أسئلة الحركة التطوعية في ظل الثورة الرقمية في الذكرى 60 لتأسيس جمعية الأوراش المغربية

جمال المحافظ

بداية أعتقد أن اختيار «إعادة الاعتبار للحركة التطوعية» موضوع مداخلة افتتاح اللقاء المنظم، يوم الخميس ثاني دجنبر الجاري، بمناسبة الذكرى 60 لميلاد جمعية الأوراش المغربية، التي تمكنت من الحفاظ على كيانها وعلى استمرارية فعلها التطوعي، كان في محله ويكتسى طابعا ذا راهنية من جهة ولرمزية ودلالات اختيار رئيسها المؤسس سي عبد الكريم بناني أحد الوجوه البارزة في مجال الفعل المدني الوطني من جهة أخرى.
فهذه اللحظة لا تتطلب منى الدخول في متاهة نظرية حول تحديد مفاهيم التطوع على المستوى الدولي والوطني، لنوعية وطبيعة الحضور الذي له دراية وخبرة تتجاوز المجالين النظري والعملي إلى مجالات الفعل التطوعي المتنوع.
وإن كان هذا اللقاء بحمولته التاريخية والرمزية هاته، يقتضى استحضار بعض محطات تاريخ الحركة الجمعوية التطوعية، والتوقف عند الأدوار الطلائعية التي اضطلعت بها منظمات وجمعيات الشباب، وجليل أعمال رموزها من أجل بناء المغرب الجديد. لقد ساهمت هذه الهيئات في إنجاز مشاريع عديدة، خاصة في بداية الاستقلال في مقدمتها طريق الوحدة سنة 1957، المشروع الوطني الضخم الذي تميز بمشاركة 11 ألفا من الشباب ينتمى إلى مختلف جهات البلاد، بهدف تشييد طريق ربط الشمال بالجنوب، بعدما قطع أواصر الاستعمارين الفرنسي والإسباني هذه المنطقة، وذلك عبر أوراش للبناء، ترجمة لشعار «نحن نبنى الطريق والطريق تبنينا»، كما كان يردد الشهيد المهدي بن بركة، مهندس طريق الوحدة أمام الشباب المتطوع لإنجاز هذا المشروع الوطني غير المسبوق.
وعقب تشييد طريق الوحدة، عملت هذه الجمعيات والمنظمات التطوعية، التي على الرغم من أنها كانت لا تتجاوز آنذاك عدد أصابع اليد في بدايات الاستقلال، على تنفيذ عدة مشاريع أطرتها اعتمادا على طموح أطرها وبإرادة شبابها، متسلحين بروح وطنية عالية، جعلت من إرادتهم الجامحة المساهمة رغم ضعف الإمكانيات المادية في أوراش بناء الوطن، وتنظيم أنشطة تربوية وثقافية واجتماعية متميزة، كالحملات الوطنية لمحاربة الأمية وأوراش بناء المساكن لفائدة قاطنى دور القصدير وعمليات التشجيروالخدمات الاجتماعية، وحملات التحسيس والتوعية خاصة في صفوف الشباب، رغبة في سد كل جوانب القصور والتخلف الذي سببه الاستعمار.
فهذه المداخلة الافتتاحية، التي شرفتنى جمعية الأوراش المغربية بإلقائها خلال احتفالها بذكرى مرور 60 على تأسيسها، لن تقتصر على جانب من نوستالجيا هاربة من الزمن الجميل، أو لحظة حسرة عن « فرص ضائعة»، من ماضي تختلف قطعا سياقاته وتحدياته عن رهانات ما نعيشه من تحولات القرن 21، ولكن يهدف بالأساس إلى التفكير في السبل الكفيلة بإعادة الاعتبار للعمل المدني التطوعي، مع استلهام المشاريع السابقة، والقيم التي ناضل من أجلها رموز الحركة التطوعية، لتكون نبراسا للأجيال الحالية، لكن بالانخراط في الإجابة عن الأسئلة الحارقة لزمن التحولات التكنولوجية، التي حولت الشباب إلى « مواطنين رقميين» تجعل منهم بعيدين عن الانشغال بالماضي وحتى الحاضر، بل ينصب اهتمامهم على ما يمكن أن يقع في المستقبل.
بيد أن التحولات الراهنة، أفرزت أن الحاجة ماسة إلي إعادة الاعتبار للعمل التطوعي الذي أصبح في المرحلة الراهنة، يشكل في المجتمعات المتحضرة، أحد شروط تولى مسؤوليات تدبير الشأن العام بالخصوص، خاصة وأن دستور 2011، نص على دور المجتمع المدني، علاوة ما يلاحظ من وعي كافة الأطراف – من مختلف المواقع -، وإن كان هذا «الوعي الشقي» على حد تعبير عالم الاجتماع والروائي عبد الكبير الخطيبي (1938-2009) قد حصل أخيرا، من خلال اعتماد برامج واسعة في مجال الحماية الاجتماعية، وإعلان» الحكومة الجديدة» العمل على « تحقيق الدولة الاجتماعية» من خلال تفعيل برنامجها برسم السنوات الخمس المقبلة. ولا يسع المرء في هذا الصدد إلا ترديد ما درج عليه المغاربة في موروثهم الشعبي بالقول (وقت ما جا الخير ينفع)، وذلك بعدماعانى هذا القطاع الحيوي من تجاهل وتبخيس، خاصة في سنوات الرصاص، وسياسات التقويم الهيكلي.
ويعود للجمعيات الوطنية التطوعية الفضل الكبير في الانتباه مبكرا إلى أهمية الاستثمار في العنصر البشري، والمطالبة بجعله في صلب السياسات العمومية، مع إيلاء أهمية خاصة للشباب باعتباره قطاع غيار بناء المستقبل، وشكلت أنشطتها أنوية لبروز ثقافة بديلة، وجعلت الانتماء إلى هذه المنظمات الوطنية، يكتسى صبغة « انتماء مؤسس، وبمرجعية قيمية»، ساهمت في غرس فكرة الالتزام كتعبير عن ارتباط بقيم المواطنة وإصرار على خدمة المجتمع.
وإذا كانت الأجيال التي مرت بهذه الجمعيات ومن ضمنها الأوراش المغربية، متنوعة في تصوراتها وانتماءاتها السياسية والاجتماعية والمجالية، إلا أنها كانت تلتقى حول المطالبة بترسيخ قيم التعاون والمواطنة والتقاسم والتعاضد، باعتبار الدور الهام الذي تضطلع به الجمعيات في عملية التنشئة الاجتماعية إلى جانب كل من الأسرة والمدرسة، مع المنافحة على قيم التطوع والعمل الجماعي، كسلوك قار هدفه خدمة الآخر والإيمان بحق الاختلاف. فكثيرا من أطر هاته المنظمات كانوا يزرعون في الشباب أيضا، مثلا أنه بقدر انتقاد الظواهر السلبية التي تعوق تطور المجتمع، عليهم كذلك أن يتحملوا نصيبا من المسؤولية، عبر المساهمة في صياغة البدائل، والالتزام بقواعد الحوار الهادئ والعقلاني باعتباره أسلم السبل للإقناع، وأن الاختلاف في الآراء حول بعض القضايا، أمر صحي، مع العمل على إعادة النظر في السلوكيات والممارسات المترسبة.
وباعتمادها على العمل التطوعي، شكلت هذه المنظمات، بالفعل، مدرسة حقيقية لإعداد الأجيال الصاعدة، والمساهمة في بث روح التضامن وترسيخ قيم المواطنة والمساواة والعمل من أجل الآخر مع نبذ الأنانية والانتهازية والفردانية.
وفي ظل التحولات المتسارعة التي تعرفها الحركة التطوعية، التي تختلف بطبيعتها وأهدافها عن عمل الإحسان، واتساعها لتشمل مجالات جديدة، فرضها تطور المجتمع، وحاجيات مكوناته الجديدة التي فرضتها الظروف الراهنة، فإنه يلاحظ – على الرغم من بعض المجهودات-تراجع في منسوب مصداقية هيئات الوساطة ومنها الجمعيات، وعجز غالبيتها – إن لم يكن جلها – عن القيام بأدوارها الحقيقية في مجال التأطير الاجتماعي والتربوي، وتقاعسها عن اتخاذ مبادرات نوعية في هذا المجال. بيد أن هذا التراجع، وإن كان يعود لأسباب ذاتية، فإن هناك أسبابا موضوعية وراء ذلك، خاصة ما يتعلق بالنقص الحاصل في السياسات العمومية وغياب إرادة حقيقية لبلورة البرامج المعلنة في هذا الميدان على أرض الواقع.
وإذا كانت ذاكرة الحركة التطوعية، تحتفظ لهذه الجمعيات، بمبادرات ناجحة في مجالات متعددة منها محاربة الأمية والمحافظة على البيئة والخدمات الاجتماعية، فإن التساؤل يظل مطروحا في ظل ظروف جائحة كوفيد 19، حول نوعية المبادرات المدنية للمساهمة في مواجهة تداعيات هذه الجائحة؟ فماذا لو قدر لرواد العمل التطوعي الوطني أن يكونوا موجودين الآن من بينهم المرحوم سي محمد الحيحي( 1928– 1998) مربي الأجيال، الرئيس الأسبق لكل من الجمعية المغربية لتربية الشبيبة (AMEJ) والجمعية المغربية لحقوق الإنسان والشهيد المهدي بن بركة، والطيبي بنعمر، الرئيس الأسبق لحركة الطفولة الشعبية، ماهي الأفكار التي يمكن أن يساهموا بها عمليا كما كان عند إنجاز عدد من المشاريع، وفي مقدمتها طريق الوحدة سنة 1957، الذي يعد أكبر مشروع تطوعي شبابي، لم يعرف المغرب مثيلا له لحد الآن؟ الجواب متروك للفاعلين المدنيين للتأمل والتفكير.
بيد أن ما بين تأسيس جمعية الأوراش المغربية للشباب سنة 1961و2021، جرت بالفعل مياه كثيرة، وطرأت متغيرات عديدة، منها توسعت قاعدة الجمعيات، التي تجاوز عددها 200 ألف جمعية إلى حدود سنة 2020 – حسب إحصائيات رسمية – كما تغيرت اهتمامات الشباب، فمغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس ولن يكون كذلك مغرب الغد، لكن رغم كل هذا لا ينبغي الاعتقاد، بأن منظمات المجتمع المدني التاريخية الجادة منها قد انتهت صلاحيتها واستنفدت أدوارها، أو محاولة لتبخيس مجهودات بعضها، ولكنها دعوة صريحة إلى ملاءمة هذه المنظمات فعلها المدني مع التحولات المتسارعة ومنها ما فرضته ظرفية جائحةكوفيد 19 المستجد من أولويات جديدة، فضلا عن المرحلة الدقيقة التي تجتازها البلاد، والعمل على توحيد جهود مكونات الحركة التطوعية.
فلا يمكن لأي منظمة أو جمعية بمفردها – مهما كانت قوة حضورها وقيمة عملها- أن تتصدى لمجمل الإشكالات المطروحة اليوم على المجتمع المغربي، وهو ما يتطلب القيام بمجهودات جماعية لكن برؤية مشتركة واضحة.
وإذا كان يتعين على السلطات العمومية المعنية العمل على إشراك  مكونات المجتمع المدني بشكل أكبر، في الجهود المبذولة في المجال الاجتماعي وكذلك في التدابير المتعلقة بالحد من تداعيات فيروس كورونا القاتل، وفي الأوراش الكبرى، فإن الأمر يتطلب كذلك قيام الجمعيات بتجديد آليات وأساليب اشتغالها، بهدف الإجابة عن الحاجيات الآنية لمختلف شرائح المجتمع.
فمنظمات جمعوية بهذا العمق التاريخي والرمزي والرصيد الذي راكمته منذ استقلال البلاد إلى زمن الثورة الرقمية، تحتاج إلى إدراج منجزها التطوعي كتراث لامادي، مع التفكير في الصيغ الكفيلة بحفظ ذاكرتها ورموزها من خلال بحث إمكانية مساهمة أرشيف المغرب في نطاق الدينامية، التي يعرفها مؤخرا في إطار صيانة الذاكرة الوطنية، مع إعادة التوهج لهوية الفعل المدني مستقبلا، مع فتح أفق جديد لعمل المنظمات التطوعية، منها قيادة حملة للترافع من أجل الإسراع بإخراج المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي إلى النور، وتفعيل المجلس الفيدرالي لاتحادات ومنظمات الشباب والطفولة، باعتباره آلية وحدوية للتصدى للتحديات المطروحة، وفي دائرة البحث العلمي.
فإذا كان الشباب قد توحدوا سنة 1957 من أجل إنجاز طريق الوحدة، فماهو المشروع الذي يمكن أن يوحدهم ويستجيب لجاجياتهم في ظل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟

الكاتب : جمال المحافظ - بتاريخ : 10/12/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *