الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بين الأمس واليوم

 عائشة زكري

يمكن تقسيم تاريخ المغرب السياسي ما بعد الاستقلال إلى مرحلتين أساسيتين :
– المرحلة الأولى: تبتدئ من أواخر الخمسينيات إلى حدود نهاية التسعينيات.
– المرحلة الثانية: تبتدئ من نهاية التسعينيات وبالضبط من حكومة التناوب سنة 1998 إلى الآن بمختلف تلوناتها السياسية .
والسؤال الأساسي بالنسبة لي هو : كيف عاش حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية هذه المراحل ؟ وكيف طبعت مسيرته السياسية تاريخ المغرب السياسي المعاصر ؟ وكيف يمكن دحض بعض الأحكام السائدة والخاطئة حوله اليوم ؟
– المرحلة الأولى:
من المعروف أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ولد من داخل الحركة الوطنية وخرج من رحمها، ومعنى ذلك أن رجالاته ونساءه ناضلوا،بشراسة، من أجل استقلال المغرب وضمان سيادته، ثم بعد ذلك ناضلوا من أجل بناء الدولة المغربية كدولة حداثية ديموقراطية يتمتع فيها المغاربة جميعا بالحرية والعدالة الاجتماعية .
لكنهم اصطدموا منذ هذه الحقبة من تاريخ المغرب مع النظام الذي كانت له رؤية مخالفة لرؤيته، رؤية يغيب عنها مبدأ الديموقراطية ومبدأ الحداثة مما دفعهم إلى الاصطفاف في صف المعارضة، هذه المعارضة التي واجهها النظام بنوع من الشراسة والعنف المتنوع الأشكال والأنواع، ولمدة طويلة جدا، ولذلك سميت بسنوات الرصاص .
مارس الاتحاد هذه المعارضة على المستوى السياسي حزبيا ، وعلى المستوى الاجتماعي بواسطة العمل النقابي وعن طريق المجتمع المدني عموما، وقدم الثمن غاليا من اعتقالات واختطافات ونفي بل وأحيانا التصفية الجسدية. ومع ذلك بقي الاتحاد وفيا لخط نضاله.
ونتيجة لكل ذلك التفت حوله الأغلبية الساحقة من القوات الشعبية وكانت تنفذ قراراته بنوع من العفوية لأنها كانت تجد فيها تحقيقا لمطالبها وأهدافها، فكان الاتحاد لا يحتاج إلى القيام بالتعبئة لجلب هذه الجماهير الشعبية.
ومن جهة أخرى كانت هذه القرارات تصل إلى عموم الشعب المغربي إما عن طريق جريدة الحزب أو عن طريق المناضلين المنتظمين أو عن طريق خبر التواتر الذي يتم تناقله من الأفواه إلى الآذان داخل المقاهي والأسواق، لأن جميع هذه الأماكن كانت بمثابة مقرات حزبية عمومية.
كل هذا أعطى للحزب وهجه وأكسبه قوة كبيرة طوال فترة المعارضة الطويلة، والتي دامت مدة أربعين سنة، إلى أن وهن أمر الدولة وشعرت بالفشل الذريع مما دفعها إلى الاستنجاد بالاتحاد من أجل إنقاذ البلاد من السكتة القلبية .
– المرحلة الثانية:
كان من الطبيعي أن يلبي الاتحاد هذا النداء ( نداء النجدة ) لأن هدفه كحزب يساري ديموقراطي كان دائما هو تحقيق النجاة لهذه البلاد. وبالفعل تحقق ذلك سنة 1998 على يد حكومة التناوب التوافقي بقيادة المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، ورأى الشعب المغربي في وصول الاتحاد إلى قيادة الحكومة الخلاص الذي طال انتظاره، وعلقوا عليه كل آمالهم من أجل محو تبعات الماضي الرهيب.
لكن كيف يمكن، في وقت وجيز، إصلاح ما تم تخريبه طوال أربعين سنة ؟ لذلك فعلى الرغم من المجهودات الجبارة التي بذلتها هذه الحكومة، والتي لا يمكن إنكارها، على مستوى حقوق الإنسان والحريات العامة والديموقراطية، وعلى مستوى التشغيل والعديد من المشاريع الكبرى المعروفة، فإن طموحات المغاربة كانت أكبر وأوسع.
غير أن مسيرة الديموقراطية التي تم تدشينها على يد هذه الحكومة ما لبثت أن عرفت تعثرات منذ سنة 2002 في ما سمي بالخروج عن المنهجية الديموقراطية، الشيء الذي تسبب في وقوع خلافات داخل البيت الاتحادي من جديد خاصة حول الاستمرار داخل التسيير من عدمه، وما نتج عن ذلك من استقالة السيد الكاتب الأول للحزب واعتزاله عالم السياسة .
وتوالت بعد ذلك حكومات أخرى كنا فيها مشاركين فقط وليس قيادة، وهكذا إلى حلول سنة 2011 سنة وصول الإسلاميين إلى الحكم بعد خروج حركة 20 فبراير، والتي أعطت نتيجة مخالفة لما كانت تطمح إليه.
هنا وفي هذه المرحلة بدأ الحزب يفقد قاعدته الأساسية ووقع تشتت وتمزق داخل الحركة الشعبية وساد نوع من الإحباط واليأس في صفوف المناضلين عموما، وتغيرت العقليات، وساد نوع آخر من التفكير داخل المجتمع، وطغت المنفعة الشخصية والانتهازية والوصولية بفعل اكتساح العولمة وسيادة النيوليبرالية.
لكن المشكلة الكبرى هي سيادة فهم خاطئ لمسار التاريخ الحزبي الاتحادي في هذه المرحلة، سواء في المخيال الشعبي أو عند كثير من المثقفين والمهتمين بعالم السياسة وبعض الإعلاميين، وهذا الفهم الخاطئ كان أحد الأسباب الرئيسية للتشكيك في مصداقية العمل السياسي عموما، ويمكن إرجاع سوء الفهم هذا إلى العوامل التالية :
-1 اعتقد كثير من الناس أن وصول الاتحاد الاشتراكي إلى الحكم سيضع حدا فاصلا بين ماض رهيب ومستقبل زاهر ، وبالتالي سيحقق الرفاهية المطلقة ويأتي بحلول ناجعة لجميع المشاكل القائمة اقتصاديا، اجتماعيا، سياسيا وغيرها، وكأن الاتحاد يملك عصا سحرية يمكن أن يصلح بها ما تم إفساده طوال سنوات عجاف.
-2 غاب عند كثير من الناس أيضا أن هدف أي حزب هو الوصول إلى السلطة وتطبيق تصوراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتبارها تصورات صحيحة في نظره، وأن خطابه في المعارضة يختلف عن خطابه في التسيير، وأن اللحظة الراهنة لا تتطابق واللحظة السابقة وعلى جميع المستويات، وأن النظام القائم اليوم ليس هو نفسه في الماضي، وكذلك السياق الإقليمي والدولي.
ولذلك كان من الضروري على الاتحاد التأقلم مع هذا الواقع الجديد، والذي أصبح يحتم عليه الانفتاح والليونة في المواقف، والتوافق لما فيه مصلحة الوطن، وممارسة نوع جديد من المعارضة ليست هي معارضة النظام بل معارضة الحكومات التي لا تربطنا بها صلة على مستوى المبادئ والتصورات ومنهجية العمل.
من هنا فخاطئ من يعتقد أن عالم السياسة يسير على نمط واحد لأنه عالم مرتبط بتغيرات الواقع المجتمعي بجانبيه الاجتماعي والاقتصادي، فإذا كانت السياسة تتمثل في تدبير أمور حياة الناس في شموليتها فإن هذا التدبير يختلف من زمان لآخر ومن مرحلة تاريخية لأخرى.
– نستنتج من كل هذا أن أحكام بعض الناس السلبية على حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حاليا هي أحكام خاطئة شكلا ومضمونا لأنها صادرة عن عدم فهم لصيرورة التاريخ، وإذا كانت أحكام البعض ساذجة وسطحية، فإن أحكام البعض الآخر مغرضة وتتوخى الهدم والنيل من الاتحاد خاصة تلك الصادرة عن بعض الأحزاب اليمينية وبعض وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية السمعية منها والمرئية وبعض العامة والغافلين عموما .
إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزب لم يتغير، بل ظل وسيظل هو هو من حيث مبادئه وتصوراته التي خلقت معه والتي ستبقى مرافقة له طوال مساره التاريخي ألا وهي التحرير، الاشتراكية، الديموقراطية .
كما أنه ظل وسيظل دائما يسعى إلى تحقيق المجتمع الحداثي الديموقراطي، الذي تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة والذي يرتكز على مبدإ التضامن والتآزر بدل التنافس والصراع الذي يؤدي إلى طغيان القوي على الضعيف .
ثم إنه بقدر ما يهدف إلى الحفاظ على هويته بقدر ما يحاول التأقلم مع المتغيرات الداخلية في المجتمع، ومواجهة الآثار السلبية لليبرالية المتوحشة والتيار الأصولي المحافظ والإرهاب، وسلبيات العولمة وغيرها، بقدر أيضا ما يحاول كبح جماح طغيان الدولة نفسها التي تطمح دائما إلى الحفاظ على استمراريتها بالدرجة الأولى .هكذا فالقول بأن الاتحاد اليوم ليس هو اتحاد الأمس يجب أن يفهم بأنه تغير في إطار الثبات أملاه الواقع المعيش، ما هو ثابت هو المبادئ والتصورات والمنهجية وما هو متغير يدخل في إطار التأقلم مع الواقع الجديد والانفتاح على مكوناته الجديدة . إننا نؤمن بالتغيير لأننا حزب التغيير، ومن ينكر ذلك سيسقط في الجمود ومن ثمة في التلاشي والاضمحلال، ومؤتمرنا الوطني الحادي عشر المقبل سيكون نموذجا واضحا لهذا الثبات وهذا التغير.

الكاتب :  عائشة زكري - بتاريخ : 24/01/2022

التعليقات مغلقة.