الاتحاد الاشتراكي وتأطير مغاربة العالم: وفاء للهُوية الوطنية ومُساءلة للمواطَنة الحقة

إيمان الرازي (*)
في سياق سياسي يتّسم بتنامي مظاهر الفراغ التأطيري وتراجع أدوار الوساطة المؤسساتية، يُواصل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تأكيد تميّزه البنيوي والتاريخي في التعاطي مع قضايا مغاربة العالم، ليس فقط من باب الحضور الرمزي، بل من موقع الفعل التأطيري والاستماع والانصهار في قضايا الجاليات المغربية المتعددة. ويكتسي هذا الدور، الذي يتفرد به الاتحاد عن باقي الأحزاب السياسية المغربية، طابعًا مزدوجًا: بعدًا نضاليًا أصيلاً متجذرًا في مرجعية الحزب الاشتراكية الديمقراطية، وبعدًا مواطناتيًا متقدما يجعل من الارتباط بالوطن شأنا سياسيا ومجتمعيا وثقافيا لا تُحدّه الجغرافيا ولا تُلغيه المسافة.
إن اللقاء الذي احتضنته العاصمة البلجيكية بروكسيل، والمنظم من طرف جامعة الكفاءات المغربية بالخارج، بشراكة مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، برئاسة الأخ الكاتب الأول إدريس لشكر، ليس مناسبة خطابية أو لقاءً بروتوكوليا من تلك اللقاءات التي تؤثث مشهد العلاقات العامة؛ بل إنه حلقة جديدة في سيرورة نضالية متواصلة، تُعيد التأكيد على أن الاتحاد الاشتراكي لا يُمارس السياسة كحرفة ظرفية بل كالتزام عميق مع المواطنين حيثما وُجدوا. إن مشاركة الأخ الكاتب الأول في هذا اللقاء، وما تخلله من إنصات عميق وتفاعل صريح ومداخلات نوعية من مغاربة الخارج، تكشف عن رهان الحزب الجوهري على إدماج الجالية المغربية ضمن مشروعه المجتمعي الشامل، إدماج لا ينبني على خطابات التسويق الموسمي، بل على استراتيجية واضحة تجعل من الديمقراطية والمواطنة والتقدم الاجتماعي والمساواة أسسًا لممارسة سياسية مسؤولة.
لقد شكل الاتحاد الاشتراكي منذ نشأته صلة وصل بين الداخل والخارج، بين قضايا الوطن وهموم المواطن المهاجر، وتجلّى ذلك في مواقفه الداعمة دوما لحق الجالية في التمثيلية السياسية، وفي نقده الصارم للاختزالات التقنية والبيروقراطية التي يتُعامل بها ملف مغاربة العالم. وعبر محطات متعددة، ظل الاتحاد يؤمن أن قضايا الجالية ليست مجرد قضايا خدماتية تقنية، بل هي قضايا سياسية بامتياز، تمسّ صميم الانتماء، وتُسائل معنى المواطنة في ظل واقع متعدد الهويات والانتماءات الثقافية. وعلى هذا الأساس، فمغاربة العالم ليسوا فقط رصيدا ماليا يحيل على تحويلات نقدية، بل هم طاقة مجتمعية وإشعاع حضاري يجب تمثيله سياسيًا وإنصافه قانونيًا وتأطيره تنظيميًا، في أفق بناء علاقة متوازنة مع الوطن الأم، قوامها الاعتراف والمشاركة والكرامة.
من هنا تبرز خصوصية الاتحاد الاشتراكي في التعاطي مع مغاربة العالم، باعتباره الحزب الوحيد الذي جعل من التأطير السياسي للجالية إحدى أولوياته البنيوية، سواء عبر هيئاته التنظيمية المنتشرة في عدة دول أوروبية، أو من خلال حضوره المستمر في النقاش العمومي حول قضاياهم. وهو حضور لا ينفصل عن قناعاته الفكرية المؤسسة، تلك التي تعتبر أن الاشتغال على قضايا الهجرة والاندماج والتمثيلية والهوية، هو جزء لا يتجزأ من المعركة الوطنية من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهو ما يجعل من تأطير مغاربة العالم مهمة ذات أبعاد استراتيجية لا يمكن أن تندرج ضمن منطق الحملات الظرفية أو استغلال المناسبات الموسمية.
إن اللقاء الذي احتضنته بروكسيل، قد أتاح لحظة إنصات متبادلة، حيث عبرت كفاءات مغربية متنوعة عن تطلعاتها المشروعة، وعن إحساسها المتزايد بالحاجة إلى تأطير سياسي حقيقي، لا يُغفل البعد الثقافي والحقوقي، ويُدرك أن الهجرة اليوم ليست مجرد حركة انتقال، بل سيرورة متعددة الأبعاد تُعيد تشكيل الهويات وتُنتج مواطنة عابرة للحدود. وفي هذا السياق، برز دور الاتحاد كقوة اقتراحية، وفاعل سياسي مسؤول يستوعب هذه التحولات ويجتهد في صياغة أجوبة حقيقية عنها، بعيدا عن الاختزال الشعبوي أو الإغراءات الظرفية.
