التضامن كواجب إنساني ووطني

د. حميد لشهب

يُقاس رقي أمة أو شعب أو مدينة أو حي في مدينة أو دوار في بادية ما بدرجة تضامن السكان في حياتهم اليومية العادية، ويتضاعف هذا التضامن في الأزمات والمسارب الضيقة للحياة من كوارث طبيعية أو أوبئة فتاكة. ونجد هذا التضامن في كل الثقافات والحضارات، وبالخصوص في تلك التي نقول عنها بأنها فردانية وأنانية ونرجسية، ونعني هنا الدول الأوروبية.
إلى عهد غير بعيد، حوالي ربع قرن، كان مبدأ التضامن في الثقافة الشعبية المغربية بمثابة مبدأ أخلاقي قائم بذاته، وبالخصوص في البوادي والأحياء الشعبية الهامشية في المدن الكبرى، أي ما اصطلحنا عليه في نصوص سابقة “المدن البدوية”. كان هذا التضامن والتآزر والتعاون والأخذ بيد الآخر يتجلى في كل مظاهر الحياة الاجتماعية. فـ “التويزة” التي كان يبدأ الموسم الفلاحي وينتهي بها هي رمزيا تضامن راق للفلاحة الصغار، في زمن كانت فيه الفلاحة تعتمد على سواعد الرجال والنساء. يساعد الفلاحون كل يوم واحدا منهم، إلى أن تنتهي المهمة ويستفيد الكل، متقاسمين بذلك عبء العمل. نفس الشيء كان يتم في الحفلات، فـ “الحنة أو الغرامة” كانت بمثابة تويزة، ناهيك عن التضامن في حالة وفاة شخص في الدوار.
لربما لا تزال هذه النماذج من التضامن موجودة في بعض مناطق البلاد، وبالخصوص النائية منها، لكن المُلاحظ هي أنها قلت بشكل ملحوظ، بل أضحت شبه موجودة في القرى والمدن على حد سواء، نظرا لضغط نمط العيش التقني المعاصر، الذي يفرض على كل واحد أن “يشوي كُبَالته” لوحده، وهو تعبير دقيق إلى ما وصل إليه مبدأ التضامن في مجتمع كمجتمعنا. وباعتبارنا ضحايا الحداثة التقنية، لأنه مفعول فينا فيها أكثر من أننا فاعلون، فإن توجه المجتمع منذ سنين هو توجه استهلاكي نرجسي، لا رحمة فيه ولا شفقة، أنتج تهافتا اجتماعيا على اقتناء مختلف المنتوجات الصناعية، والتباهي بامتلاكها، دون التفكير في كنه الحياة وما الجدوى منها ولماذا وجدنا أو خلقنا ولماذا علينا أن نذهب، ومتى نذهب؟.
عندما تضرب كارثة ما بإعصارها، كما يحدث الآن، يطفو على السطح من جديد التضامن كمبدأ أخلاقي يُنظم حياتنا المُشتركة.. وفي حالة المغرب، فإن التضامن يأتي دائما من القمة، لأن كل القرارات المهمة في البلد تُؤخذ فيها، وغالبا ما يُفرض التضامن بطريقة لا يُؤخذ فيه في الحسبان حال الطبقة الهشة من المواطنين. لذا ننبه من الآن إلى ما قد يقود إليه مبدأ تضامن يثقل كاهل الطبقة المتوسطة والطبقة الهشة في المغرب. فهناك إدارات عمومية عممت اقتطاعا تضامنيا يصل إلى نصف أجرة موظفيها، وهو أمر يطرح أسئلة حرجة على أكثر من مستوى. ليس لنا أي مشكل إن قررت الدولة تعميم مثل هذا الاقتطاع التضامني، لكن يجب أن يأخذ المرء/المسؤول في الحسبان الكثير من الأمور. إذا قررت الدولة اقتطاع نصف الراتب الشهري لموظفيها، باسم التضامن، وبإعطاء مترفينا المثال في مثل هذا التضامن -وهو شيء محمود ومشكور عليه-، فعليها أن تراعي حال الناس. فمن يُعيل عائلة من أب وأم وثلاثة أطفال مثلا ويكون أجره لا يتعدى 5000 درهم، ويكون عليه التبرع بالنصف، فإنه يُطالب في الحقيقة بما لا طاقة له به. ذلك أن من تبرع بمليار أو بمليون درهم مثلا، لا يشعر في الحقيقة بالثقب الكبير الذي يُحدثه التبرع في ميزانية العائلات الفقيرة ولو بقدر ضئيل، وأغلبية موظفي الدولة عندنا ينتمون إلى هذه الفئة. على المرء مراعاة الحالة المادية للعائلات، وإقرار التبرعات حسب سلم يراعي دخل العائلات، انطلاقا مثلا من 10 في المئة ابتداء من دخل 2500 درهم شهريا إلى 50 في المئة، عندما يفوق الدخل 50000 درهم. بمعنى صريح، من يتبرع بمليار، لا يكون في حاجة لهذا المليار لكي يعيش، ومن يتبرع بـ 1000 درهم وهو لا يكسب إلا 2000 درهم ليعيش شهريا، يكون قد تبرع أكثر بكثير ممن تبرع بمليار درهم.
