الأخبار الزائفة بوسائط التواصل والمضللات قبل الزمن الرقمي
جمال المحافظ
لم يكن موضوع الأخبار الزائفة وليد جائحة فيروس كرونا المستجد، فقط، ولكن كان مرتبطا بمختلف المراحل التي عاشتها البشرية، والتي تصدى لها العديد من المفكرين بالنقد والدراسة والبحث خاصة المهتمين بقضايا السياسة والإعلام والاتصال، الذين ساهموا في تفكيك والتنبيه لآثارها السلبية على المجتمع.
ليس الغرض، تناول مسارات الأخبار الزائفة وتداعياتها في زمن الثورة الرقمية من زوايا متعددة، وإنما التوقف عند مرحلة الستينيات، حيث يلاحظ من خلال استقراء الوقائع الإعلامية خلال هذه الفترة، أن علال الفاسي ( 1910- 1974)، كان من أوائل الذين أثاروا الانتباه إلى خطورة انتشار الإشاعات والأخبار الزائفة عبر وسائط الإعلام التقليدي (الصحافة المكتوبة والإذاعة وتلفزيون زمن الأبيض والأسود) والتي وصفها ب»المضللات التي لا يخلو منها زمان ولا مكان، وتهدد الرأي العام وتحيد به عن طريق الصواب». وعلى الرغم من اختلاف السياقات، ما بين الأمس واليوم، قال علال الفاسي في إحدى مداخلاته أمام أول برلمان مغربي سنة 1963، «نجد الرأي العام مهددا بكثير من المضللات، التي تحيد به عن طريق الصواب، علاوة على ما يتوارثه من ضلال منقول، وزيادة على ما يكتنفه من دسائس المغرضين من أبنائه، ومن تفاعل عواطف التنافس، والحسد والمزاحمة المالية، وغير ذلك من نقائص الإنسانية، التي لا يخلو منها زمان ولا مكان».
وحمل المسؤولية في هذا السياق « لقوة المال ورجالها الدور الفعال في تضليل الناس، ونشر ما يساعد على الاحتفاظ بموارد الاستغلال، ومنابع الإثراء في يد المحتكرين من الرأسماليين». إلا أنه أكد رغم ذلك أن الواجب يفرض «تأييد الحرية، ونشر دعوتها». لذلك، «لا يمكننا أن نكبت أي تيار من التيارات، أو نمنع الاستماع لدعوة من الدعوات، وواجبنا نحو التفكير، يرغمنا على ترك الناس، ينظرون بأنفسهم، ويتدبرون في كل الآراء».
ويربط كل ذلك بالاهتمام بدعامات الصحافة والإعلام عبر الإقناع والدعوة المنظمة التي تعطيها قوة الإقناع والتأثير، كما كتب، في مؤلف «النقد الذاتي» منتقدا ما أسماه ب «الفكر العام» الذى يتلقى فيه الجمهور النظريات التقليدية، دون بحث ولا نظر، ثم يألفها، فلا يستطيع أن يقتنع بتغييرها. إلا أنه يميز بالمقابل، ما بين «الفكر العام» السلبي، و«الفكر العام الصحيح» والمتحرك، الذى يعد عاملا أساسيا في النظام الديمقراطي.
ويرى أنه على «مقدار القيمة التي لوسائل الاتصال المستمر بالشعب، من صحافة ونشر وخطابة ومذياع» فضلا عن أدوارها في «عمليات التنوير للفكر العام وإخراجه من حيز الجمود إلى حيز الحركة والتقدم، فضلا عن مسألة الحريات الضرورية للمجتمع».
فعلال الفاسي، لم يكتف بتوصيف هذا الواقع وتشخيصه، بل اقترح بدائل لتجاوزه، بهدف «تطوير المجتمع المغربي، في الحواضر والبوادي، ونشر التعليم في أوساطه، وتكوين الصحافة النقية، والقضاء على كل أسباب الخلاف، والمجاملات العقيمة، حتى يتكون رأي عام متحرك، يملأه الإيمان بالحرية، واليقين في الشعب».
وهذا ما يتطلب- حسبه – مقاومة ما كان ما يصفه ب»الجمود والرجعية والتقاليد البالية، وتبليغ رسالة العقل الصحيح للأمة، إذا أردنا أن يتكون عندنا الفكر العام المتحرك الحقيقي الذى لا تتم ديمقراطية بدون وجوده».
إلا أنه يشدد على فكرة رئيسية، حينما يشدد على «أن لا مسؤولية بغير حرية، ولا حرية بغير تفكير»، في الوقت الذى أصبح العالم، برمته، أمام كل واحد منا، ويستطيع الآن رجل الشارع، أن يعرف من أخبار أقصى نواحيه، ما لم يكن كبار العلماء والرحالين يعرفونه بالأمس، بعدما كانت في العصور الماضية، كل ناحية من نواحي العالم منفصلة عن بعضها. وبما أن لكل ناحية من هذه النواحي مشاكلها الخاصة وأحداثها، ومدارج تطوراتها وما ينشأ بها عن كل ذلك من آراء ووسائل لتحقيقها، فقد أصبحت أنباء ذلك جميعه، تنتقل في كل الأوساط، ويضطر الكل لقراءتها في الصحف، وسماعها في المذياع، والخوض فيها والتعليق عليها، والإصغاء إلى الذين يتحدثون عنها.
ولاحظ آنذاك، أن التقدم العصري، وضع في يد الحكومات أدوات عديدة، ليست في متناول غيرها، فقد أصبحت تستطيع أن تسير الإذاعات والصحف، وتنوع الإعلانات، وتخلق من أساليب التسلية والتلهية، ما تشغل به الفكر العام، أو توجهه الوجهة التي تريدها، وقوة المداخيل الحكومية التي لم يتقدم لها مثيل في التاريخ، فسحت لها آفاقا كثيرة، للإغراء وللدعاية، واستعمال أكبر عدد من ذوي القدرة على القول والخطابة والتأثير.
ونحن لا يمكننا، والحالة هذه، إلا أن نؤيد حرية القول والإذاعة، وأن نرفض، مبدأ احتكارهما في يد الدولة، أو بالأحرى في يد الشركات، لأن احتكارهما، معناه الضغط على الفكر العام، وجعله لا يتشبع رغم أنفه، إلا بالمواد التي تعدها له السلطات الحاكمة، أو الشركات الظالمة. وإذا كانت الحرية ستحرقنا – يقول علال الفاسي – الذى يخلص إلى القول في هذا السياق « فلنفعل، فإنها على كل حال، خير من الضغط، ومن التغذي بأفكار تنظمها، عبادة القوة أو عبادة المال».
ولكي نستطيع أن نقف من الحرية هذا الموقف، يجب على نخبتنا، أن تتحرر من كل سلطة حسية أو معنوية، لذوى المال أو ذوي الجاه، وأن لا تصدر في تفكيرها، إلا عن تجرد مطلق، من كل المنافع الموقوتة، غير مراعية إلا مصلحة الأمة، ومصلحة الحرية. لذا فمن واجبنا، أن ننصح النخبة المغربية – يقول علال الفاسي – بالاحتياط من سيطرة المادة ورجالها، إذا كانوا يريدون، أن يبذلوا جهدهم المحمود، في خدمة الجمهور المغربي، وتوجيهه الوجهة الصحيحة في تفكيره، وفي اعتقاده.
الكاتب : جمال المحافظ - بتاريخ : 06/04/2020