين الذئاب بالدار البيضاء، إضافة إلى ملفات قضائية وتجريد عدد من المنتخبين من مسؤولياتهم الانتخابية.
في تقديري، الجديد اليوم ليس فقط في انطلاق الحملة، بل في حجم الإحالات وضخامة الملفات التي تكشف أن ما يجري لم يعد مجرد عمليات معزولة، بل مسار يأخذ منحى أعمق وأكثر جرأة. فالملاحقات والمحاكمات كانت قائمة منذ سنوات، غير أن اللافت هو تسجيل ملفات ثقيلة تضم أسماء بارزة يوجد بعضها خلف القضبان، بتهم تمتد من الاتجار الدولي في المخدرات إلى التلاعب في العقارات والتزوير. وهذا يُظهر أننا أمام تفكيك فعلي لشبكات منظمة اخترقت مؤسسات منتخبة من برلمان وجهات وجماعات.
لكن هذا المسار الزجري، مهما كان ضرورياً، لن يكون كافياً إذا ظل في حدود “مطاردة الساحرات”. فحماية المال العام والثروة الوطنية تتطلب رؤية شاملة تتجاوز المعالجة الأمنية والقضائية نحو بناء آليات مؤسساتية تمنع الفساد قبل وقوعه وتضمن المحاسبة بعد وقوعه. فقد كشفت فاجعة نهب مبلغ فلكي من إحدى مؤسسات التعمير، يناهز 62 مليار سنتيم، واكتشافها بالصدفة عبر لجنة عابرة وليس عبر آليات الرقابة الداخلية، هشاشة منظومة المراقبة، وضعف التشريعات، وغياب الانسجام بين أجهزة الحكامة.
إن حماية المال العام ليست عملية ظرفية أو رداً على واقع صادم، بل هي ورش بنيوي طويل الأمد يرتكز على ثلاثة مستويات: التشريع، والرقابة، والمسؤولية المجتمعية. فعلى المستوى التشريعي، يتوجب تحديث الترسانة القانونية المرتبطة بالصفقات العمومية وتدبير العقار والتصريح بالممتلكات وتجريم الإثراء غير المشروع بشكل يقطع الطريق على الالتفاف والمناورة. فالقانون الواضح والصارم هو حجر الأساس لأي مكافحة فعالة للفساد.
أما على مستوى الرقابة، فالتمييز ضروري بين الرقابة القبلية التي تمنع وقوع التجاوزات، والرقابة البعدية التي تُحدد المسؤوليات بعد وقوعها. الرقابة القبلية تتطلب التدقيق المستمر، والرقمنة، والمعلومات المفتوحة، وتقليص سلطة التقدير الفردي التي كانت دوماً مدخلاً للفساد. أما الرقابة البعدية، فتحتاج إلى ربط تقارير المجالس الرقابية بالمتابعة القضائية الفعلية، لكي لا تبقى تلك الوثائق مجرد أوراق تُقرأ ولا تُفعّل.
وفي مستوى ثالث، يمثل المجتمع والصحافة صمام الأمان الحقيقي؛ فالشفافية وحدها لا تصنع النزاهة ما لم تكن هناك صحافة مهنية تراقب وتكشف وتتبع خيوط الفساد، ومجتمع مدني فاعل يطالب بالحق في المعلومة ويتابع تنفيذ السياسات. البلدان التي نجحت في حماية مواردها لم تعتمد على أجهزة الدولة فقط، بل على ثقافة عامة ترفض التساهل مع نهب المال العام.
كما أصبحت الرقمنة اليوم من أهم الأدوات الكفيلة بمحاصرة التلاعب، سواء في تدبير العقار أو الصفقات أو تحويل الأموال، لأنها تقطع الطريق على الوساطة المشبوهة وتضمن تتبعاً دقيقاً لكل عملية مالية أو إدارية. الرقمنة ليست رفاهية تقنية، بل حصن وقائي ضد الفساد.
وفي النهاية، يبقى ربط المسؤولية بالمحاسبة جوهر حماية الثروة الوطنية. فلا معنى لأي إصلاح دون القضاء على الإفلات من العقاب. يجب أن يدرك كل مسؤول، مهما كان موقعه، أن أي تجاوز سيُواجه بعقوبة حقيقية وسريعة، وأن حماية المال العام ليست خياراً بل واجب دولة تسعى إلى ترسيخ الثقة وتشجيع الاستثمار وتعزيز سيادة القانون.
ويبقى السؤال المطروح: كيف يمكن لمؤسسات عمومية ضخمة أن تفشل في حماية المال العام، بينما تنجح مؤسسات القطاع الخاص في الحد من التلاعبات والسرقات؟
إن الإجابة تكمن في إرادة سياسية واضحة تجعل من حماية الثروة الوطنية مشروعاً دائماً، لا حملة ظرفية تُطلق ثم تخبو، بل مساراً مستمراً يضع النزاهة فوق كل اعتبار.
الكاتب : محمد الطالبي - بتاريخ : 22/11/2025