التنمية الشاملة لا تبنى على الاستثمار بل على التغيير في التنظيم الاجتماعي

ذ:محمد بادرة

التنمية هي مطمح كل بلد لتجاوز أمراض التخلف وتحرير الإنسان والمجتمع من الجهل والفقر والمرض، ولهذا اكتسبت « التنمية» دلالة الحل -السحري- لقضايا المجتمعات الإنسانية ومشكلاتها وبخاصة عندما وضعت أدبيات التنمية ما يسمى بالبلدان «المتقدمة» مقابل البلدان «المتخلفة» أو «النامية» وأكدت أن الفرق بين المجموعتين هو نتاج التنمية في الأولى وقصورها في الثانية.
لإزالة اللبس عن هذا المفهوم المستورد من «ثقافة» الآخر وغوامض معانيه لابد من ضبطه عن طريق تحديد معايير قابلة للقياس وشاملة للجوانب المادية والمعنوية للإنسان في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية لتكون مرشدا لجهود التنمية أولا ووسيلة لقياس نتائجها ثانيا.
في تداولنا واستعمالنا للمفهوم لا تزال عندنا مساحة معنوية ومادية شاسعة كبرى مجهولة الحقائق والعوامل والظواهر بالنسبة لما تقوم عليه أي تنمية شاملة تؤهلنا لتحقيق مشروع حضارة مستقبلية، فإذا كان الاهتمام حتى اليوم من قبل الخبراء والمهندسين والمثقفين والسياسيين والتقنيين من أهل الاختصاص أو حتى من محبي الاستكشاف والاستطلاع قد اقتصر على رصد التغيرات الاجتماعية والسياسية الطارئة إلا أن العمق الاجتماعي والتاريخي لهذه التغيرات وما يكتنفها من ظروف معقدة متشابكة بقيت بعيدة عن دائرة الضوء مما جعل خططنا التنموية مجهضة وعاجزة عن إزالة ركام الجهل والتخلف والفقر.
إن المفهوم الحقيقي للتنمية هي أنها عملية شمولية لا تقتصر على النمو الاقتصادي ولا على زيادة إجمالي الناتج الوطني أو زيادة دخول الأفراد.. فكل هذا وغيره من صور النمو والتقدم الاقتصادي ما هو إلا تغطية لخفايا الموضوع، فمثلا نرى البلدان النفطية التي بجوارنا ومحيطنا لها دخل فردي مرتفع وناتج قومي كبير وتتربع على «كرسي» الرفاهية حسب التصنيف المالي والمادي للنمو بين دول العالم، إلا أنها لا تزال بعيدة عن مواقع الإنتاج والانتفاع به، وبعيدة عن المشاركة في صنع القرار السياسي والاجتماعي وتوجيه الحياة، وهنا تتلى خطأ معادلة التنمية بالنمو الاقتصادي. إن التنمية هي (عملية اجتماعية واعية موجهة نحو إيجاد التحولات في البناء الاجتماعي والاقتصادي …تنمية موجهة نحو تغيير وتطوير البناء السياسي والاجتماعي)وليس صحيحا أن التنمية هي من صنع الخبراء والمهندسين والتقنيين وحدهم في مكاتب الدراسة، كما ليس صحيحا أن التنمية الاقتصادية بشقيها الصناعي والزراعي تؤلف الجانب المادي المجسد لفاعلية المجتمع دون أن تشمل البناء الاجتماعي بمؤسساته الثقافية والسياسية والاجتماعية…
إن النظر إلى التنمية بأنها مجرد توسع اقتصادي يتحقق عن طريق استثمار موارد مالية ضخمة هو خطأ شاسع وقعت فيه بلداننا ومعظم بلدان العالم السائر في طريق النمو تحت تأثير التبعية الاقتصادية للغرب وعدم فهم ماهية الاقتصاد السياسي في المجتمع. فالتاريخ الاقتصادي الأوربي علمنا في الماضي خلال الثورة الصناعية أن التقدم البطيء في الإنتاجية الفردية في المدن والقرى والمراكز الحضرية الصغيرة والمتوسطة وفي أوساط الحرفيين والمهنيين، هو الذي كان الدعامة الكبرى للثورة الصناعية في أوروبا، وهذا التقدم لا يتطلب استثمارات ضخمة بل يتطلب تغييرات تدريجية في التنظيم المجتمعي. (د. جورج قرم)
إن الثروات المالية التي نمتلكها قد تخلق وهما بإمكانية شراء الحضارة بالمال واستيراد التكنولوجيا وزرعها في تربتنا دونما أي اهتمام بالإنسان ومجتمعه الذي سيستخدم هذه الآلات ويسخرها لتحقيق أحلامه بالتقدم الحقيقي !!
ماجدوى تبذير الأموال الضخمة في مشاريع لا تصلح للمرحلة التي يمر بها المجتمع سواء كانت هذه الأموال مستعارة من الخارج أو متأتية من بيع الثروة الوطنية إلى الخارج !! ما جدوى بناء الابراج وناطحات السحاب اذا لم تكن صالحة لتغيير البنيات والعقليات !!وما جدوى منافسة الغرب في انشاء مشاريع سياحية وخدماتية عملاقة لا تغير شيئا من النظام والعمران الاجتماعي !!فما جدوى اذن من تبذير الاموال في اقامة مشاريع لا تغير الوضعيات والبنيات والعقليات سوى أن نكون ضمن المصنفين «الأوائل» عالميا في قائمة الرفاهية الشكلانية وكفى !!!
إننا ما زلنا في المرحلة التي يجب أن تنصب فيها كل الجهود على رفع الإنتاجية الفردية خاصة في الأوساط التي بقيت على هامش التطور الاجتماعي والاقتصادي منذ دخولنا في قنوات التجارة العالمية الحديثة.
