احـتـمالات حـرب عـالمـيـة ثـالـثـة

محمد بوطاهر

بعد حوالي 77 سنة من نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي منيت فيها دول المحور (ألمانيا، اليابان، وإيطاليا) بهزيمة قاسية أنهت فيها طبيعة الحكم الشمولي، ها هي ذي نذر حرب عالمية ثالثة تدق طبول صراع قد يكون الأخير على هذا الكوكب. فما هي الأسباب التي قد تؤدي إلى اندلاع نزاع كارثي كهذا؟ وما احتمالات حدوثه؟ وما التبعات التي قد تنجم عنه إن قدر له وحدث؟
بعد انهيار الكتلة الاشتراكية في 91 عرف العالم تغيرات جذرية على صعيد كل من نفوذ القوى العالمية وطبيعة العلاقات فيما بينها. وقد طالت هذه التغيرات كلا من روسيا والصين وكوريا الشمالية في علاقتهم مع جيرانهم ومع العالم. فبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تحولت روسيا من النظام الاقتصادي المبني على الاشتراكية إلى النظام الرأسمالي. لكن نظامها السياسي استمر على حاله المتسم بالاستبداد: حكم الفرد الواحد المحاط بأوليكارشية ذات نفوذ قوي. هذا قاد إلى ظهور نظام هجين مبني على رخاء اقتصادي نسبي، وقمع سياسي لكل حراك سياسي-اجتماعي مطالب بالتغيير والتعددية. في نفس الوقت عرف الجوار الروسي أو ما كان يسمى بالكتلة الشرقية هجرة جماعية نحو القيم الليبرالية والديموقراطية للاتحاد الأوروبي، والانتساب لذراعه العسكري- النيتو، وهو ما كانت روسيا تنظر إليه بعين الريبة والقلق. وهذا ما أدى في النهاية إلى إشعال فتيل القتال بينها وبين أوكرانيا.
من جهة أخرى، عرفت الصين نموا اقتصاديا هائلا ساهم في زيادة ثقتها في نفسها وفي قدرتها على لعب دور سياسي متناسب مع حجمها الاقتصادي. وعلى غرار روسيا، فالصين أيضا تعتمد نظاما سياسيا شموليا. وإن كان في البداية مبنيا على حكم الحزب الواحد، فإنه، ومع الرئيس الحالي، تحول تدريجيا إلى حكم الفرد الواحد. في نفس الفترة، عرفت جارتها وغريمتها تايوان نموا وازدهارا اقتصاديا مبنيا أساسا على الصناعات العالية التكنولوجيا. وعلى عكس الصين، فإن تايوان تنهج نظاما سياسيا ديموقراطيا مبنيا على التعددية الحزبية والانتخابات الشفافة وحرية الصحافة والتعبير. الطريف في الأمر أن كلا من الصين وتايوان تطالب بأحقيتها في السيادة على الآخر (على اعتبار أن الدولتين هما في الأصل دولة واحدة اسمها الصين)، لكن الحجم الاقتصادي والعسكري الضخم للصين القارية مقارنة بتايوان يجعلها الأميل لبدء هجوم عسكري مباغت لإنهاء هذا التقسيم، وهو ما تؤكده الانتهاكات المتواصلة للآلة العسكرية الصينية للمجال الجوي والبحري لتايوان.
أخيرا، تقف كوريا الشمالية كطرف أصغر وأضعف اقتصاديا، لكنها تنهج نفس النهج السلطوي والديكتاتوري في نظام الحكم لديها. فمنذ توقف الحرب الكوريةسنة 1953، تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي في هذا البلد بسبب انغلاقه التجاري والثقافي عن باقي العالم باستثناء الصين التي تعد حاضنته الاقتصادية والإديولوجية. وهذا ما جعله من أفقر دول العالم. على الطرف النقيض، طور النظام السياسي ترسانة عسكرية قوية وصلت لحد امتلاكه أسلحة نووية وصواريخ باليستية ذات مدى بعيد. وقد كان لذلك سبب وجيه، فالحرب مع جارتها الجنوبية لم تنته بعد، على الأقل على المستوى الرسمي. حيث لاتزال كوريا الجنوبية تمثل تهديدا كبيرا لكوريا الشمالية، بحسب الدعاية الرسمية. ويمكن فهم هذا الأمر نظرا للازدهار الاقتصادي والاجتماعي الذي تتمتع به جارتها الجنوببة التي، على عكسها، تتبنى النظام الليبرالي والديموقراطي في نظامها السياسي والاقتصادي، مما يجعلها عامل عدم استقرار داخلي في الضفة الشمالية.
وهكذا، منذ 2010، زادت حدة التناقضات السياسية والاقتصادية بين دول المركز (روسيا، الصين، وكوريا الشمالية) مع جيرانها، مما أدى إلى مزيد من العزلة والحصار سواء سياسيا أو اقتصاديا. وهكذا وجدت روسيا نفسها محاطة بأنظمة الدفاع العسكري للناتو على طول حدودها مع دول شرق أوروبا، بل أن القلاقل وصلت إلى آخر معقلين لها : أوكرانيا وبلاروسيا، حيث تواصلت الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالتغيير. كما أن حمى التغيير بدأت تلج إلى داخل روسيا نفسها ولكنها تقابل بالقمع الشديد.
الصين كذلك بدأت تعيش حصارا اقتصاديا وإعلاميا للحد من نفوذها في العالم خصوصا مع إلغاء الصفقات مع الشركات الصينية (هواوي مثلا) في الكثير من الدول الغربية وبالخصوص أمريكا وكندا وأستراليا، أو من خلال التنديد بأعمال القمع والتعذيب لأقلية الإيغور المسلمة في شرق الصين حيث يزج بمئات الآلاف في معتقلات بدعوى إعادة التأهيل ومحاربة الفكر المتطرف.
كذلك ساهمت الأزمة الاقتصادية الخانقة في كوريا الشمالية إلى زيادة تجاربها الصاروخية والنووية في بحر الصين على مقربة من جارتها الجنوبية واليابان، وهو ما أدى بهاتين الأخيرتين إلى مراجعة قوانينها الداخلية عن التسلح لأجل رصد ميزانيات إضافية لمواجهة الخطر الشمالي المحدق بهما في أية لحظة. بالفعل، فالسلوك المزاجي للرئيس الكوري المستبد يجعل من خطر بدئه هجوما عسكريا مباغتا أمرا غير مستبعد.
إذن في إطار هذا الاحتقان السياسي والاقتصادي والعسكري فإن احتمالات نشوب حرب عالمية جديدة ليست بقليلة. فمن جهة، قد يقود يأس روسيا في تحقيق انتصار نهائي في الآجال المعقولة على أوكرانيا إلى فتح جبهات أخرى مع دول أخرى في شرق أوروبا بدعوى تهديد الأمن القومي الروسي(وهو ما تنبهت له كل من السويد وفنلاندا فعجلتا بتقديم طلب الانضمام إلى النيتو). والغرض من ذلك هو الضغط على أوروبا الغربية لأجل تقديم تنازلات مهمة تعيد لها سيادتها ومكانتها في هذه المنطقة الحيوية. من جهة أخرى قد تستغل الصين انخراط الغرب في الحرب الروسية-الأوكرانية للقيام بحملة عسكرية خاطفة لاسترجاع تايوان. غير أن السيناريو الأوكراني قد يعيد نفسه وتجد الصين نفسها في مستنقع عسكري طويل الأمد، خصوصا إن تم لها الدعم العسكري الذي تحظى به أوكرانيا، وهو ما أعلن عنه الرئيس الأمريكي بايدن صراحة. وهذا سيقودها حتما إلى التحالف مع روسيا في حرب واحدة ستجر أيضا كوريا الشمالية ضد المصالح الغربية في المجال الجغرافي لحدودها.
طبعا هذه الحرب، إن نشبت، لن تكون حربا تقليدية نظرا لامتلاك كل الأطراف للأسلحة النووية والتكنولوجيا العسكرية اللازمة لنقلها لمسافات طويلة- عابرة للقارات. لكن لا أحد سيرغب في استعمالها، لأنها أساسا أسلحة للردع وليس للهجوم. فأي استخدام لها سيعني دمار الجميع. لذا، وفي غياب ردة فعل يائسة من أحد الأطراف، فإن هذه الحرب العالمية ستكون أساسا محلية ولن تطال داخل القوى الكبرى. وهكذا سيكون الرهان لدى القوى الغربية مواصلة القتال والاستنزاف للآخر لكن من دون جره إلى وضعية مهينة أو إيصاله إلى درجة اليأس. لذا سكون الاستراتيجية الأساسية هي حصر المعارك في الداخل الأوكراني وربما بعض الدول الصغيرة المجاورة، والداخل التايواني، والحدود الفاصلة بين الكوريتين. ثم العمل على جر دول المركز إلى إعلان الهدنة بعد استنزافها ماديا ومعنويا. لن يكون هنالك استسلام على الطريقة القديمة لنهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل فقط توقف وعقد سلام دائم على أسس جديدة وقوانين متناسبة مع خسائر كل طرف. طبعا سيخرج الغرب منتصرا بفضل قوته وسطوته العالمية لكنه لن يستطيع تغيير الأنظمة السياسية لدول المركز، كما أنه لن يضمن سلاما أبديا إلا إذا حدثت معجزة وجاء التغيير من الداخل كما حصل مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
إذن فرص حدوث حرب عالمية ثالثة ليست ببعيدة، كما أن احتمال حدوث فناء نووي هو قائم. لكن إن كان للتاريخ من مسار فإن العودة إلى التوازن هي الأكثر احتمالا بعد حرب استنزاف في الغالب ستؤدي إلى انهاك دول المركز.

الكاتب : محمد بوطاهر - بتاريخ : 18/06/2022

التعليقات مغلقة.