الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في المغرب: غياب رؤية استراتيجية وحاجة إلى تغيير جذري لأنماط التدبير
محمد السوعلي (*)
شهد المغرب، في السنوات الأخيرة، تحولات جذرية على الصعيدين المحلي والدولي، وهو ما كان يفترض أن يدفع الحكومة، ذات التوجهات الليبرالية، إلى أخذ حجم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي تواجه البلاد بعين الاعتبار وبجدية كبيرة، إلا أن حصيلة أدائها مع اقتراب نهاية ولايتها، تكشف عن عدم إيلائها هذه التحديات الأهمية التي تستحقها، ونتيجة لذلك، برزت إخفاقات في عدة مجالات حيوية، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الهيكلية والظرفية التي لم يتم التعامل مع أسبابها بالشكل المناسب.
هذه الإخفاقات لم تحل دون تحقيق المغرب بعض الإنجازات خصوصا في مجال الدبلوماسية، حيث أفلحت الجهود الذي قادها جلالة الملك في إنجاز مكاسب مهمة، سعت بعض الأحزاب السياسية إلى ترسيخها عبر مبادرات متنوعة، أبرزها المكانة التي أفردت للقضية الوطنية في اجتماع الأممية الاشتراكية الذي استضافه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
إضافة إلى ذلك، ومع تقييم السياسة الحكومية لسنة 2024، يبرز تحدٍ كبير يتمثل في الاستعداد لتنظيم كأس العالم 2030، الذي يتطلب ضخ مزيد من الاستثمارات الوطنية والأجنبية في البنيات التحتية والمشاريع المهيكلة. يبقى التساؤل حول ما إذا كان ما تبقى من عمر الحكومة الحالية يكفي لتطوير شبكة النقل البري والجوي والبحري والسككي، وبناء الوحدات الفندقية، وتأهيل الملاعب الرياضية في ما يقارب 32 مدينة لتحقيق النجاح المنشود. وسنحاول في هذا المقال الوقوف على مجمل الإخفاقات في تدبير القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وانعكاس هذا الإخفاق على السير العادي لوتيرة التنمية ببلادنا.
الإخفاقات في المجال الاقتصادي
رغم ما كانت تستوجبه التحديات المرتبطة بالأزمات العالمية من استنهاض للهمم، يبدو أن الحكومة لم تول الأمر العناية اللازمة، حيث إنها لم تتمكن من وضع استراتيجية فعّالة لتنويع القاعدة الاقتصادية، مما جعل الاقتصاد المغربي يعتمد بشكل مفرط على القطاعات التقليدية مثل الزراعة والفوسفات. وعلى الرغم من تسجيل بعض النمو في الصناعات التحويلية، إلا أن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي لا تزال محدودة. بالإضافة إلى ذلك، تعاني الحكومة من ضعف في تحفيز الاستثمار الداخلي، حيث لا تزال البيئة الاستثمارية تعيقها البيروقراطية وغياب الحوافز الاقتصادية الكافية، ما أدى إلى تعثر تنفيذ معظم المشروعات الكبرى المعلنة. ولم يكن القطاع الزراعي بمنأى عن هذه الإخفاقات، إذ تأثر بشدة بسبب الجفاف الممتد، ما أدى إلى انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 43% في عام 2024، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأزمة الغذائية وارتفاع أسعار المنتجات الزراعية.
إلى جانب ذلك، أظهرت البرامج التمويلية المخصصة لدعم خلق المقاولات الصغرى والمتوسطة وتمويل المشاريع، مثل برامج أوراش وانطلاقة وفرصة ودار المقاول، محدودية كبيرة في تحقيق أهدافها. هذه البرامج لم تتمكن من تعزيز ديناميكية ريادة الأعمال أو الحد من صعوبات التمويل التي تواجه الشباب والمقاولين الصغار، مما أدى إلى استمرار معاناة هذه الفئة من نقص الموارد الضرورية لتطوير مشاريعهم. وفي ظل هذه التحديات، ارتفع معدل البطالة إلى 21.4%، مما يعكس فشل السياسات الحكومية في مواجهة أزمة سوق العمل وتعزيز خلق فرص شغل مستدامة، خاصة بين الشباب والنساء.
