أوراق بوتين القوية

عبد الكريم ساورة

في اللحظات الحرجة، يُعْرَفُ الرجال، تتأكد نبوءة العقل، هذا العقل الذي لا نعرف قيمته جيدا ونحاول أن نتناسى قيمته وفاعليته عندما يتم تغييبه في الوقت المناسب.
تغييب العقل هو التهمة التي يوجهها الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة الأمريكية لبوتين الذي وصفه الإعلام الغربي «بالمجنون»، أي فاقد العقل والمتهور، وهناك من الإعلام من شبهه بالديكتاتور أدولف هتلر، لكن بوتين وفي كل مناسبة يخرج فيها للتحدث للمجتمع الدولي يوجه رسائله القوية بنوع من الثقة والشجاعة عارفا ماذا يريد وأين يريد أن يصل.
ظهر بوتين في إحدى خطبه الأخيرة، بوجهه الصارم وكلماته المقتضبة ونبرته القوية، وكان هدفه واضحا بأسلوبه الذي يعرفه الجميع، مباشرا ومقتضبا وقويا. مايميز بوتين هذه المرة هو توجيه رسائله المعلنة والمشفرة من منطلق العارف بالتحولات الهائلة التي طرأت على العالم ابتداء من الشرق الأوسط ومرورا بإفريقيا ثم أوروبا، خطوة خطوة، ابتداء بالتاريخ وماعاشه الاتحاد السوفياتي سابقا من صعود ونزول وازدهار وتدهور، ثم ينطلق في عملية تفكيك أسرار الجغرافيا، انطلاقا من العراق وسوريا وجورجيا ومناطق القوقاز، إنه الخبير بالتاريخ والجغرافية السياسية والجيولوجيا والأسواق وأخيرا خدعة المعلومات التي هي حرفته القديمة في بيت المخابرات وعوالمها المتعفنة.
هاهو بوتين يتحدث بطلاقة وبلغة مكشوفة ويقول للاتحاد الأروبي بلغة فيها نوع من الاستهتار والسخرية، أنت اتحاد هش، أصابتك الشيخوخة المسكونة بكل الأمراض، أنت مجرد عجوز كافر بكل المبادئ الديمقراطية التي تبشر بها العالم في كل خطاباتك الركيكة، أنت مجرد قرد تابع لسيدك أمريكا، أمريكا الوقحة.
لقد استعمل بوتين كلمة الوقاحة أكثر من خمس مرات، ونبه الولايات المتحدة أن كل ماتقوم به من مؤامرات خبيثة يعرفها ويتابعها بدقة، وهنا يريد أن يقول لها ومعها حلف الناتو إنني أعرف جيد ماذا تريدون وماذا تخططون له في الظلام، وهنا سيتحول بوتين من رجل الحرب إلى أستاذ في علم الأخلاق والفلسفة ويقول للولايات المتحدة تحديدا: هذا ليس جديدا عليكم فأنتم دأبتم على التخطيط في الظلام وأكل غلة العالم في واضحة النهار وهذه هي حقيقة تاريخكم المجهول والمظلم.
إن بوتين في هذه المرة يريد أن يقول لهم، بكل وضوح، لقد طفح الكيل، ولم تعد الأمور خافية على أحد، وأصبح علينا أخلاقيا أن نقول لكم الحقيقة التي تحاولون إخفاءها وهي واضحة وضوح الشمس مفادها أنه لايمكن أن تحكموا العالم لوحدكم وبطريقتكم الاستعمارية الوقحة، إننا هنا نتابع كل شيء، إننا هنا كقوة حقيقية وليس أشباحا كما تحاولون أن تقدموننا للعالم، ورفعا لكل لبس يقول لهم بشكل مباشر وبلغة التهديد: «إلى كل أولئك الذين يفكرون في التدخل الخارجي: إذا فعلتم ذلك، فستواجهون عواقب أكبر من أية عواقب أخرى في التاريخ».
ومن ردود أفعال الحرب التي شنها بوتين على أوكرانيا والتي قال عنها : «لقد كان قرارا صعبا علي اتخاذه، ولم يكن لذي خيار آخر»، نجد صحيفة الفينناشل تايمز التي اعتبرت في افتتاحيتها أن: «حرب الدمار التي أطلقها فلاديمير بوتين على أوكرانيا قد غيرت العالم مثل سقوط جدار برلين، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر». وقد انقسم العالم بما فيه من مفكرين وكتاب ومحللين بين مؤيد للغزو ورافض له بشكل مطلق، باعتباره يمس الجوهر الذي بني عليه القانون الدولي وهو الاستقلالية والسلام.
من جانبه اعتبر المفكر الماركسي السلافي جيجيك أن غزو أوكرانيا لايعكس سوى «الحقيقة الروسية التي تظهر بما لايدع مجلا للشك أن بوتين نسخة من التوسع الإمبريالي الغربي، وبوتين عندما يقول إنه يريد «اجتثاث النازية» فيجب علينا أن نتذكر أنه هو نفسه الذي دعم مارين لوبان في فرنسا واليمين المتطرف في ايطاليا وحركات فاشية جديدة …».
من جانبه يقول المحلل الروسي المقيم في لندن فلاديميرباستخوف إن بوتين ارتكب أخطاء فادحة في تقديره لغزو أوكرانيا وأخطرها استهانته برد الفعل الدولي الذي كان رد فعله قويا وخطيرا بما فيه الصين حليفه التقليدي الأول، ناهيك عن عدم تقدير رد الفعل الشعبي والعسكري للجيش الأوكراني.
الآن التحالف الغربي بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول أن تطيل مدة الحرب حتى تقوم بتنزيل كل مخططاتها في تدمير الاقتصاد الروسي والدفع أكثر بتجفيف كل المنابع من أجل إضعاف بوتين وسحقه بطريقة آلية وفنية، وهو مافطن له هذا الأخير، ولهذا فهو لديه كل الأوراق بما فيها ورقة الغاز، وإذا تم تجاوزها من طرف الغرب فإن ورقة «العقيدة النووية» التي وضعها في حالة تأهب قصوى تبقى هي الفيصل بين الجد واللعب.
لقد حاول بوتين أن يقدم روسيا بوجه جديد وتوجه مغاير، وغزوه لأوكرانيا لا محالة سيكون له مايكون من تحولات على الخريطة الدولية سواء عسكريا أو اقتصاديا أو جيوسياسيا، والسؤال الملح، ماهو موقع الدول السائرة في طريف النمو، وهل هي على استعداد لمواجهة الوضع في حالة حدوث حرب كبيرة بين اللاعبين الكبار في العلاقات الدولية روسيا / حلف الناتو؟ ألا يمكن اعتبار هذه الحرب فرصة لمراجعة التوجهات الاستراتيجة لهذه الدول؟ وهل ستؤدي هذه الدول التكلفة الباهظة على حرب لايعرفون عنها أي شيء؟
وختاما إن مايحدث الآن أمام العالم ونحن نتابعه مباشرة يعطينا فرصة كبيرة للفهم أن الحرب على أوكرانيا وما يتبعها من ردود قوية من طرف الدول العظمى ليس بريئا، وأن مايحركهم جميعا ليس هو حماية هذا البلد الغني وكذا الدفاع عن قدسية القانون الدولي بل هو منطق الغنيمة، وبما أن أوكرانيا تعتبر «سلة الغذاء» لأوروبا والاحتياطي الكبير للغاز والمعادن الثمينة للولايات المتحدة الأمريكية والبوابة الرئيسية للعبور والإنصات إلى دقات قلب الكرملين، فالجميع يلهث للفوز بهذه العروس الجميلة على حد تعبير أحد المدونين، لكن السؤال المر هو: ماهو ثمن مهر هذه العروس؟ وهل سيتم الاعتماد على نبوءة القلب أم نبوءة العقل في هذا النزال الدولي.

كاتب صحافي مغربي

الكاتب : عبد الكريم ساورة - بتاريخ : 09/03/2022

التعليقات مغلقة.