الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ذكراه السادسة والسبعين

عبيد الحليمي (*)

يتبوأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مكانة خاصة في منظومة الحماية الدولية لحقوق الإنسان،ويحتل مرتبة متقدمة في سلم المواثيق الأممية، حيث يأتي في الهرم التراتبي بعد ميثاق هيئة الأمم المتحدة، كما يعتبر صكا دوليا ملهما وضامنا لمجموعة من الحقوق المتأصلة واللصيقة بالكرامة الإنسانية، فضلا عن كونه أساسا لمختلف الاتفاقيات والآليات.
لذا لا تزال ذكرى اعتماده لحظة راسخة في ذاكرة الأمم، نظرا للدور المحوري لمنظومة حقوق الإنسان في حماية الإنسانية من المآسي، حاضرا ومستقلا، وقد اختارت المفوضية السامية لحقوق الإنسان، هذه السنة، في حملتها لليوم العالمي لحقوق الإنسان، شعار «حقوقنا، مستقبلنا، فوراOur Rights, Our Future, Right Now»، لقناعة منها بأن احترام حقوق الإنسان هي المسار الناجع لإيجاد الحلول للمشاكل التي تواجهها البشرية، وبأنها تؤدي دورا حاسما في حماية الضحايا والوقاية من الانتهاكات أثناء الحرب والسلم…
وتحل ذكرى اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سياق دولي متسم بعدة مفارقات، حيث يشهد النظام العالمي الحالي الكثير من الصراعات في مختلف مناطق المعمور، ويواجه تحديات كثيرة متعلقة بالتحولات العميقة التي يعرفها المجتمع الدولي، سواء من خلال ظهور حقوق جديدة التي تقتضي مقاربات مختلفة في الحماية أو عبر الانتهاكات التي تعرفها الحقوق التقليدية المنصوص عليها في الإعلان؛
لأجل ذلك، تطرح هذه الورقة أربع تحديات للمناقشة والتحليل في الذكرى السادسة والسبعين لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

حماية حقوق الإنسان الكونية المنصوص عليها في الإعلان

يواجه الواقع الدولي تحديات كثيرة لحماية الحقوق المنصوص عليها في الإعلان، ويعرف تنامي مظاهر الانتهاكات التي ارتبطت تاريخيا بالأنظمة الشمولية، بعضها متعلق بعودة الانقلابات العسكرية والأنظمة السلطوية التي تؤمن بنظام الحزب الواحد، والبعض الأخر متصل بصعود الأحزاب المتشددة والشعبوية للسلطة وتولي اليمين المتطرف العنصري للحكم في بعض الدول (الغربية وغير الغربية)، إذ تشكل هذه التيارات خطرا حقيقيا على منظومة حقوق الإنسان الكونية، لأنها تؤسس مشروعيتها على التفوق العرقي والعداء لثقافات الشعوب الأخرى، فضلا عن إضفاء الشرعية للممارسات اللاإنسانية باسم الدين والعقيدة أو الإيديولوجيا أو العصبية والعرقية…
ويقدم النظام العالمي الحالي نماذج كثيرة لهذا النوع من الممارسات البائدة والتيارات المتصاعدة ذات المواقف العدائية لقيم حقوق الإنسان التي خاطبت الفرد بصفته إنسانا يولد حرا، متساويا في الحقوق، أي الإنسان كمفهوم عام ومجرد (الرجل/المرأة/ الطفل/ المسن…) بصرف النظر عن لونه، شكله، عرقه، معتقده، وضعه الاجتماعي أو أي شكل من أشكال التمييز؛
كما يظهر هذا الصعود المخيف لمثل هذه التيارات في أوربا بشرقها وغربها، في الولايات المتحدة الأمريكية، في العالم العربي والإسلامي، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، في آسيا بشمال شرقها وغربها وجنوبها؛وتعد سياسة اليمين الإسرائيلي بفلسطين نموذجا واقعيا على مثل هذا التطرف السياسي، القائمة على التهجير وبناء المستوطنات والتطهير العرقي وعدم منح عرب إسرائيل نفس الحقوق المدنية أسوة بالمواطنين الإسرائيليين، حيث لا يعترف بحق الفلسطينيين في الوجود ولا بخيار الدولتين، ما ينطبق أيضا على أحزاب اليمين المتعصب بأوروبا، والتيارات الدينية المتشددة بالعالم العربي والإسلامي ذات التوجهات المتطرفة…
على غرار ذلك، تتعرض الديمقراطية الليبرالية لاختبار حقيقي في الوقت الراهن، جراء التغيرات التي تمسها في الجوهر، سواء تعلق الأمر بالمتغيرات الداخلية ذات الصلة بصعود ظاهرة العنصرية والتضييق على الحريات حينما يتعلق الأمر ببعض القضايا الدولية، أو ارتبط بالصمت/الاحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان بالجغرافيات غير الغربية، لأسباب سياسية واقتصادية وثقافية، ويتضح بأن طريقة التعاطي الغربي مع الأزمة الأوكرانية ليست نفسها مع القضية الفلسطينية، كما يختلف الخطاب الحقوقي الغربي تجاه الدول النامية بحسب اختلاف مستويات العلاقات الاقتصادية والتجارية…
إن هذه الإشكالات المطروحة لا يمكن عزلها عن اللاعدالة الدولية بين دول الشمال ودول الجنوب، خاصة في ما يتعلق بالتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، أضف إلى ذلك ضغوطات الدول الكبرى على الدول الصغرى عبر توظيف حقوق الإنسان للحصول على صفقات مربحة ومنافع اقتصادية، فضلا عن توجيه المنظومة العالمية في اتجاه قبول نمط حقوقي واحد، وفرضه على الشعوب عبر دفع بعض القضايا الحقوقية إلى واجهة القضايا المركزية، التي قد تحدث نوعا من الصدام الحضاري مع الهويات الثقافية للمجتمعات غير الغربية…

النزاعات المتنامية بمختلف الجغرافيات الإقليمية

يتعلق التحدي الثاني بالنزاعات المتنامية بمختلف الجغرافيات العالمية، وتتسم هذه النزاعات بطابع الاستدامة، وهو ما يشبه الحروب الطويلة الأمد التي عرفتها الإنسانية منذ فجر التاريخ، فعلى غرار النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني باعتباره أطول نزاع في التاريخ الحديث، فإن هناك حروبا أخرى أكثر أثرا على حماية الحقوق الإنسانية، نموذج الحرب الأوكرانية التي انطلقت سنة 2014 على المستوى الداخلي قبل أن تتطور إلى حرب استنزاف بين روسيا وأوكرانيا سنة 2022، وتعد هذه الحرب الأسوأ من نوعها في أوربا منذ الحرب العالمية الثانية…
كما لا تزال التداعيات الوخيمة على منظومة حقوق الإنسان لاحتجاجات ما سمي»بالربيع العربي سنة 2011»، مستمرة بكل من ليبيا وسوريا واليمن، فضلا عن النزاعات الداخلية ببعض الدول الأخرى (نموذج السودان)، التي لا يمكن فصلها عن المنافسة الدولية على الثروة والنفوذ الإقليمي، ويتجلى ذلك من خلال إشعال الحروب ودعم التعصب العرقي والتطرف الديني والانفصال، لتؤدي بالنتيجة إلى ظهور حروب بالوكالة تنفذها جماعات لصالح قوى ذات أطماع جيواستراتيجية…
وثمة إشكاليات أخرى ذات علاقة بعدم الاستقرار الداخلي لبعض الدول جراء الأزمات السياسية المتوالية والارتفاع في الجريمة المنظمة/العبارة للحدود، فضلا عن أنشطة شبكات الاتجار بالبشر والتهريب والاختفاء القسري والتعذيب بجميع أشكاله، حيث لا تسلم مختلف مناطق العالم من مظاهر الانتهاكات الحقوقية الجسيمة وغير الجسيمة، سواء كانت صراعات إقليمية أو نزاعات داخلية أو أنشطة لشبكات وميليشيات مسلحة، تمارس الأنشطة الإجرامية غير المشروعة…
فأوروبا تشهد حربا طاحنة تنذر باندلاع حرب عالمية أو نووية بين الغرب وروسيا، وفي إفريقيا تتنامى الحروب الأهلية والانقسامات السياسية الداخلية، إضافة إلى أنشطة الجماعات الإرهابية وشركات الأمن الخاص والمليشيات المسلحة التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، أما أمريكا اللاتينية فتعرف بعض دولها ارتفاعا غير مسبوق في الجريمة المنظمة، فضلا عن الأزمات السياسية الداخلية، بينما تشهد منطقة الشرق الأوسط أوضاعا مزرية نتيجة الحروب ذات الأبعاد الإقليمية، وبدورها تشهد مناطق أخرى بآسيا نزاعات شبيهة…

القضايا الناشئة لحقوق الإنسان

على الرغم من الأهمية البالغة للحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أن التطورات التي عرفتها الإنسانية خلال الستة والسبعين سنة، أنتجت أجيالا جديدة من الحقوق الإنسانية، سميت بحقوق الجيل الثالث حسب تصنيف كارل فازاكKarel Vasak، إلى جانب الجيل الأول(الحقوق المدنية والسياسية)، والجيل الثاني (الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، المبنية على فكرة الأخوة والتضامن، كالحق في التنمية المستدامة والحق في السلام وحق العيش في بيئة سليمة والمساعدة الإنسانية…
بيد أن هذا التصنيف أثار الكثير من الجدل، لاعتبارات يمكن حصرها في، أولا: تضع هذه الحقوق المسؤولية على المجتمع الدولي، الأمر الذي يؤدي بالدول إلى البحث عن ذرائع للتملص من التزاماتها الدولية في حماية حقوق الإنسان؛وثانيا: يطلق على هذه الحقوق وصف الحقوق الجماعية، والحال أن الحقوق بطبيعتها لصيقة بالفرد وبالكرامة المتأصلة في الإنسان…
وبصرف النظر عن هذا الجدل المرتبط بالمرجعيات، فإن ظهور أجيال جديدة لحقوق الإنسان أضحى حقيقة ماثلة، قد يتفق/يختلف حول تسميتها، بأجيال جديدة من الحقوق أو أنها قضايا ناشئة، وذلك راجع للتطور في الوعي الحقوقي الدولي، الذي وازاه ظهور أنماط جديدة من الانتهاكات لحقوق لم ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان..
ولا يقتصر الأمر على الحقوق المشار إليها آنفا، بقدر ما يتعلق بمجموعة من الحقوق المركبة في طبيعتها وذات صلة بتحديات تكنولوجية ومناخية ووبائية واقتصادية وسياسية، فمثلا يضع التطور اللافت للنظر لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، منظومة الحماية الدولية لحقوق الإنسان أمام عقبات وإشكاليات كثيرة، خصوصا إذا ما استحضرنا بأن عالم الأنترنت -الذي يشكل فضاء لمثل هذه التطبيقات- غير خاضع لأية سلطة دولية ولا تديره أي منظمة أو مؤسسة أممية، كما يطرح استعمال تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الحروب إشكاليات معقدة، فإذا كانت الحروب التقليدية التي يخوضها البشر ينتج عنها انتهاكات لحقوق الإنسان، فإن نتائج الحروب التي تتم بواسطة الذكاء الاصطناعي ستكون أكثر خطرا..
لذا فالتحديات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي ليست مرتبطة فقط بالمعايير الدولية (إرساء اتفاقيات دولية وإقليمية) والتشريعات الوطنية ذات الصلة، ولا بالتفاوت في امتلاك هذه التطبيقات بين الدول (المصنعة وغير المصنعة)، بقدر ما لها علاقة بغياب آليات دولية ناجعة، قادرة على ضبط الاستعمالات غير السليمة للذكاء الاصطناعي؛ وفي السياق ذاته، تواجه منظومة حقوق الإنسان في الفضاء السيبراني تحديات مشابهة، حيث أضحت انتهاكات الخصوصية والمس بحقوق الأفراد أحد أبرز الإشكاليات، لأن الفاعلين في الفضاء السيبراني هم شبكة من الأشخاص الوهميون والافتراضيون والشركات المنتجة والمصدرة والخواص…
من جانب آخر، تعرف المنظومة المفاهيمية لحقوق الإنسان تطورا سريعا وتحولا موازيا للتطورات التي تعرفها الإنسانية في جميع المجالات، فمفهوم العنف – على سبيل المثال-لم يعد يرتبط بمعناه التقليدي، بل إن المفهوم ذاته تعرض للتطور فضلا عن تعدد الفضاءات التي يمارس فيها، فهناك العنف الرقمي أو في الفضاء الرقمي، والعنف في الأوساط الرياضية والعنف في حالة الطوارئ الصحية (فترات الحجر الصحي)، والعنف في فضاءات العمل غير الواقعية…
وتشكل التغيرات المناخية تحديا آخرا يواجه منظومة حقوق الإنسان، لأنها تؤثر على جميع الحقوق (المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، فمثلا يؤدي التغير المناخي إلى ظهور ظاهرة اللجوء البيئي بسبب استحالة العيش في المناطق المتأثرة بالظواهر المناخية الشديدة، فضلا عن تأثر صحة الإنسان وارتفاع ظاهرة الهجرة (الداخلية والعابرة للحدود) بسبب فقدان مناصب الشغل وأزمة الماء، ناهيك عن الاستنزاف الذي تتعرض له الطبيعة، وتنذر الحقوق المرتبطة بالمياه باندلاع أزمات مستقبلية معقدة، لن تشمل فقط البحار الدافئة والبحر الإقليمي والمعابر المائية، بقدر ما سترتبط بالمياه العذبة المشتركة والمياه الجوفية الإقليمية…

التغير في طبيعة النظام الدولي

يتعلق التحدي الرابع بالتغيرات التي يعرفها النظام الدولي الحالي، ورغم أن بنيته لم يطلها التغيير الكبير، إلا أنه يشهد دينامية مختلفة عن المرحلة التي أقر فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي اتسمت بالكثير من التفاؤل بميلاد نظام دولي عادل، فضلا عن أنها مرحلة عرفت تفوقا نسبيا للولايات المتحدة الأمريكية، حيث استفادت من مشاركتها المتأخرة في الحرب العالمية الثانية، وأكسبتها قوة أكثر مقارنة بالقوى الأخرى المشاركة، بما في ذلك القوى التي خرجت منتصرة في الحرب؛
وقد مكنها هذا المعطى من التفاوض من موقع قوة لغاية إقرار قواعد النظام الدولي المنبثق من رماد الحرب العالمية الثانية، ما انعكس أيضا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذ ترأست لجنة صياغته،إليانور روزفلتEleanor Roosvelt، أرملة الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت Franklin Delano Roosevelt(ما بين سنة 1933 وسنة وفاته 1945)، وساهمت بشكل كبير في إقراره في الوقت الذي بدا الاختلاف الإديولوجي واضحا أثناء إعداد الإعلان واعتماده بقرار الجمعية العامة، أي الاختلاف بين مرجعيات الدول الغربية؛ والدول الشرقية؛ والمملكة العربية السعودية؛ وجنوب إفريقيا…
ورغم امتناع ثمان دول عن التصويت عليه، إلا أن اعتماده عكس نوعا من التوافق الأممي ما كان ليحصل لو تأخرت جلسات مناقشته إلى مرحلة اشتداد صراعات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، فضلا عن أن الإعلان لم تصوت عليه أي دولة بالرفض، ما يعني أن ال48 دولة التي صوتت عليه آنذاك عكست نوعا من الإجماع على مقتضياته، خصوصا إذا ما استحضرنا هيكلة لجنة الصياغة التي شملت مختلف المناطق الجغرافية العالمية، وأيضا عمل لجنة المبادئ الفلسفية التابعة لليونيسكو، التي قامت باستطلاع آراء المثقفين من مختلف الجغرافيات الثقافية والعلماء الأكثر تأثيرا في العالم خلال تلك المرحلة، وخلصت إلى أن هناك حقوقا متفقا عليها بين الإنسانية جمعاء بصرف النظر عن الاختلاف الثقافي؛
ويبدو أن السياق العالمي الحالي مختلف بشكل كبير، فنظام الأمم المتحدة يتكون الآن من 193 دولة مقارنة ب56 دولة أثناء اعتماد الإعلان سنة 1948، و51 دولة أثناء إقرار ميثاق الأمم المتحدة سنة 1945، حيث يطرح هذا المتغير تحديات كثيرة رغم أن العبارة الواردة في الديباجة توحي بأن حقوق الإعلان تشمل مختلف الشعوب، التي جاء فيها «…ضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطاتها».
إن ازدياد عدد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة لا يعني بالضرورة بأنه مؤشر إيجابي للتطور في منظومة الحماية الدولية لحقوق الإنسان، لأن بعض الدول ولدت في سياق بلقنة الأنظمة السياسية بالعديد من بؤر التوتر(نموذج تقسيم السودان)، بما في ذلك الدول التي كانت تنتمي إلى الكتلة الاشتراكية وانهارت في سياق ما عرف بموجة الانتقال الديمقراطي بأوروبا الشرقية، كيوغوسلافيا التي تفككت إلى ست دول معترف بها من الأمم المتحدة (كرواتيا؛ البوسنة والهرسك؛ سلوفينيا؛ مقدونيا؛ صربيا؛ الجبل الأسود)، وإقليم كوسوفو المعترف به من القوى الغربية، فبعض هذه الدول لا تتوفر على المقومات المادية للبقاء كدولة…
بيد أن التحدي الأبرز في النظام الدولي الحالي هو التغير الحاصل في طبيعته، وذلك من خلال انتقاله -بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- من نظام عالمي غير متوازن، متسم بتفوق نسبي في القوة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية إلى نظام متعدد الأقطاب، يعرف وجود قوة أمريكية مهيمنة وصعود متنامي للصين وعودة قوية لروسيا إلى الساحة الدولية، باعتبارها قوى عظمى فاعلة رئيسية بالنظام الدولي الحالي، فضلا عن دول الاتحاد الأوربي والمملكة المتحدة، وبعض القوى الاقتصادية والصاعدة ذات التأثير القوي في السياسة الدولية…
إن هذا التغير في القطبية الدولية يثير الكثير من الإشكاليات، وينعكس سلبا أو إيجابا على الاستقرار والسلم العالميين، بحسب محدد التوازن في القوة بين القوى الدولية والإقليمية بالمناطق ذات الأهمية الاستراتيجية، لأن هذا النوع من الأنظمة له مزاياه وعيوبه، فإذا اتسم بالتوازن والتقارب في القوة بين الفاعلين، فإن فرص تحقيق السلام واستدامته تكون أقوى وأكثر، وإن اختل التوازن، فمؤشرات الحرب ترتفع بشكل كبير؛
ورغم أن النظام التعددي يفتح الآفاق أكثر لدول الصف الثاني للتحرر من ضغوط الأحادية أو الثنائية القطبية عبر تنويع الشركاء واللعب بالكثير من الأوراق بدل الرهان على قوى دولية واحدة أو تقييد سلوكها الخارجي تحت هاجس الهيمنة الأحادية أو الثنائية، إلا أنه نظام يؤثر على ضمان حقوق الإنسان من خلال اشتداد المنافسة بين أكثر من قوة وارتفاع هامش اللايقين، خاصة ببعض المناطق الإقليمية وذات الأهمية الاستراتيجية للقوى العظمى، نموذج الأزمات المعقدة الحالية بمنطقة الشرق الأوسط وأوروبا (الحرب الروسية-الأوكرانية) والمنافسة الشرسة بمنطقة شمال شرق آسيا؛