هذا على الصعيد المادي المحض. أما على الصعيد العام، فإن التبرع بالمعنى الحقيقي للكلمة، يعني التضامن المجتمعي، هو تربية مجتمعية مشتركة تتقاسمها العائلة والمجتمع المدني والدولة. والتبرع الحقيقي هو التبرع بالوقت الثالث للمواطن وللمواطنة في أوقات يكون فيها كل شيء بخير في تنظيمات بعينها، تكون قادرة في حالة الضرورة أن تتدخل لمساعدة المواطنين. وأهم القطاعات المعنية بالأمر هنا هي قطاع المطافئ والصحة ومقاومة الكوارث الطبيعية.
في كل الدول “المتقدمة” هناك جمعيات ومؤسسات غير حكومية، مدعومة بنسبة مئوية معينة ماديا من طرف الدولة تربي شبابها وشاباتها تطوعيا ودون أي مقابل للتمرن الأسبوعي على مقاومة الحرائق أو مساعدة المرضى والمسنين في حالة الضرورة؛ دون أن ترفع الدولة يدها عن هذه الميادين وتكتفي بالعمل التطوعي. يُدمج العمل التطوعي في الأنشطة الأسبوعية للشباب والشابات في وقتهم الثالث ويتعلمون جماعة شيئا قد يحتاجه المجتمع يوما ما. هذا النوع من التضامن هو تضامن حقيقي، تُكوَّن جحافل من الناس من طرف متخصصين للتدخل في حالة الضرورة. ويخفف هذا مسؤولية الدولة، بل تستطيع القيام بأشياء أخرى أهم لإدارة الأزمة.
نسبة الشباب في المجتمع المغربي لا يُستهان بها، تضيع طاقتهم الخيرية والاجتماعية ومسؤولياتهم الأخلاقية تسكعا في الشوارع أو تراكما في المقاهي أو الساحات العامة، يقتاتون على أمل تحسن أوضاعهم، منتقدين كل ما يدور من حولهم، وناقمين حتى على أنفسهم ووطنهم. وفي غياب أي تأطير حقيقي للدولة لهذا الخير البشري الذي أنعم الله علينا به، والذي قد يساعد على الإبقاء على مبدأ التضامن حيا بيننا، أي عمل الخير من أجل الخير الأعظم “الله”، فلن يستقيم حال لا الدولة ولا مواطنيها. والتأطير المعني بالأمر ليس هي دور الشباب التي لها مسؤوليات أخرى إن كانت هناك دور شباب تشتغل بالمغرب، بل على دولة ترغب أن تتقدم بشريا أن تفكر بجدية في كيفية إدماج شبابها في المشاريع الاجتماعية الكبرى التي نحن في حاجة لها: بناء مستشفيات تستحق هذا الإسم، وبنيات تحتية تساير العصر. فمثلا لو كان التجنيد الإجباري عُمّم بجدية وكوَّن المغرب أبناءه وبناته في قطاعات اجتماعية مختلفة أثناء الخدمة، لكان من السهل عندما تحل الأزمات، الرجوع إلى هؤلاء المكونين حتى عندما ينهون خدمتهم العسكرية ويزاولون مهنا أخرى. نفس الأمر يمكن أن يُقال عن الخدمة المدنية التي حذفت في المغرب، وهي خدمة تصب في الدول الأوروبية في الميدان الاجتماعي مباشرة. فمن لا يريد خدمة بلده في الخدمة العسكرية، يكون عليه خدمتها في ما يسمى الخدمة المدنية، يعني المساعدة في ميادين اجتماعية كثيرة: المستشفيات، دور العجزة، الإدارات العمومية، العناية بأصحاب الحاجات الخاصة إلخ.
إن التضامن الحقيقي في مجتمع كالمجتمع المغربي هو بناء ثقافة تضامنية في المقام الأول وتربية الأطفال والشباب على ثقافة التطوع، عوض ثقافة التسكع وحدادة سيف لقطع الطريق أو الغطس في عالم الرذائل والمخدرات. تكوين المواطن والمواطنة على العمل التطوعي التضامني هو بناء مغرب جديد، بطاقات بشرية جديدة ووعي ثاقب بـ: [“إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم” الرعد: 11].

الكاتب : د. حميد لشهب - بتاريخ : 29/04/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *