الدكتور الحسين بلحساني، أستاذ بشوش في طيبوبته

عبد السلام المساوي

أستاذي الحسين بلحساني، أتاك التقاعد فلم يجدك متقاعدا، بل وجدك أستاذا حيا، أستاذا ناجحا ومقتدرا… أساتذة وطلبة كلية الحقوق بجامعة محمد الأول بوجدة، يشهدون ألا أستاذ إلا أنت؛ فكرا ومنهجا وحبا… كنت ومازلت وستبقى رمزا مؤسسا لهذه الكلية… ونحن أبناء مدينتك نفتخر بأن الناظور أنجبت أستاذا من عيار الحسين بلحساني…
أستاذي الحسين بلحساني… صديق الطفولة… صديقي وهو تلميذ بكوليج الكندي… صديقي وهو تلميذ بثانوية عبد الكريم الخطابي بالناظور… ولا أنكر أني كنت معجبا بفصاحته… وأتذكر ونحن تلاميذ بكوليج الكندي إبداعه وتمكنه اللغوي وهو يقدم مسرحية «صلاة الملائكة» لتوفيق الحكيم…. أستاذي الحسين بلحساني… صديقي وأخي في حزب الاتحاد الاشتراكي… كاتب إقليمي سابق ومنسق جهوي سابق… ومازال الاتحاديون والاتحاديات يكنون له الحب الصافي الصريح… قائد بامتياز اتحادي….
آمن الحسين بلحساني أن إنجاح العلاقات الإنسانية، يفترض الاقتناع بحقيقتين أساسيتين: التفاؤل والحوار؛ في مفهومه الإيجابي المحكوم بفتح القلوب قبل العقول، والمحكوم بمنطق توسيع دائرة الانفتاح، لا منطق الانغلاق والإقصاء ….والمحكوم بمنطق الحب لا منطق الكراهية والحقد… من هنا كان دائما، وهو تلميذ وهو طالب وهو أستاذ، الوحدة في الكثرة، الحب في الاختلاف، الخيط الناظم بين الأصدقاء والزملاء؛ قديما وحديثا…
الحسين بلحساني، وليس أحد غيره… لا يزاحم أحدا على «مساحة» ولا على «تفاحة»… هو رجل استثنائي بحبه… نبت في تربة هذا البلد… ويحق لنا أن نبتهج أن هذه الأرض أعطت هكذا ثمار…. يحق لنا أن نبتهج بأزغنغان، بالناظور لأنه الإقليم الذي أعطانا هكذا أستاذ…
اقتحم الحسين الوجود بكثير من الإرادة وبكثير من الأمل… يأتي في زمن مغربي صعب وعسير… يأتي ليبشر بعودة «السبع السمان» منتصرة على «السبع العجاف»، ليملأ أرضنا خصبا، وبيادرنا حبا وحبا… يأتي ليهدي دفئا معرفيا وأكاديميا للناظور… جمعتنا الفرحة بولادته في زمن القحط والعقم، واحتفلنا بألحان الرقص الأمازيغي… رقصنا مستقبلين ميلاد ولد سيمتلك فن صيانة الذات، الاعتماد على النفس، مقاومة كل الأنماط الاستسلامية الارتكاسية في الوجود… قد يكون الميلاد حلوا… إنما المستقبل أحلى… يأتي الحسين ليكسر الصمت ويحطم المألوف، ليخرج عن المعتاد ويدمر سلطان العادة الطاغي، ليرفض الجهل والخنوع ويناضل للعدالة والكرامة… ليعانق شموخ الإنسان وكبرياء الريفي…
مسار أكاديمي وتكويني متنوع ومتميز… إنه كفاءة.
منذ بداية البدايات عشق الكلمة وداعب القلم… عز عليه أن يسقط فيستجيب لطيور الظلام… عز عليه أن يخفي وجهه الحقيقي بأقنعة قذرة… لم يطق له سقوطا لهذا اقتحم قطار الدراسة مهما غضب السيد والجلاد… أصر على أن تبقى الراية مرفوعة والوردة مزهرة حتى وإن كان الزمن زمن جهل ورداءة… إذن فلا خوف علينا إذا ادلهمت بنا الآفاق من ألا نجد أستاذا  مقتدرا ينبهنا ويهدينا… فإن الحسين الذي  أطلق في زمن الصمت صرخة، قادر على جعل الناس يعشقون الكلمة…
مسار تعليمي ناجح ومتميز… الحسين منتوج تربوي مغربي جيد… ابن  المدرسة العمومية.
يتصف بكل خصال الأستاذ التواق إلى النجاح؛ بخصال نظرية وسلوكية كاليقظة العالية والاحتراز، والتقدم بخطوات محسوبة، دون تسرع ودون تهور، وتجنب السقوط في الاستفزاز ورد الفعل، ورفض الانسياق وراء العواطف والأهواء مهما كانت نبيلة، وتأهب دائم للمبادرة والفعل مسلح برؤية واضحة، وبمنهجية علمية واقتراح حلول ومخارج ناجعة، وامتلاك الحدس الذي يتجاوز ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون….