وقد شكّل ترؤس الأخ الكاتب الأول لهذا اللقاء إشارة قوية إلى أن الاتحاد لا يفوّض تأطير الجالية إلى أطراف ثانوية، بل يعتبره من صميم وظيفته السياسية المركزية، وهذا ما يمنحه مصداقية نضالية لا تتوفر لباقي التنظيمات التي ما فتئت تختزل علاقة الجالية بالوطن في مجرد ملفات قنصلية أو وساطات ظرفية. فالحزب الذي دافع عن حق المغاربة في التعدد والتنوع والانفتاح، والذي خاض معارك كبرى من أجل الحقوق والحريات، يواصل اليوم معركته المستمرة: معركة تأطير مغاربة العالم، وصياغة رؤية جديدة للهجرة تُزاوج بين الحق في الاختلاف وواجب الانتماء، وتجمع بين الارتباط بالوطن والانخراط الفعال في المجتمعات الأوروبية.
وهذا المسار لا يمكن فصله عن رؤية الحزب للدولة الاجتماعية، حيث يعتبر أن مغاربة العالم ليسوا فقط جالية مقيمة بالخارج، بل امتدادا عضويا للشعب المغربي في الشتات، ومن ثمّ فإن أي مشروع وطني ديمقراطي لا يمكن أن يكون كاملا دون إشراك هذه الفئة إشراكًا حقيقيًا في السياسات العمومية، وفي صياغة القرار الوطني. وليس صدفة أن يكون الاتحاد الاشتراكي أول حزب رفع سقف المطالبة بتمثيلية سياسية حقيقية للجالية في المؤسسات التشريعية، وليس مجرد استشارات شكلية. كما ليس صدفة أن تجد الكفاءات المغربية في الخارج في الاتحاد فضاءً آمنًا ومجالا للاعتراف والنقاش الحر والمسؤول.
فحين يغيب التأطير السياسي الحقيقي، تبرز أشكال من التهميش الرمزي، والانغلاق الهوياتي، والارتماء في أحضان قوى رجعية أو دوغمائية تُغذي الانفصال الثقافي عن الوطن. ومن هنا تأتي أهمية الدور التأطيري الذي يضطلع به الاتحاد، والذي لا يكتفي بتكرار خطاب الهوية بل يجتهد في بلورة مشروع هوياتي منفتح، يُعيد تشكيل العلاقة مع الوطن من موقع الحداثة والتعدد والمساواة. إنه تأطير يروم بناء مواطن مغربي فاعل ومنخرط، لا مجرد متلقي سلبي للخطاب الرسمي، أو حامل لوثيقة سفر موسومة بالولاء.
ولذلك، فإن لقاء بروكسيل لم يكن مجرد محطة عابرة، بل يمثل لحظة تأسيسية في أفق إحياء علاقة جديدة بين الحزب ومغاربة الخارج، علاقة تقوم على التفاعل العميق، والتأطير الفعلي، والانخراط الواعي. وقد برز ذلك من خلال النقاشات الجادة التي عرفها اللقاء، والتي لامست قضايا التعليم، والتعدد اللغوي، والتمثيلية، والنموذج التنموي، والعدالة المجالية، مما يدل على وعي عالٍ لدى الجالية المغربية بحجم الرهانات التي تعيشها البلاد، واستعدادها الكامل للإسهام في صياغة أجوبتها، شرط وجود وسيط سياسي قوي وفاعل ومسؤول.
ولأن الاتحاد الاشتراكي يؤمن بأن مغاربة العالم ليسوا مجرد امتداد ديموغرافي، بل رافعة استراتيجية لبناء مغرب ديمقراطي حداثي، فإنه سيواصل نضاله من أجل الاعتراف السياسي الكامل بهذه الجالية، وفتح المجال أمامها لتلعب أدوارها الكاملة، ليس فقط كمصدر تحويلات مالية، بل كعنصر فاعل في المعادلة الوطنية، وحامل لقيم الكونية والحداثة والمساواة. ومن هنا، فإن هذا اللقاء ليس سوى بداية لمسلسل تأطيري مستمر، ستكون له تجليات تنظيمية جديدة، وآليات تواصل دائم، تسمح ببناء شبكة حزبية قوية ومرنة تمتد من الضفة الأخرى إلى الداخل الوطني.
إن ما ميز هذا اللقاء أيضا، هو حضوره في لحظة سياسية دقيقة، تتسم بتصاعد خطابات الانغلاق والانعزال وتفشي العدمية واللامبالاة، مما يجعل من التأطير السياسي مهمة نضالية بامتياز. والاتحاد الاشتراكي، بما له من تراكم تاريخي وقدرة على الإصغاء، مؤهل لقيادة هذا الورش، بل ومطالب بأن يجعله ضمن أولويات أجندته المستقبلية، عبر تطوير أجهزته بالخارج، وتكوين مناضليه في قضايا الهجرة والمواطنة، وتثمين الكفاءات المغربية في بلدان الاستقبال باعتبارها رأسمالا رمزيا وثقافيا ومجتمعيا في غاية الأهمية.
إن مغاربة العالم في حاجة إلى حزب يتحدث لغتهم، ويستوعب تحولاتهم، ويقترح عليهم أفقا نضاليا، لا يختزلهم في مجرد أصوات انتخابية أو جمهور مناسباتي. والاتحاد الاشتراكي، بحضوره الميداني وخطابه المتزن وشبكة مناضليه في المهجر، يُمثل الجواب السياسي الأصدق على هذا الانتظار المتعدد. ومن هنا، فإن الرسالة التي حملها الأخ الكاتب الأول للحزب في بروكسيل هي رسالة وفاء ومسؤولية، تُعيد ربط الجسور بين الحزب وأبنائه في الخارج، وترسم ملامح حزب وطني لا تستهويه المراكز فقط، بل ينصت لأصوات الشتات ويُحوّلها إلى طاقة نضالية تصب في معركة الوطن من أجل الكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
(*)عضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر 12 للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
الكاتب : إيمان الرازي (*) - بتاريخ : 04/06/2025