خاتمة

هل لا يزال للإعلان العالمي لحقوق الإنسان حضورا دوليا مؤثرا في تعزيز وحماية حقوق الإنسان في ظل التغيرات التي عرفها النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية؟ هل أثرت التحولات الكبرى التي حصلت منذ سنة 1948 على مكانته المتقدمة في هرمية المواثيق الدولية الضامنة والمؤسسة للحماية العالمية لحقوق الإنسان؟ ألا تؤثر الأزمات الدولية المعقدة الراهنة على مصداقية الخطاب الحقوقي الكوني المستمدة من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
إن هذه الأسئلة وغيرها هي بمثابة تحديات حقيقية تسائل نجاعة وفعالية منظومة الحماية الدولية لحقوق الإنسان في ظل التحولات العميقة التي يعرفها النظام الدولي، لكنها أسئلة لا تنقص من قيمة الإعلان ولا من تأثيره الكبير على الشعوب في مختلف مناطق المعمور، بما في ذلك الذين يعانون لحظة الأزمات، بقدر ما تفترض المزيد من التعاون الدولي المثمر لوضع حد لمظاهر الانتهاكات أينما كانت وكيفما كانت…
وعليه فإن هذا الصك الدولي لا يزال يحتل مكانة خاصة في منظومة حقوق الإنسان، ليس لأنه فقط يضمن الحماية العالمية لجميع الناس (كل إنسان، كل فرد، كل شخص)، بل لكونه يعتبر أساسا لجميع الاتفاقيات الدولية اللاحقة، وأيضا يعد أساسا معياريا لآليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، بما في ذلك آلية الاستعراض الدوري الشامل، ما يعني بأن ذكرى اعتماده هي لحظة مهمة في تاريخ الإنسانية والتي تذكر الدول بضرورة احترام حقوق الإنسان في أي مكان وزمان…

(*) دكتور في القانون

الكاتب : عبيد الحليمي (*) - بتاريخ : 10/12/2024