إننا في حاجة إلى مشاريع صغيرة متوسطة متواضعة تقام وتستنبت في قرانا وحواضرنا وفي أحزمة البؤس التي تسيج مدننا بشرط أن تراعي هذه المشاريع الحاجات الحقيقية للمعنيين، وبشرط أن يتمكن هؤلاء من تنفيذ مشاريعهم بإرادتهم وديناميكيتهم حتى تأتي هذه المشاريع بالفائدة الحقيقية لهذه الفئات المسحوقة من المجتمع.
إننا لابد من الاعتراف بأن واضعي خطط التنمية وصانعي القرار الاقتصادي والاجتماعي وعلى غرار صانعي القرار السياسي يضعون مشاريع لصالح الشعب التجريدي- المتخيل لا لصالح الشعب الحي- المتغير وجميع الأعمال التخطيطية تأتي في الحقيقة نتيجة النظرة الاغترابية تجاه المستوى الاقتصادي في البلدان المتطورة صناعيا، وبذلك تأتي هذه المشاريع «التنموية» بنتائج عكسية أي بتعميق التبعية التكنولوجية والاقتصادية تجاه الغرب.
فالنظام الاقتصادي المعمول به في بلداننا هو نظام رأسمالية الدولة حيث القطاع العام أي البيروقراطية الإدارية هي التي تتكفل بالتنمية نيابة عن الشعب ويصبح الشعب متكلا على الدولة أي على القطاع العام لتأمين حاجاته الأساسية، ويصبح القطاع العام متكلا على الخبرات والتكنولوجيا والرساميل الأجنبية لتطوير إمكاناته الاقتصادية، أما القطاع الخاص فإنه يتصيد الفرص الناتجة عن قصور القطاع العام وبيروقراطيته للقيام بمضارباته وإثرائه غير المشروع.
كما أن من المعروف أن أغلب الاقتصاديين غير مثقفين بصورة عامة مما لا يساعدهم على وضع اختصاصهم في إطار ظروف المحيط والبعد التاريخي المناسب، ونظريات التنمية تناسب مصالح الدول المتقدمة صناعيا ولا تناسب الدول المتخلفة. فالانصراف إلى المشاريع العملاقة الكثيفة الرأسمال تتطلب الاستقراض واستيراد الآلات المكلفة المعقدة بما لا يراعي ظروف البيئة والمستوى التقني المحلي، وينتج عن ذلك تبذير وضياع اقتصادي واجتماعي لا حد له، وهذا يجعل التجهيزات الإنتاجية نفسها والخدمات الهندسية التي لابد منها لتطوير صناعة حديثة.
من باب الاستغراب هناك هدر للكفاءات البشرية الأساسية في قيام التنمية الشاملة، فعلى سبيل المثال في كل سنة يتخرج لدينا المئات من المهندسين والآلاف من التقنيين المختصين لكننا لا نتمكن من استيعابهم واستغلالهم وتوظيفهم لأجل إقامة مؤسسات استشارية هندسية في كل المجالات الصناعية والتقنية الدقيقة، أو في المجالات الهندسية ذات الصلة بنموذجنا التنموي، مما دفع الكثير من هذه العقول والخبرات الوطنية إلى اختيار الهجرة نحو الخارج حيث الآفاق مفتوحة على الابتكار وتحقيق حلم الذات، أما الذين لم تسعفهم فرص الهجرة للخارج فيتحولون إلى موظفين أو تقنيين يعملون في بيوت الخبرة الأجنبية التي تسرح وتمرح في بلادنا بدعوة من حكوماتنا وتحت راية التنمية والخبرة التي يكدسها الفريق الأجنبي بالممارسة التي نرفضها نحن، الشيء الذي يحول دون الاستقلال الاقتصادي والتكنولوجي …
في الحقيقة إن الأعمال المسماة بالتنمية هي في معظمها الأعمال المسؤولة عن بقاء التخلف وعن التبعية وزيادة اختلال توازن المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وحضاريا.
وإن محدودية التنمية عندنا تظهر وبشكل فاضح في عزلة المجال الاقتصادي عن المجالات التربوية والثقافية والاجتماعية وكثيرا ما سارت اتجاهات متضادة متعاكسة في هذه المجالات ما بين الاقتصادي والسياسي أو ما بينهما من جهة معا، وما بين التربية والثقافة من جهة اخرى، وكثيرا ما أدت هذه الاتجاهات المتعاكسة إلى إجهاض أهداف هذه المشاريع التنموية.
كما تظهر مشاريع التنمية عندنا وكأنها غاية في ذاتها إلى درجة أن المحدودية تدفع أحيانا إلى اعتبار المشروع التنموي في حد ذاته غاية منفصلة عن بقية غايات المشاريع الاخرى الثقافية والتربوية.
أمام هذا الواقع الذي يجعلنا نرى الأخطار المحدقة بمشاريعنا التنموية وما يكتنفها من بذور التناقض كان لابد من قيام مؤسسة علمية وطنية الرؤية وعلمية المنهج قادرة على وضع الإطار والهدف العام لأي مشروع تنموي، مع تحليل وتقييم المشاريع التنموية على ضوء تلك المبادئ التي يحددها الإطار العام مع وضع التقديرات والاقتراحات الملائمة لتجاوز العقبات لتسريع وتيرة الإنماء، فهل سنحلم يوما باستراتيجية تنموية متكاملة؟

الكاتب : ذ:محمد بادرة - بتاريخ : 10/12/2022

التعليقات مغلقة.