إلى جانب هذه الإخفاقات الاقتصادية، يواجه المغرب أزمات بيئية متفاقمة، أبرزها ندرة المياه والجفاف الممتد، مما يؤثر بشكل كبير على الزراعة، التي تُعد أحد أعمدة الاقتصاد الوطني. ورغم الاستثمارات الحكومية في مشاريع إدارة المياه والسدود، لا تزال تأثيرات هذه السياسات محدودة بسبب غياب التخطيط الاستراتيجي للتكيف مع التغير المناخي. هذه الأزمة لا تؤثر فقط على الإنتاج الزراعي، بل تطال قطاع السياحة والأنشطة الاقتصادية الأخرى، مما يبرز الحاجة الملحة لسياسات بيئية مبتكرة ومستدامة.
الإخفاقات في المجال الاجتماعي
لم تتمكن الحكومة من تحقيق تقدم يُذكر في تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، حيث لا تزال المناطق القروية تعاني من نقص كبير في البنية التحتية والخدمات الأساسية، ما يؤدي إلى تفاقم حدة الفقر والتهميش. وفي ما يتعلق بالخدمات الصحية والتعليمية، فإن القطاع الصحي، رغم توسيع نطاق التغطية الصحية، لا يزال يواجه نقصًا حادًا في الموارد البشرية وضعفًا في البنية التحتية. المستشفيات العمومية تفتقر إلى المعدات الضرورية، ما يضيف عبئًا إضافيًا على الأسر ذات الدخل المحدود. أما في قطاع التعليم، فقد تفاقمت معدلات الهدر المدرسي، وضعفت جودة التعليم، مما يحد من بناء رأس مال بشري مؤهل لدعم الاقتصاد في المستقبل.
ورغم التوجيهات الملكية الداعمة لركائز الدولة الاجتماعية، ما زالت القطاعات الاجتماعية تعيش على وقع الركود والجمود وغياب الجودة في الخدمات. إلى جانب ذلك، أظهرت البرامج الاجتماعية الحكومية، مثل التحويلات النقدية وبرامج التأمين الصحي، محدودية كبيرة في تحقيق أهدافها بسبب سوء الاستهداف والتنفيذ، الأمر الذي أدى إلى استفادة الفئات غير المستحقة على حساب الفئات الأكثر حاجة، مما أضعف تأثير هذه البرامج في تحسين الوضع الاجتماعي للفئات الهشة.
الإخفاقات في المجال المالي والسياسات العمومية
رغم الجهود المبذولة لتنفيذ إصلاحات مالية، شهدت الموازنة العامة تفاقمًا في العجز خلال عام 2024 نتيجة لزيادة الإنفاق العام، خاصة لدعم رواتب موظفي القطاع العام والمؤسسات العمومية، مما زاد من الضغوط على المالية العامة وأضعف قدرتها على تمويل مشاريع تنموية حيوية. بالإضافة إلى ذلك، يعاني النظام الضريبي من غياب العدالة، حيث يتحمل الأجراء وصغار المهنيين العبء الأكبر من الضرائب مقارنة بالشركات الكبرى التي تستفيد من إعفاءات ضريبية واسعة، وهو ما يزيد من التفاوت في تحمل الأعباء المالية.
كما أن ضعف التحصيل الضريبي واستمرار ظاهرة التهرب الضريبي يمثلان تحديًا كبيرًا للخزينة العامة، ما يحرم الاقتصاد الوطني من موارد مالية ضرورية لتغطية الإنفاق على السياسات الاجتماعية والتنموية. وفقًا لقانون المالية لعام 2025، بلغت المديونية حوالي 960 مليار درهم، بينما تشكل خدمة الدين نسبة 5.3% من الناتج الداخلي الإجمالي. هذا الوضع المالي المتأزم يحد من قدرة الحكومة على توجيه الموارد نحو التنمية والاستثمار في القطاعات الحيوية، ويزيد من هشاشة الاقتصاد الوطني أمام الصدمات الداخلية والخارجية.
في ظل التحديات الراهنة، تبرز أهمية الإصلاحات التشريعية لتعزيز الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية. إصلاح قوانين العمل والضرائب، وتفعيل حق الإضراب بشكل يضمن حماية حقوق العمال وأرباب العمل، يمثل خطوات أساسية للخروج من الأزمات. كما يجب تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة السياسات العامة لضمان تحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة.
