إشكالية التعريب وأزمة التعدد اللغوي في نظامنا التعليمي 2/2

محمد بادرة

هل الازدواج اللغوي قائم في منظومتنا التعليمية ؟
يرى الأستاذ الفاسي الفهري أنه لا توجد ازدواجية لغوية في المغرب خلافا لما يعتقد الكثيرون من المتتبعين للشأن اللغوي، فالازدواج اللغوي الرسمي قائم في كندا وبلجيكا أو سويسرا لأنه يتيح للمواطنين في هذه الأقطار أن يستعملوا لغتين على قدم المساواة للتوظيف في قطاع التعليم والإدارة والاقتصاد والحياة اليومية فتكون الازدواجية(فرنسية-انجليزية)-(فلامانية –فرنسية)- (فرنسية – ألمانية) ناتجة عن تكافؤ في وظيفية اللغتين وقدرتهما على التعبير في مختلف المجالات.
أما في المغرب فإن الازدواج اللغوي غير وارد لأن اللغة العربية لم تتح لها فرصة القيام بالأدوار الكبرى التي وكلت وتوكل للغة الفرنسية في الإدارة والاقتصاد والمجالات العلمية الدقيقة، ونحن كما يعتقد الأستاذ الفاسي الفهري بإزاء تشقيق لسني لا ازدواج لغوي فعلي أو ثنائية لغوية كما هو الشأن في كندا مثلا ولا ازدواج لهجي طبيعي كما نجد في ملا سنة العربية والعامية .
كل ما هناك هو وجود لسان ينخره التشقيق لأنه موزع بين عبارة لغوية فرنسية (في المجالات المرموقة) وعبارة عربية (فصيحة أو عامية) في الدين والخطب الرسمية والحياة اليومية ولكن اللغة الفرنسية في هذا الوضع مهيمنة مما ينتج عنه التشقق والتشتت.
3- التعريب رد فعل سياسي لا مشروع ثقافي !!!
اعتبر الأستاذ عبد الله العروي أن مسالة التعريب لها وجهان :
أ- الاول كون اللسان الأجنبي حل محل اللسان الأصلي في دور الوسيط بين اللغات الاصطلاحية التي تستعملها الفئات المختلفة في المجتمع.
ب- الثاني كون هذا اللسان الأصلي الذي ضبطت قواعد توليد مفرداته وتراكيبها منقطعة عن اللغات التي تكون بدورها قد توقفت عن النمو بسبب جمود المجتمع .
لذا فالدعوة إلى التعريب في هذا المجال لها مغزى سياسي واضح (إنها دعوة إلى الوحدة الوطنية ومحاولة لإيقاف تيار خطير يحول التقسيم الاجتماعي إلى تقسيم لغوي وثقافي… ويتحول إلى تناقض بين النخبة ذات النفوذ الاقتصادي وباقي الطبقات المحكومة والمحرومة ) .المرجع السابق- ص 214
الى جانب هذا التفسير التاريخي والسياسي، فان الوضع اللغوي للسان العربي الأصلي المقوعد عرف اختلالا وجمودا بفعل انقطاعه عن سيرورة التطور التاريخي والثقافي والحضاري، وهو نفسه الوضع الذي عانت منه حتى بعض اللغات العالمية كالفرنسية، حيث أن(علوما بكاملها تدرس في معاهد حرة باللسان الانجليزي،) ونقرا الآن (في صحفهم مقالات تشبه كثيرا ما نكتبه نحن عن التعريب ) ص 215.
4- هل التمسك بمبدأ التعريب شرط للحفاظ على الهوية ؟
يرى الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري في مقال نشر بإحدى الجرائد الوطنية في سنة 1995 انه إذا كان من حق المواطن المغربي أن يتعلم الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضيات والاقتصاد باللغة الفرنسية فان من باب أولى وأحرى أن يكون من حقه تعلم هذه العلوم والصناعات باللغة العربية.
كما ان على الدولة أن توفر له ذلك، لان العربية لغة الدستور والوطن ولا يعقل أن تدرس العلوم والصناعات بلغة أجنبية فقط دون اللغة الوطنية، فتعريب لسان المتعلم في مجالات العلوم والاقتصاد شيء ضروري لجعل اللغة العربية لغة تامة ولتلافي هيمنة اللغة الأجنبية وشعور متكلميها بالتفوق وإحداث خلل وتشقيق في لسن المتكلم المغربي بحيث يلجأ إلى استعمال اللغة الفرنسية كلما أراد التعبير في مجال من المجالات المرموقة .
ويضيف الأستاذ الفاسي الفهري في نفس المقال أن انفراد اللغة الأجنبية بهذه الوظائف المرموقة يحدث خللا واضحا في موقف المتكلم تجاه لغته فيشعر بنقصها وتدهور وظيفتها ومحدودية الفرص في استعمالها وفي الحصول على مناصب شغل الخ .. وتشقيق اللسن بهذا الشكل ينتج عنه الانفصام والشعور بالنقص والتشكيك في الهوية.
ولتحييد موقفه من التعريب وخلافا للرأي السائد فان مسالة التعريب في نظر عالمنا اللغوي لا يعني بالضرورة إحلال اللغة العربية محل اللغة الفرنسية، بل يعني أولا جعل اللغة العربية لسانا معبرا في مختلف القطاعات بمختلف الوظائف حتى يصبح اللسن العربي تاما ولن يتم ذلك الا بسياسة التعريب المدعوم.
5- التعريب المدعوم باللغات الأجنبية
التعريب المدعوم في نظر الأستاذ الفاسي الفهري هو سياسة لغوية يمكن أن تتحقق عبر سياسات وطنية وخطط متنوعة بما فيها الازدواج أو التعدد اللغوي المتزن. والتعدد اللغوي في نظر الكاتب مشروع طموح وصعب، قد يخل بالاندماج والاستقرار والتناغم المجتمعي إذا لم تكن الشروط البيئية والنفسية والثقافية جاهزة من اجل خدمة الأساس اللغوي الاندماجي.
إن الدعوة إلى الازدواج اللغوي أو التعدد اللغوي في قطاع من القطاعات لا يعني ضرورة ازدواجية اللسان أو الألسن، ويعطي مثالا عن الهولندي أو الفرنسي أو الألماني الذي يتعلم اللغة الانجليزية ويتقنها لتصبح لديه وسيلة اتصال بما يجد في ميدانه من معلومات وتقنيات ولكن هذا لا يعني انه يتكلم بها في محيطه (حتى ولو كان في الجامعة) بل إن اللغة الأجنبية لا تصبح لسانا معبرا إلا في حالات خاصة ومحدودة، هذا الوضع هو ما يحبذ الاستاذ الفهري ان يكون عليه التعريب المدعوم باللغات الأجنبية في بلدنا.
وفي نفس الاتجاه تساءل الأستاذ عبد الله العروي: لماذا لا نرضى بما يؤول إليه التطور تلقائيا، أي الازدواجية اللغوية؟ ولماذا لا نرحب بحالة مثل حالة الهند التي أحرزت درجة لا باس بها من العلم والتكنولوجيا؟ وهل هناك مصلحة حقيقية في طرح قضية التعريب سوى تعلق عاطفي بتراث قديم، وسوى مصلحة فئة قليلة من الفقهاء والأدباء والنحاة الذين لا يتقنون شيئا غير اللسان القديم !!!
إن الاعتراض يبدو وجيها لكن عند التدقيق والتمحيص يظهر انه مبني على مغالطة على افتراض شيء لا وجود له في الواقع، فالاعتراض سيكون مقبولا لو كان يتنافس بالفعل في مغربنا ووطننا مشروع التعريب ومشروع مضاد يستهدف تطورا ثقافيا بلسان متطور غير عربي وفي البلدان العربية (ليس هناك قرار تعريب جدي ولا قرار مضاد ) – المرجع السابق ص – 217
إن تدويل الاقتصاد وتدويل المعلومة وتدويل قنوات الاتصال.. كل ذلك أصبح يفرض علينا الوعي بوجود نظام دولي في كل شيء والذي يحرك هذا النظام و يؤطره ويتحكم فيه هي القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول الأوربية لذا فان إرساء المغرب وانخراطه في النظام الدولي عبر اللغة الفرنسية وحدها ليس موفقا، وان تنويع أدوات ولغات الإرساء قد يؤدي إلى نتائج أفضل.
6-أهمية اللغات في تجويد التعلمات وفي النجاح المدرسي
من المغالطات المنهجية ان نربط ضعف المستوى التعليمي بالتعريب، في مقابل تحسن المستوى التعليمي بالازدواج اللغوي لأن هذا المشكل مطروح حتى بالنسبة للغات الأجنبية الأخرى، فإذا أخذنا لغات دول راقية أو مصنعة مثل فرنسا أو ألمانيا أو اليابان فإننا لا نجد في لغات هذه الدول ما يكفي من المعلومات وهي تحتاج إلى إيجاد دعم مرجعي للغتها الوطنية عن طريق الانجليزية أساسا وبالتالي فان اللغة العربية ليست وحدها في وضع الضعف المرجعي النسبي ولكن من الخطأ أن نعتقد أن الدعم المرجعي المتوفر عن طريق الفرنسية كاف لبلوغ ما نرومه.
لذلك فمشكل انخفاض المستوى لا يتعلق باللغة العربية وإنما يتعلق بوسائط أخرى من جملتها ضعف مجالات كثيرة وضعف المحيط والمنظومة التي نعيش وسطها.
يرى الأستاذ الفاسي الفهري أن الصراع التحرري والصراعات الأخرى ذات الطبيعة السياسية مازالت قائمة حول مشكل اللغة ولا يمكن أن يحصل التعدد اللغوي الايجابي إلا بتهيئة الأوضاع البيئية والنفسية، وتمثل المدرسة البيئة الطبيعية لخلق التوازنات اللغوية الايجابية التي من شأنها خدمة المواطنة والمجتمع المستقر المتناغم مع جذوره وأصوله، والقادر على الاتصال مع غيره.(كما جاء على لسان الأستاذ الفاسي الفهري)
7-الإصلاح اللغوي مرهون بالإصلاحات الكبرى.. وبشكل مستمر
يرى الأستاذ ع. الله العروي أن قرار إصلاح اللغة هو من أصعب القرارات في تاريخ كل مجتمع، ولا يجرؤ على اتخاذها إلا الزعماء الأقوياء، وفي بلد ذي نظام قوي..
يستخلص من هذه الرأي أن قضية اللغة هي في العمق قضية إصلاح متواصل و ليست خاصة باللسان العربي ولا متولدة عن بنية خاصة به… ويكتسي الأمر صفة مشكل حاد عندما تحدث ظروف تمنع من اتخاذ القرارات لتحقيق الإصلاحات اللازمة ومنها انعدام حكم قومي (عبد الله العروي – المرجع السابق – ص 219)
فماذا يحدث عندنا لما نترك الأمور على حالها؟
تتعمق الازدواجية أي التباعد بين المنطوق والمكتوب، بين اللهجات واللسان، فالوعي بضرورة الإصلاح لم يبعث من جديد إلا بعدما جاءت الصدمة الاستعمارية الجديدة، ودخل مجتمعنا في صراع مرير مع الغرب، وكان التناقض بين الأوضاع اللغوية في كلا المجتمعين في مستوى التناقض الموجود على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية والعسكرية.
اننا اذا كنا نعني بالتعريب الحفاظ على صورة عارضة للعربية انجزها تطور تاريخي معين، وجمدت لأسباب سياسية واجتماعية معينة، فإننا لن نفعل سوى المحافظة على اصل المشكل ونؤخر الاصلاح الضروري، ومن يقول ان اللسان المعرب شكل حتمي تام ونهائي ما كان ان يكون ولا يمكن ان يكون على الصورة التي تحققت بالفعل يحكم على نفسه بتركيز الازدواجية التي نراها اليوم على درجتين: تساكن اللسان المعرب واللهجات في الحياة اليومية، ومزاحمة لسان اجنبي للسان المعرب في المدارس والجامعات )ص 223
في ظروفنا الحالية لم تعد العاطفة تلعب الدور الايجابي المعهود بل اصبحت حاجزا يمنع من ادراك حجم وعمق المشكلات ويجب اذن التحرر منها حتى نقضي على الازدواجية ونبدع وسيلة او وسائل لغوية وتواصلية للتفاهم سهلة وطيعة وقادرة على ترويج ثقافة جماهيرية وعصرية اي حاملة في كنهها فكرة الاصلاح الضروري المتواصل.

الكاتب : محمد بادرة - بتاريخ : 14/04/2022

التعليقات مغلقة.