إدغار موران: كورونا وسؤال المستقبل
محمد بوالراس
“إن ما يميز الآلهة هو كونهم يخلقون لنا المفاجآت:
فالمنتظر لا يتحقق تماما، ودور الإله هو أن يفتح الطريق أمام اللامنتظر”[1].
أوريبيد
يعلق «إدغار موران» على هذا القول قائلا: «إننا لم نستوعب بعد رسالة أوريبيد: توقع اللامنتظر، رغم أن نهاية القرن العشرين شكلت فرصة مناسبة من أجل فهم اللايقين الحتمي للتاريخ البشري»[2].
من يقرأ هذه السطور بتمعن، يلمح فيها دعوة «إدغار موران» إلى الانخراط في سؤال الاستشراف المستقبلي، لكن بأي معنى؟ هل يؤكد الرجل على إمكانية أو لا إمكانية الاستشراف؟ و بالأحرى ضرورة التفكير مع هذا الفيلسوف في الكيفية التي طرح بها قضية الاستشراف؟ لذا فيما يتمثل فعل الفيلسوف في هذا السياق؟ و ما علاقة مسألة الاستشراف بالوضع الاستثنائي الراهن (كوفيد 19)؟
إن بنية الزمن في ما بعد الحداثة لا تخضع لمنطق التسلسل الكرونولوجي: ماض، حاضر، مستقبل. وإنما تخضع لمنطق آخر، منطق العودة والانفلات والتكرار بكفيات مختلفة، فقد تقتصر هذه البنية على زمن أحادي (الماضي أو الحاضر) أو زمنين(ماض و حاضر)، وقد تقوم على تداخل الأزمنة، وفي ظل هذه العلاقة المعقدة تنبثق فكرة الاستشراف، للكشف عن الخطوات التي ينبغي أن تتخذ مسبقا إزاء الآتي، بغية التحكم في زمام الأمور. وعلى هذا النحو نكون أمام إشكال فلسفي عميق، إشكال اللايقين/ أزمة اليقين.
يذكرنا الفيلسوف الذي نحن بصدد ضيافته في رحاب المكتوب، «إدغار موران» طبعا، بالاعتقاد الذي كان سائدا في القرون السابقة حول المستقبل، سواء بالمعنى التكراري أو التقدمي، ثم يفاجئنا بميزة القرن العشرين وهي فقدان المستقبل، وبعبارة صريحة «استحالة التنبؤ بالمستقبل»[3]. والوعي بهذه المسألة تستدعي بالموازة وعي تاريخي، يفترض التخلي على وهم التنبؤ بالمصير الإنساني مادام التاريخ البشري مغامرة مجهولة مفتوحة على نهايات لاحصر لها. صاحبنا لا ينكر المحددات المؤثرة في مجرى التاريخ كالمحددات الاقتصادية والعلمية، ولكن ليس لها صلة ثابتة ويقينية مع الطوارئ التي تقلب مسار التاريخ وتخفق الفعل الاستشرافي.
يستمر هذا الفيلسوف بتأكيد انهيار أسطورة التقدم -بالتأكيد إن التقدم شيء ممكن، لكنه غير يقيني- وعن لا يقينية المستقبل، من خلال استحضار مجموعة من الأحداث التاريخية بدءا من ربيع 1914 إلى سنة 2000. ثم علق على هذه الأحداث في حدود ثلاثة أسطر يمكن اختصارها في مقولة أساسية: «لقد أصبح للمستقبل اسما آخر ألا و هو اللايقين».
يرفض «إدغار موران» بداهة قراءة الواقع لأن الواقع أعقد مما نعتقد، فالأفكار و النظريات التي نعتبرها مرآة تعكس الوقع لا تعكس صراحة إلا نظرتنا لهذا الواقع، يقول الرجل و هو يعي ما يقول: «إن واقعنا ليس شيئا آخر سوى فكرتنا عن الواقع». ثم توقف مليا و يضيف فكرة أساسية وهي: «كما أنه من الأهمية بمكان أن لا نكون واقعيين بالمعنى المبتذل(بمعنى التكيف مع ما هو مباشر)، وأن لا نكون غير واقعيين بالمعنى المبتذل (بمعنى التملص من اكراهات الواقع)، يتعين علينا أن نكون واقعيين بالمعنى المركب: بحيث نفهم لا يقينية الواقع، و ندرك أن ثمة شيء يمكن معرفته لا زال غير مرئي في الواقع»[4]. يعلن بقوله هذا عن انشطار الواقع إلى شطرين؛ شطر مرئي (الحالة العادية) وأخر لا مرئي (الحالة الاستثنائية).
