هل أصبح القضاء الإسباني يلعب دور المعارضة الحقيقية للحكومة اليسارية؟

لحبيب شباط *

سؤال يفرض نفسه بقوة منذ تولي بيدرو سانشيز رئاسة الحكومة، وذلك نتيجة عدة ممارسات قام بها بعض القضاة في مدريد ومناطق أخرى، تمثلت في فتح قضايا متعددة، جميعها موجهة ضد عائلة رئيس الحكومة الإسبانية وبعض رموز الحزب الاشتراكي العمالي. وبهذه الممارسات، يبدو أن بعض القضاة يقدمون أكبر خدمة ممكنة للأحزاب اليمينية المعارضة.
هناك قضايا مفتوحة حاليًا ضد الرئيس، زوجته، شقيقه، وبعض أعضاء الحزب. وقد أجمع عدد من أساتذة القانون على غياب الأسس القانونية الصلبة التي تبرر مثول عائلة الرئيس أمام القضاء. تجدر الإشارة إلى أن اليمين الإسباني لا يتردد في اتهام الحكومة بما يشبه المافيا، والرئيس بالدكتاتورية، بل ويصف حكومة سانشيز بأنها غير شرعية ويجب إزالتها بكل الوسائل الممكنة، ما دفع بعض الجهات إلى اتهام الحزب الشعبي بالدعوة إلى انقلاب غير مباشر ضد حكومة شرعية منبثقة من البرلمان الإسباني.
ما زاد الطين بلّة هو اتهام المدعي العام للمحكمة العليا بتهمة إفشاء الأسرار، وهي سابقة في تاريخ إسبانيا الديمقراطي الحديث.
أسئلة تطرح نفسها:
هل توجد أسس قانونية حقيقية لهذه القضية؟
وهل ينبغي على المدعي العام أن يستقيل؟
قرار قاضي المحكمة العليا، أنخل هورتادو، غير مألوف؛ إذ لم يحدث من قبل أن كان المدعي العام للدولة على وشك المثول أمام المحكمة. ورغم أن النظام الأساسي للنيابة العامة ينص على تعليق العمل والراتب للمدعين العامين في مثل هذه الحالات، فإن غارسيا أورتيز، طالما بقي في منصب المدعي العام، لا يُطبق عليه هذا النظام.
عدد كبير من رجال القانون والمحامين المختصين في إسبانيا يعارضون طريقة إدارة القاضي هورتادو للتحقيق، ويعتبرونها خارجة عن المألوف. صورة النائب العام وهو في قفص الاتهام تمثل تدهورًا غير مقبول لمؤسسة دستورية ولديمقراطية البلاد. التحقيق الذي قاده القاضي يبدو أنه حُسم قبل بدايته، بالنظر إلى كيفية تعامله مع المعطيات الظرفية.
أن يتوصل القاضي إلى نتيجة مفادها وجود «مؤشرات عقلانية» تدل على أن المدعي العام والمدعية العامة في مدريد هما من سرّبا بريد محامي غونثاليث أمادور، شريك رئيسة جهة مدريد، إلى الصحافة، أمر يفتقر للمنطق. أولاً، يجب أن يكون ما تم تسريبه جريمة في حد ذاته، فكيف يُقال إن البريد الإلكتروني المسرب سرٌ، بينما كان معروفًا للعامة وقت التسريب؟ ثانيًا، لا توجد مؤشرات تدل على أن المدعي العام هو مصدر التسريب. حيث لم يورد الحكم أي دليل سوى «تصريحات ذاتية»، وتجاهل إفادات صحفيين أكدوا أنهم تلقوا البريد قبل أن يصله إلى المدعي العام، ومنهم صحفي قناة «كادينا سير» والصحفي المعروف إسكولار، الذي صرّح بأنه «لا توجد أدلة ضد المدعي العام لأنه لا يمكن أن تكون هناك أدلة، لأن التسريب لم يصدر عنه.»
أضاف القاضي أن رفض المدعي العام الرد على بعض التهم أو مسحه لمراسلته الشخصية من هاتفه يمثلان مؤشرات ضده، رغم أن له كامل الحق في الصمت وحماية خصوصيته، خاصة ضمن مهامه القضائية. كما تجاهل القاضي احتمال أن يكون التسريب قد تم من طرف آخر من بين العديد ممن اطلعوا على البريد.
القرار يبدو غريبًا للغاية، ويبدو أنه يغطي على عملية إعلامية وهمية تقودها حكومة مدريد الجهوية، تدعي فيها وجود «عملية دولة» تستهدفها، في حين تشير الحقيقة إلى أن زوج الرئيسة الجهوية إيوسو استفاد ماليًا من الجائحة وتهرب من دفع الضرائب بطرق غير قانونية.
في العرف السياسي الإسباني، عندما تُحال قضية إلى المحكمة، يُتوقع من الشخص المعني أن يستقيل. لكن في هذه الحالة، يرى عدد كبير من المختصين أن القضية شاذة، والتحقيق ضعيف، والقرار القضائي منحرف من الناحية القانونية، لذا، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية، يرون أنه لا ينبغي على المدعي العام الاستقالة، لأن القرار يفتقر للجدية القانونية.
هذا أيضًا ما ذهب إليه رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، الذي أعرب عن دعمه لاستمرارية المدعي العام في منصبه.
في المقابل، هناك من الخبراء من يرى ضرورة استقالة المدعي العام لأسباب عديدة:
أولاً، من أجل الحفاظ على سمعته؛ إذ من غير الطبيعي أن يكون في موقف دفاع وهو أعلى ممثل للنيابة العامة.
ثانيًا، احترامًا للمؤسسة التي يمثلها، والتي يجب أن تُحاط بالنزاهة.
ثالثًا، لتجنيب المدعي العام الذي سيخلفه حرجًا في إدارة القضية، حيث سيكون من الصعب فصل تصرفاته عن شبهات التحيّز.
اليمين الإسباني يستغل هذه القضايا المفتوحة للضغط على الحكومة، ويطالب باستقالتها والدعوة إلى انتخابات مبكرة. بالمقابل، يرفض الحزب الاشتراكي السماح للخصوم السياسيين بتحقيق أهدافهم عبر استقالة المدعي العام، ويؤكد أنه إذا حدث انتهاك للبيانات الشخصية لزوج رئيسة جهة مدريد، فإن المحكمة العليا هي الجهة الوحيدة المخوّلة بالفصل في ذلك.
رؤية النائب العام في قفص الاتهام مشهد غير طبيعي، لكن في ظل التسييس الواضح والتشكيك في حيادية القاضي وطبيعة الاتهامات، يتضح أن عدم الاستقالة هو موقف دفاعي لمنع تحقيق أهداف سياسية عبر القضاء.

كل هذا يجعل الحياة السياسية في إسبانيا على صفيح ساخن، يلعب فيه القضاء دورًا محوريًا قد يؤدي إلى سقوط حكومة سانشيز، تمامًا كما حدث في جهة الأندلس عام 2019 بعد أربعة عقود من حكم الاشتراكيين.
جميع المؤشرات تشير إلى أن الضغط القضائي لن يتوقف، وأن ملفات جديدة يجري إعدادها قد تُبقي حكومة سانشيز في موقف دفاع مستمر، في حين لا يُناقش الإنجاز الاقتصادي الملحوظ للبلاد نتيجة سياسة الحكومة الإشتراكية.
من المؤكد أن هناك انسجامًا واضحًا بين استراتيجية الحزب الشعبي وحزب «فوكس» اليميني المتطرف مع توجهات بعض القضاة، وكأن هؤلاء القضاة جزء من هذه الأحزاب. للأسف، لم يعرف القضاء الإسباني انتقالًا ديمقراطيًا حقيقيًا، كما حدث مع المؤسسة العسكرية مثلاً، بل ما تزال تتحكم فيه عقليات تنتمي إلى القرن الماضي، ترى في اليسار خطرًا على وحدة إسبانيا يجب القضاء عليه بشتى الوسائل.
لكن التهديد الأكبر للحزب الاشتراكي قد يأتي من داخله، إذ بدأت أصوات ترتفع داخل الحزب تطالب بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة للحد من هذا الضغط السياسي المستمر التي ترهق الحزب الاشتراكي.
سي لحبيب شباط خبير في الشأن الإسباني و عضو الحزب الاشتراكي العمالي بجهة الأندلس.
خبير في الشأن الإسباني وعضو الحزب الاشتراكي العمالي بجهة الأندلس

الكاتب : لحبيب شباط * - بتاريخ : 14/06/2025