التجريب وحدود المخاطرة الأدبية عند القاص عبدالهادي الفحيلي

عبد الواحد مفتاح

على خلاف ما يروج اليوم من هيمنة الرواية، بحكم القيمة المادية والاعتبارية التي باتت تتوفر عليها بعض الجوائز الخاصة بهذا الجنس الأدبي، أو حتى القول أن هذا الزمن هو زمن الرواية، فإن القصة القصيرة التي عرفت طفرة كاملة في مغرب التسعينات، مازالت تعيش ازدهارا وانتشارا، لا تدين فيه إلا لاجتهاد كتابها، وأصالة طرح عدد غير يسير منهم، ممن راهنوا على أفق التجريب، والإمتياح من خارج معايير السائد والمجمع عليه، وتأتي مجموعة (مثل تفاحة مقضومة) للقاص عبد الهادي الفحيلي في ذات السياق، هذه المجموعة التي تنتمي لما صار متداولا عليه: بخط الحساسية الجديدة في القصة القصيرة في المغرب، جاءت في هم التجريب الذي اختزلها وزانها هذا القاص به.
فالتجريب عند عبد الهادي الفحيلي، وكما عودنا منذ باكورته الأولى (شجرة الحكايا) ومجمل ما نشر بعدها، هو ارتياب من النمطية السائدة التي صارت بلا ضفاف، بحثا عن التجديد والتأصيل، بما يتلاءم وخصائص الكتابة التجريبية الواعية بمخاطر المزالق التي يمكن أن تحف بها، وفي تمحيص وتدقيق يمتاز بالرصانة المعرفية، والعدة الأداتية التي تقتضيها.
التجريب الذي كان سببا واقعا في صرع عدد من التجارب القصصية المهمة على يديه، التي لم تلقي كبير بال للمخاطر المحدقة التي تترصد مرتكبيه، فتهديم الأنساق والمُعافاة من الجاهز، تقتضي كلفة أقل من بناء شكل جديد، يسند أصالته الخاصة من صلبه، ما جعل كثيرون يسقطون في شكلانية باردة، وأحابيل لغوية واقتناصات مفهومية ذهنية، لا طائل من ورائها.بالذهاب أحيانا بفضيلة القفز على التقاليد، حد الخلط بين الأجناس الأدبية، واستباحة إعمال مشارط الاجتراح بأدوات غير حصيفة، ما ينتج نص مشوه حسبه إدعاء الصدور عن علبة التجريب، وهي بالأساس لا يمكن الارتهان إليها، إلا بعد تملك وهضم كامل مقومات العمل القصصي، والبناء الكلاسيكي قصد تجاوزه بأريحية تعبيرية، لا بزيغ عن شرط الجمالية التي تُسيجه.
أما التجريب-النسج على غير منوال- هنا الذي يعد خاصية ملازمة لقص عبد الهادي الفحيلي، فيتجدر جزء من مفهومه الواسع، بالإيجاد، بما هو ابتكار من داخل التقاليد الناظمة لمفهوم القصة، لا ضربا لها، وإنما تنويعا عليها،بغير خرق ضوابط هذا الجنس الأدبي، وبوعي بحدوده وغاياته.
فما يطالعنا في مجموعة (مثل تفاحة مقضومة) التي تعتبر هذه الورقة عتبة لدراسة موسعة عنها، هو اقتصادها الشديد على مستوى رقعة الحكي داخل السرد، أو حتى الثرثرة في المادة اللغوية، أو الإدعاء على مستوى الطرح. مجموعة هادئة تشي بعمق وتصاحب أسئلة مجتمعية، ونفسية /وجودية ببساطة يسهل أن تلاقي الدهشة بسببها.
من العتبة الأنيقة التي خص بها محمد جليد المجموعة نقرأ: للكتابة الإبداعية، التي يعتمدها القاص عبد الهادي الفحيلي في مجموعته الثانية «مثل تفاحة مقضومة»، مواصفات مضمونية وشكلية خاصة. فهي كتابة لماحة غنية بالدلالات، وموجزة تراهن على الاقتضاب. عن طريقها يتحول ما تلتقطه عينه المتلصصة وما يترجمه خياله الوقاد إلى علامات بحث شخصي –أو لنقل إشارات مرور أدبية- تساعده على خوض رحلة إبداعية خاصة عبر ذاته، أو عبر ذوات الآخرين.
