التعليـم عن بعــد

ذ- مولاي عبد الحكيم الزاوي

«…إن ما يغير الإنسان في واقع الأمر هو امتحان الواقع l’épreuve de la réalité» أو لنقل إن ما يغير التعليم هو امتحان واقعه، في تعقده وفجائيته، في استمراريته وقطيعته…بهذه المقولة التي ساقها النفساني جاك لاكان يمكن أن نستهل حديثا عن واقع تعليم جديد أريد له أن يكون حلا لوضع مزمن، رتق ظرفي لفتق بنيوي، بله شُرفة جديدة تخفي أعطاب جسد أنهكته عمليات الإنقاذ ووصفات الإصلاح…نقصد ههنا التعليم عن بعد الذي أقرته جل الحكومات السياسية في العالم كتدبير بيداغوجي مؤقت لتعويض التعليم الحضوري زمن الجائحة…
لا سبيل للتذكير كما هو مألوف بأسئلة العدالة الرقمية وهواجس تكافؤ الفرص التي ما فتئت تتضخم في مدارات المجتمعات الرأسمالية ذات المنحى النيوليبرالي منذ لحظة بريتون وودز الشهيرة…لا سبيل أن نردد مع الخبير البيداغوجي الفرنسي فلييب ميريو التذكير بمعضلة التفاوت المجالي التي حكمت على مجالات جغرافية كثيرة أن تعيش ضحية لقدرها الجغرافي، وعرضة لتخرصات البرامج التنموية منذ أمد بعيد، حينما نظرت إلى هذه الفضاءات الطرفية زمن الرخاء مثل خزان ديموغرافي وانتخابي احتياطي قابل للإدماج في مقاولات الاستعباد الصناعي والسياسي…لا سبيل أيضا أن نغالي في رسم صورة حالمة قد تهيم في اعتبار هذا التعليم الجديد حلا سحريا للتعليم الحضوري إذا لم تتهيأ له شروطه ومقتضياته، بنياته وذهنياته…ويستند بالاقتضاء على وجوب تدريب المتعلمين القدرة على التعلم الذاتي كقدرة حياتية يكتسبها المتعلم على امتداد مسار تنشئته.
غير خاف أن التعليم عن بعد نسق بيداغوجي أعقد من نسق التعليم الحضوري، يتحول الحضور الفيزيائي المادي للذوات الفاعلة إلى حضور افتراضي، تغيب السلطة الناظمة للفعل وتغيب ملامح الوجوه أمام مساحة التأويلات المبهمة….وحدها الكلمات والحروف تحجب ما يعتمل خلف الشاشات والهواتف…يروج هذا التعليم لتعدد في الوسائط والمنصات من شأنها أن تخلق ارتباكا لمتدخلي المجتمع المدرسي لحظة التقويم، مثلما يسوق مضامين جديدة قد لا تنضبط لمخرجات الفعل التعليمي التعلمي المؤطر بأهداف واضحة ودقيقة.
وحيث إن هذا النمط من التعليم كان قائما قبل الجائحة بدرجات مختلفة، وبعتاد لوجستكي محدود، وفي فضاءات دون أخرى، لكن عنف هذه الجائحة عجل بلحظة ولادته، فكانت لحظة الخروج أشبه بلحظة قيصرية قدمت مولودا بجينات غير واضحة…هذه الولادة القيصرية خلقت ارتباكا وساقت ردود أفعال، مثلما طرحت إكراها لوجستيكيا ونفسيا ومعرفيا بين مكونات المجتمع المدرسي…بقدر ما ينهجس الآباء خلال الجائحة بسؤال الاستمرارية البيداغوجية، تظهر هنا وهناك حالات للسخرية الرقمية من طرف بعض التلاميذ داخل المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي، بينما يذهب انشغال الوزارة برفع الأرقام لتأكيد الإقبال…
التعليم عن بُعد خلق سوقا جديدة، سوقا بمواد جديدة، وبعرض بيداغوجي جديد،لكنها تبدو سوقا بفوضى عارمة، فوضى في إنتاج الموارد الرقمية، لكل سلعته وزاده، منها ما هو مستوفي للشروط والمعايير، ومنه من هو دون ذلك، يزيد تضليلا على تضليل…صار المتعلم أمام سوق رقمية جديدة، لا سبيل للتمييز فيها الغث والسمين، الحسن والأحسن…
لكن من المؤكد أن هذه الجائحة كشفت عن مستور ظل مُظللا بلغة الأرقام والمؤشرات الواهمة، واقع الفوارق الاجتماعية وهشاشة السلم الاجتماعي…تتشفع الوزارة الوصية عن القطاع برقم 600 ألف مستعمل لمنصة تلميذ تيس Telmid Tic، وبإنتاج 3000 مورد رقمي وخلق 40 ألف قسم افتراضي…طيب هل تعكس هذه الأرقام حقيقة الواقع؟
يتحدث خايمي سافيدرا المدير العام لقطاع الممارسات العالمية للتعليم بمجموعة البنك الدولي عن انقطاع 1.6 مليار طفل وشاب عن التعليم زمن الجائحة في 161 دولة من أصل 180 دولة…الأرقام تتكسر بمجرد النزول إلى حقيقة الواقع، وحده الواقع كاشف لحقيقة الأرقام، والسياق باني للمعنى.
في زمن الجائحة يظهر أجمل ما في الإنسان مثلما يظهر أسوأ ما في الإنسان، تعبأ رجال ونساء التربية والتكوين بحماس كبير من أجل ضمان الاستمرارية البيداغوجية للمتعلمين، واستكمال وحدات البرنامج الدراسي…سرعان ما فتر هذا الحماس وتكسر بقرار جائر، منهم من واصل المعركة ومنهم من انكسر…الجميل في هذا التعليم عن بعد أنه عبأ الجميع من أجل هدف موحد، فكان أشبه ببوصلة حلت لتؤطر مشروعا مجتمعيا، وتخلق إجماعا وطنيا جديدا مثل ذلك رسمته لحظة المسيرة الخضراء…والأهم من ذلك ضمن تبادلا كثيفا للخبرات والموارد بين فاعلي المجتمع المدرسي، حسن نسبيا من العلاقة الفاترة بين المدرسة والبيت، ووفر قاعدة معطيات مهمة للاشتغال.
صفوة القول يحتاج التعليم عن بعد إلى أرضية مؤسساتية واضحة، إلى تشريع قانوني مؤطر، وعلاقات تربوية محددة، مثلما يحتاج إلى طموح جماعي وإرادة مجتمعية، وحرس جديد يجابه الحرس القديم، ذلك الذي قال عنه جاك لوغوف عراب الحوليات الفرنسية في سياق مشابه، «…أولئك الذين حلوا بعد الثورة، لم يتعلموا جديدا ولم ينسوا جديدا…».

الكاتب : ذ- مولاي عبد الحكيم الزاوي - بتاريخ : 14/05/2020