واقع تدريس اللغات بالمدرسة المغربية
ذ. عبدان عبدالفتاح
لا يختلف اثنان أن المدرسة المغربية تعيش وضعا شبيها بالفسيفساء اللغوية المتعددة الأنماط والأشكال، و» لانبالغ إذا قلنا بأن بالمدرسة المغربية، تعيش وضعية جد صعبة وحرجة، ومن بين أهم الصعوبات، بل المعضلات التي تعانيها هو إشكالية التعدد اللغوي، خصوصا مع تبني الميثاق الوطني للتربية والتكوين، لسياسة لغوية منفتحة ومتفاعلة مع بعض اللغات. حيث إنه إلى جانب اللغة العربية الرسمية وإدخال الامازيغية في المنظومة التربوية نجد حضور اللغة الفرنسية والانجليزية والاسبانية والايطالية والألمانية، وهي وضعية شاذة في الأنظمة التربوية. ولهذا لم يكن غريبا أن يكشف أول تقرير للمجلس الأعلى للتعليم (2008) عن نتائج جد خطيرة وصادمة في الآن، من بينها أن نسبة التلاميذ المغاربة الذين يكتبون ويقرؤون باللغة العربية لايتعدى 50٪، بينما البقية الأخرى لا تتقن اللغة العربية وتجد صعوبات في فهمها والتعبير بها بالرغم من استفادتهم من حصص زمنية تبلغ 50000 ساعة. وفي نفس الإطار كشفت دراسة وطنية سنة 2006 أن 7 ٪ فقط من تلاميذ المستوى السادس يتحكمون في اللغة العربية و1 ٪متمكنون من اللغة الفرنسية.كما أن اللغة العربية وإن كانت مرسمة عرفيا منذ قرون عدة ودستوريا منذ سنة 1962، فهي لحد الآن غير مرسمةٍ عمليا. ويكفي إلقاء نظرة على الإعلام والإدارات والأبناك والوثائق والتقارير الصادرة عنها، لنلاحظ أن الفرنسية تقوم بنسبة كبيرة من وظائف العربية وتأخذ مكانها، الأمر الذي يعري توغل اللوبي الفرنسي ومن يناصره من أجل معاربة تعريب الإدارة والتعليم رغم المطالب الشعبية المتكررة بذلك.
ولقد شكلت الثنائية اللغوية في المدرسة المغربية عائقا بيداغوجيا في اكتساب وضبط إحدى اللغتين، فالطفل يصبح يتعامل مع نسقين ثقافين مختلفين، ويتأرجح فكره بينهما، فلا هو يجيد استقراره في الأول ولا في الثاني، ولا تتأكد وحدة فكره ولا ثوابت طبعه». وهذا ما أكده أيضا williammarçais حينما قال أن العنصر الثاني المسؤول عن أزمة اللغة العربية بالمغرب الكبير هي اللغة الفرنسية.
ومن الانتكاسات التي عانت وتعاني منها المدرسة المغربية تأخر تطبيق مبدأ التعريب إلى حدود سنة 1973م، بل إن التعريب ما زال إلى اليوم لم يطرق باب الجامعات المغربية مما ترك شرخا ثقافيا ولغويا في نفوس الطلبة، وغالبا ما يصبح الانتقال من تعليم معرب في الثانوي إلى مفرنس في المرحلة الجامعية عائقا في مواصلة التحصيل نظرا لضعف درجة اتقان اللغات الأجنبية لدى هؤلاء، فيرتمون ويتكدسون في المسالك الأدبية، في ظل غياب برامج لغوية جامعية مصاحبة أو تخصيص سنة تأهيلية لغوية اختيارية مثلا للطلبة المقبلين على الدراسة باللغات الاجنبية.
وكانت صدمتنا قوية حينما تابعنا هذه السنة التوجه الجديد للوزارة الوصية القاضي بفرنسة المواد العلمية والعودة إلى الارث الاستعماري لما قبل السبعينيات، وضرب بعرض الحائط كل الأشواط التي قطعتها الحكومات المغربية المتعاقبة من تعريب التعليم ومغربة الأطر… فهل أضعنا البوصلة لمواصلة الطريق الصحيح؟ وهل نسينا أو تناسينا أن نهضة العرب في القرون الوسطى كانت بلغتهم الأصلية وبتعزيز عملية الترجمة فقط وليس تبني لغة الروم أو الفرس؟ ثم هل من متسائل عن مكانة اللغة الفرنسية عند قومها؟ وما نسبتها في البحث العلمي اليوم؟ إن أشد ما أحذر منه المراهنة على الحصان الخاسر في سباق اللغات، في تكهنات واستراتيجيات غربية للانفتاح على لغات الشرق( الصينية)، بيد أننا نسير عكس ما تشتهي الرياح.
وبالرغم من المجهودات المبذولة في مجال تدريس اللغات بمختلف المدارس المغربية فان هناك مجموعة من الاختلالات البيداغوجية والتنظيمية على رأسها:
– على مستوى المناهج والمقاربات البيداغوجية :يلاحظ غياب تصور استراتيجي لتدبير التعدد اللغوي في بعديه الوطني والجهوي، ووجود مفارقة قائمة بين اعتماد المناهج لمدخل الكفايات وواقع تطبيقها الفعلي، في غياب مرجعية عملية تؤطر الكفايات اللغوية المستهدفة، بالإضافة إلى ضعف الكفايات اللغوية للموجهين نحو شعب اللغات وامتدادات ذلك إلى الجامعة ومعاهد التكوين المهني.
– على مستوى الغلاف الزمني:عدم مطابقة الزمن الفعلي المتداول في الممارسات الصفية مع الزمن المثبت في الوثائق التربوية.
– على مستوى أطر التدريس:غياب إطار مرجعي لكفايات المدرسين في مجال اللغات، وضعف المكتسبات اللغوية لدى أغلب الطلبة الذي يلجون مراكز تكوين الأطر التربوية بالإضافة إلى وجود تفاوتات في المسارات التكوينية للأساتذة على المستويين المعرفي والبيداغوجي. ولا ننس غياب برنامج وطني للتكوين المستمر لمدرسي اللغات.
– على مستوى طرائق التدريس:عدم مواكبة طرائق التدريس للمقاربات البيداغوجية المعتمدة، ومحدودية استعمال الوسائط السمعية البصرية وتكنولوجيا الإعلام والتواصل في تدريس اللغات؛
– على مستوى أساليب التقويم:اقتصار الدعم التربوي على مبادرات محدودة ومعزولة، وعدم اعتماد مخطط على مستوى المؤسسات التعليمية لتفعيله في إطار أعمال البيداغوجيا الفارقية، بالإضافة إلى أن التقويم يعتمد على تقويم الذاكرة عوض تقويم المهارة.
– وإذا كان التعليم يتواصل معربا في الجامعات، بالنسبة للعلوم الإنسانية والقانونية بالإضافة إلى الرياضيات والطبيعيات المعدة للتعليم، فإن الطب والتكنولوجيا وملحقات هذه المواد تبقى تعليما باللغة الأجنبية. ولقد بقيت هذه المواد صاحبة الأفضلية والإكبار لما تمتاز به من العالمية، وتختص به من التقدير الاجتماعي.
هذا وقد تفشت في الجامعات المغربية والعربية مفهوم الأمية الجديدة التي يؤشر على ضعف استعمال اللغة العربية الفصيحة (أو الأم) تعبيرا وكتابة عند الطلبة الجامعيين والأساتذة على حد سواء . وقد أبان دراسة ميدانية لإبراهيم أبو الصواب بمنطقة أكادير أن تبني سياسة التعدد اللغوي بالمدرسة المغربية شكل عائقا كبيرا في التحصيل اللغوي للمتعلمين بتلك المناطق بشهادة المفتشين والمعلمين. وأكد محمد شتاتو أن أبرز الملامح التي طبعت تعليم اللغة العربية بالمدارس المغربية، غلبة الطابع التقليدي في التدريس، والنظرة الدونية إلى مكانتها و محدودية تداولها واستعمالها.
لا شك أن المغرب يفتقر إلى سياسة لغوية محكمة في الأمن اللغوي تستجيب للمتطلبات الحاضر الأبستمولوجيا والاقتصادية والثقافية، وتستشرف المستقبل بكل تغيراته الحضارية والاستباقية،فإذا كانت أغلب الدول الأوروبية قد نَفَرَت من اللغة الفرنسية التي « تعيش غُبنا حقيقيا بفعل هيمنة اللغة والثقافة الأمريكيتين عليها. كما أكدت دراسة فرنسية ميدانية لماريس لوكين، على أن 65٪ من المنشورات الخاصة بالعلوم الحقة تصدر بالانجليزية، مقابل 8٪ فقط باللغة الفرنسية». وفي ظل انفتاح الأوربين على اللغات الشرقية نلفي السياسة اللغوية المغربية تظل متشبثة باللغة الفرنسية كلغة أولى في الاقتصاد وثانية في التعليم وثالثة في التواصل الاجتماعي .
وخلاصة القول إن المسألة اللغوية لاتهم النظام التعليمي وحده، بل هي شأن يهم الدولة والمجتمع، وعلى هذا المستوى ينبغي دراستها وتعميق النقاش حولها، ولو تطلب الأمر تنظيم ورشات وندوات علمية. فالمسألة اللغوية على قدر كبير من التعقيد والحساسية، مما يستوجب خلق إطار مناسب يساعد على تحقيق نتائج تتسم بالنجاعة والواقعية والنظرة الاستشرافية.
الكاتب : ذ. عبدان عبدالفتاح - بتاريخ : 11/05/2020