كيف يمكن التنبؤ بالجديد (بأي معنى يمكن توقع الآتي)؟ لو كان بإمكاننا أن نتعرف عن الجديد قبل حدوثه لصار قديما، لأن هذا ويلغي هويته، نقتبس من أحد نصوص موران قول مفيد: «إن التاريخ لا يتقدم بشكل انسيابي، مثل تدفق النهر، بل يسير على شكل انحرافات مصدرها سواء أنواع التجديد والابتكار الداخلية أو الأحداث أو الطوارئ الخارجية»[5]. أي أن التاريخ العالمي يتشكل كانحراف عن المألوف، حيث تتكاثر الأحداث بشكل تدريجي، كامتداد لطوارئ خارجية أو كتصاعد لحالة استثنائية داخلية، لينتهي الأمر بأزمة كصيغة للوجود. وبالأحرى الحقيقة المهمشة يمكن أن تتحول إلى يقين مركزي، وباء كورونا يتوافق مع هذا التحديد؛ في البداية كان مجرد حدث هامشي ووهان الصينية ثم تحول إلى طارئ وبائي عالمي يحتل المركزية. لهذا عمل العالم على إقصاء هذا فيروس الفتاك، المرعب، بهدف بناء عالم إنساني متضامن نابع عن انحرف الحياة عن المعتاد، «كل تطور هو ثمرة انحراف، والذي ما أن يتسع حتى يحول النسق ذاته الذي ولد فيه: إنه يخل بالنظام السائد ويعيد تنظيمه بشكل جديد»[6]. وفق عبارة «إدغار موران».
وعلى أي، ليس هناك تطور خارج إطار الطوارئ واللامألوف، لهذا ينفي الرجل مسألة التجديد ويعوضها بالهدم باعتباره مناسبة للبناء، وبالتالي فالتاريخ البشري هو تاريخ هدم وبناء، توقف وتحرك، لا يسير وفق تطور خطي بل تعترضه انحرافات مصيرية ومنعطافات حاسمة، يتعلق الأمر بحركة وصيرورة.
لقد أفضى انخراط العالم في معركة محاربة الحالة الوبائية إلى إيقاظ إنسانية الإنسان بالتواصل الفعال، وجعل من العلاقة التنافسية/الصراعية، علاقة تكاملية تجسد لحظة السمو الإنساني، كلحظة لتراجع ثقافة الاستهلاك والتسكع وصعود ثقافة المكوث كفعل إنساني تضامني.
وكاقتراح للتخفيف من شدة اللامنتظر يدعو الفيلسوف بوضع البرنامج في مرتبة ثانوية، وإن كان يحدد تسلسل الأفعال في شروط معينة، فبتوقف تلك الشروط يتوقف تنفيذه ككل. من هنا تنبع أولوية الاستراتيجية التي تتميز بطابعها التكيفي مع أي وضع، لكن هذا المقترح رهين بالمدى القصير فقط أما المدى البعيد فأفق توقعه مسدودة مادام الحاضر يضم بين ثناياه جوانب مظلمة، «فإن المستقبل سيكون خليطا من مجهولا من الأمور المتوقعة وغير المتوقعة»[7].
من هنا تنبع أولوية الاستراتيجية التي تتميز بطابعها التكيفي مع أي وضع، حيث تعمل على تهييء خطة العمل مع توقع نسبي للامنتظر، وقابلة للتعديل كلما اقتضت الضرورة ذلك، و من سماتها كذلك الحيطة والجرأة، أي أن اشتغالها يتأرجح بين ذا وذاك ، و أحيانا تشتغل بهما معا.
خلاصة القول أنه لمواجهة أخطار المستقبل ينبغي وضع استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار مختلف الاحتمالات التي يمكن أن تشكل أزمة محلية أو كونية.
و خير الختام قول سديد لإدغار موران، «إن كل ما يحتمل الحظ يحتمل المخاطرة، و على الفكر أن يعترف بالخطوط اللازمة للمخاطرات و كذا بالمخاطر اللازمة للحظوظ…لنتعلم إذن كيف نأمل في تحقيق ما يبدو غير مأمول، و لنتعلم كيف نراهن على ما هو غير محتمل».
المصادر:
1. إدغار موران، تربية المستقبل: المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، دار توبقال، منشورات اليونسكو، البيضاء، الطبعة الأولى، 2002، ص 73.
2. المرجع نفسه، 73.
3. المرجع نفسه، 73..
4. المرجع نفسه، ص 79.
5. المرجع نفسه، ص 75.
6. المرجع نفسه، 76.
7. إدغار موران، إلى يسير العالم؟، ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى 2009، ص 25.
الكاتب : محمد بوالراس - بتاريخ : 13/07/2020