مظاهر النجاح في الدبلوماسية الرسمية والحزبية والبرلمانية
رغم هذا السجل الحافل بالإخفاقات، يبرز نجاح الدبلوماسية المغربية كإحدى النقاط المضيئة خلال هذه الفترة. بقيادة الملك محمد السادس، استطاع المغرب تعزيز حضوره الإقليمي والدولي والدفاع عن قضية الصحراء المغربية بنجاح في المحافل الدولية. كما أظهرت الدبلوماسية الحزبية، بقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، قدرة متميزة في الدفاع عن القضية الوطنية، وخاصة خلال اجتماع الأممية الاشتراكية في الرباط، حيث تم تأكيد دعم المجتمع الدولي لموقف المغرب بشأن الصحراء.
وقد أثمرت هذه الجهود عن سلسلة من النجاحات الدبلوماسية الحزبية، حيث تمكن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من حشد دعم كبير من الدول الأعضاء في الأممية الاشتراكية لصالح القضية الوطنية. ونجحت هذه الجهود في إقناع العديد من الدول بسحب اعترافها بخصوم الوحدة الترابية، والاعتراف بمصداقية مبادرة الحكم الذاتي التي اقترحتها المملكة المغربية كحل نهائي للنزاع المفتعل. هذا التحول الدبلوماسي يعكس الجهود الحثيثة التي يبذلها الحزب على الصعيد الدولي لتعزيز مكانة المغرب والدفاع عن مصالحه الاستراتيجية. إلى جانب ذلك، ساهم هذا النجاح في تعزيز التوجه نحو تحقيق اتحاد المغرب العربي كقوة إقليمية قادرة على مقارعة التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى في أوروبا وإفريقيا. ويظل هذا الهدف إحدى الركائز الأساسية للدبلوماسية المغربية التي تسعى إلى تعزيز التعاون الإقليمي، وتحقيق التنمية المستدامة في المنطقة المغاربية.
القوى الاشتراكية ورهان الانتخابات المقبلة: الطريق نحو مستقبل أفضل
مع بقاء سنة ونصف فقط على انتهاء ولاية الحكومة التي أبانت عن توجهها الليبرالي، وعن عدم اهتمامها بانتظارات وبحاجيات فئات واسعة من المغاربة، وعن استخفافها بكل ما يؤاخذ على بعض أعضائها من تضارب للمصالح في تسيير القطاعات التي يشرفون عليها، يبدو أن التحديات الراهنة لن تحظى بالاهتمام الذي تستحقه وأن الوضع الاقتصادي والاجتماعي سيظل على ما هو عليه، إذ يتطلب التصدي لهذه الأزمات إرادة سياسية قوية ورؤية استراتيجية واضحة تضع مصلحة المواطن في صلب أولوياتها، وقدرة على استثمار النجاح الدبلوماسي للمغرب بشكل جيد وتوظيفه في تحويل التحديات إلى فرص.
وحسب المشهد السياسي الحالي وتفاقم الإخفاقات في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والمالية وتضرر المواطنين من البطالة وغلاء المعيشة ومعضلات صناديق التقاعد وصناديق التأمين والتغطية الصحية والحماية الاجتماعية، يبقى على عاتق القوى الاشتراكية المؤمنة بالتغيير الاستعداد الأمثل لربح الرهانات الانتخابية المقبلة سنة 2026 و2027 للحصول على الأغلبية المريحة لمواجهة التغول الحكومي الحالي. ولن يتسنى تحقيق هذا الهدف دون التفاعل الجاد مع المواطنين والاعتماد على الشباب كرافعة للتغيير من أجل مستقبل أفضل للوطن والمواطنين.
حزب القوات الشعبية، الذي نجح في تغيير مواقف وتوجهات المجلس الدولي للأممية الاشتراكية لصالح المغرب وقضيته الوطنية، يمتلك مقومات فكرية وميدانية، بالإضافة إلى إرادة سياسية راسخة، تؤهله لتوحيد صفوف اليسار الديمقراطي في مواجهة السياسات الليبرالية. وقد تُرجم هذا التوجه عمليًا من خلال ميثاق التنسيق والشراكة الذي جمع بين حزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ما يفتح آفاقًا واعدة لبناء تحالف قوي يسهم في تعزيز الديمقراطية، وترسيخ العدالة الاجتماعية، ودفع عجلة التنمية المستدامة.
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات
الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 04/01/2025