وهي عتبة على أهمية ما جاء في بيانها، يمكن النظر من خلالها إلى كامل المنجز القصصي لعبد الهادي الفحيلي، هذا القاص الذي تملك إلى جانب أحمد بوزفور، ومحمد شويكة، وأنيس الرافعي، إخلاصا حديديا لجنس القصة، حيت فجر كامل طاقته الأدبية في ربوع سردها، ما أكسبه دربة وتملك أدوات، جعلته يمارس عملية التجريب في اطمئنان هادر، وفي بنية متماسكة تطوعها أسلوبية مبتكرة، وهو ما جعلنا إذ نقف أمام مجموعته الأخيرة، نختبر حرارة اللقاء السعيد مع لغة غير متواضع عليها، لغة جديدة، مفصولة الحدين، وإن استل بعض آليات القصيدة لكتابة القصة، فإنه لم يراوغ بعيدا عن التقاليد الأساسية لهذا الجنس الجمالي المتوحشة أدبيتُه،
أحيانا يتراءى لي وهي ملاحظة أتشاركها مع مجموعة من الدارسين لمتن عبد الهادي الفحيلي، أنه يكتب القصة القصيرة بنفس الرواية، ما يخلق رحابة داخلها، ويمتعها بمقومات بلاغية تعلي من ولائها للتكثيف والاختزال، ما جعلها تكون مطمع لعدد من كتاب السيناريو لتحويلها إلى فلم قصير، وهو رهان وإن لم يعلنه القاص في حواراته، أو في أي من كتاباته المقالية المصاحبة، إلا أنه يضل حاضرا ومبتوتا في ثنايا كتابته، التي تجرب كل مرة مخاطرة جديدة من مغامرات التجريب الأدبي، في ابتكار أسانيد حكي وليدة، وميكانزمات سردية قوامها الاعوجاج عن العادة، وافتضاض مضمار القصة الممزوجة بسخرية ساحرة، لا تضعف النص وإنما تهبه مفعول الوضوح، عبر تأمل موغل في الدهشة.
فبعد مجموعته القصصية (شجرة الحكايا) التي خط فيها الانتباه لمنجزه القصصي، نجد هذا القاص في مجموعته الجديدة (مثل تفاحة مقضومة) في طبعتها الثانية، يقدم طرحا مغايرا، ومشحون بثقل دلالي له مواصفات مضمونية وشكلية خاصة، نجرد بعض مميزاتها في النقاط التالية : أنها مجموعة تم الاشتغال عليها بأكثر من مستوى الزماني والمكاني، بموازاة اللغوي والفني، دون أن تفقد قوتها الاقتراحية المتمثلة في الدهشة، تم قدرة الفحيلي على الاستلهام من الموروث الكوني أتناء الكتابة، فلو أخدنا مثلا أي كاتب فرنسي، سنجد أنه يكتب القصة وفي حوزته تراث كامل، وتراكم في فن الحكي المتماسك، مطور ومحكم الحبكة والبنية يزيد عن قرنين أو أكثر، أما الكاتب المغربي والعربي عموما، فيكاد لا يجد إزاءه إلا بضع نماذج محدودة بالزمن والمكان، فإلى غاية العقد الأول من القرن العشرين لم يكن هناك وجود أصلا للقصة القصيرة، وليس هناك غير بعض السجعيات، وهنا قطعا لا يمكن أن نقيم أي وجه للمقارنة بين الوضعيتين، إلا أن ما تميزت به مجموعة هذا القاص، أنها غير مصابة بفقر السرد، ولم ينعكس الجو العام للقصة لدينا عنده، لهذا نجد المجموعة تسبح في جو عام هو جو الأدب، دون الحاجة في تصنيفها في خنادق التحقيب النقدي أو إخضاعها لنظرية التطور الأدبي وسننه العربية، قصص وحسبها كذلك، محض قصص تساءل حاضرنا ووجودنا في أسلوب وافتتان باهر.

الكاتب : عبد الواحد مفتاح - بتاريخ : 01/04/2017