عانق الأستاذية وهو بالكاد شاب… شكل ومازال قيمة مضافة للجامعة المغربية… تحاصره أسراب البوم كليالي النفاق طالعة من جحور القبيلة فتلقاه معتصما باختياره… الأستاذ صاحب قضية، وعلى الحسين أن يواجه الأمواج والإعصار… فهذه قناعته وهذا واجبه… وهذه مهمته.. وإلا فليرحل من هذا العالم الذي في حاجة إلى العواطف النبيلة وشيء من التضحية… هكذا نرى الأستاذ الحسين يرى الأشياء… وهكذا نتصوره يتصور العالم الذي نحن فيه… فليخجل من أنفسهم أولئك الذين يحصدون ونحن الزارعون… شافاكم الله! لكم التين ولنا الزيتون، وبين التين والزيتون، آمن الحسين أن الأستاذية اختيار  أنطولوجي يشكل قناعة فكرية والتزاما إنسانيا… هذا جوهر كينونته وعنوان هويته… التحدي هو سيد الميدان… وقف الحسين فوق خشبة الكلية وأعلن رفضه للكسل والرتابة… إنه صاحب إشكالية ملحاحة، وملح في اقتراح الحلول لها، إشكالية تنمية المغرب من بوابة التعليم والمعرفة…
أعلن انتماءه العضوي لقضايا الإنسان… أستاذ فاعل ومبادر؛ مشاركته في العديد من المؤتمرات والندوات الفكرية والعلمية تجسد المبدأ والرؤية… وحضوره في الميدان… في الفضاء… في المجتمع… يؤكد سمو الفكر ورفعة الأخلاق… إنه أستاذ… إنه حداثي… والحداثة عنده ليست بالمعنى المبتذل، اللاواعي واللامؤسس، بل الحداثة النابعة من فكر الأنوار… الحداثة المؤسسة على العقل؛ عقلنة التفكير… عقلنة المجتمع… عقلنة السلوك… آلام المرحلة حاضرة في وعيه… هو الحسين، إذن، حداثي بموروث ثقافي… حداثي بموروث مغربي أصيل.. مناضل بقناعاته… وما أسهل تأقلمه في المجال إذا أراد بمحض إرادته، دون أن يخضع لأي أمر أو قرار… يحب الحرية بمروءتها ومسؤوليتها… ويقول لا للوصاية، لا لإعطاء الدروس بالمجان… لم يسقط سهوا على الأستاذية… هو أستاذ إيمانا واختيارا… اكتسب شرعية الانتماء بالقوة والفعل، وانتزع الاعتراف والتقدير بالكفاءة والجدية….
ومنذ طفولته كان الحسين رجلا ممسكا بزمام مسار حياته، حمل في صدره كبرياء القمم وإصرار الأنهار على المضي قدما مهما صعبت المسالك، يشق مجراها بصبر وثبات…
بعد طفولة هادئة باللون الأبيض والأسود، بالجدية وشيء من الشغب، يصطحب ظله لمواجهة المجهول… لمجابهة المثبطات، لعناق الأمل، ودائما يحمل في كفه دفاتر وورودا، وفي ذهنه أفكار ومبادرات، وعلى كتفه مهام ومسؤوليات، فهو يكره الفراغ… أن الزمان الفارغ يعدي الناس بفراغه… وحين يكون الشعور هامدا والإحساس ثابتا، يكون الوعي متحركا… وعى بأن الحياة خير وشر.. مد وجزر… مجد وانحطاط… ولكن هناك حيث توجد الإرادة ويكون الطموح… تكون المبادرة ويكون التحدي… تكون الطريق المؤدية إلى النتائج… ويقول الحسين: «لا تهمني الحفر ولا أعيرها أي انتباه»… منذ بداية البدايات كشف عن موهبة تمتلك قدرة النجاح، ويظل دائما ودوما متمسكا بطموح النجاح….
يكره اللغة السوداوية والنزعة العدمية… يكره الأسلوب المتشائم ولغة اليأس والتيئيس… لا… هو رجل جد  متفائل، والعينان تعبران بالابتسامة عن هذا التفاؤل… وهذا الطموح… وهذا الحب اللامشروط للمغرب رغم الكآبة في السماء والأسى لدى الآخرين… قد يكون الماضي حلوا إنما المستقبل أحلى….
تقوم فلسفة الحسين بلحساني في الأداء المهني  على مبدأ الانتماء، فهو مشبع بهذا المبدأ ويرى أن الشعور بالانتماء هو مكمن الإحساس بالمسؤولية ومحرك المردودية وحافز الغيرة على الوطن  وبطارية المبادرة والتفاني في القيام بالمهام المطلوبة، بل إنه يعتقد واثقا بأن الانتماء الحقيقي للوطن يبدأ من الانتماء الصادق للمؤسسة التي تمثل حقل خدمة الوطن….
لحسن حظنا لم يعد هناك ذو عقل بعد كل هذا، أن يعلو كرسي الأستاذية ليفتي الفتاوى ويوزع النقط والميداليات ويقرر في لائحة الفائزين والراسبين في مسار بناء الجامعة. الحسين بلحساني مواطن وطني… إنه مغربي ينتمي مطاوعة لكنه لا يرضخ… اختيارا لا قسرا… ينسجم بيد أنه لا يذوب… هو ذات فرادى واختلاف… يحوم سماوات العالم الرحاب ولا يهيم ، ويعود مثقلا بالتجارب والمعارف ليبشر بغد جميل لمغرب جميل… لا يمكن أن يحشر في زمرة الأساتذة الكسالى، فهو ليس منهم، لأنه محصن، ولكنه يعرف أن الطريق ألغام وكوابيس… وقائع وانفجارات.. دسائس وإشاعات… لهذا يمضي بحكمة وثبات… يفضح الكوابيس وينبه إلى صخبها… ينبه إلى الإغراءات ويحذر من مخاطرها… ليرتفع إلى مقام المسؤولية الملتزمة…. وليس منهم لأنه رضع الأناقة والانافة في معبد الشجعان… فاسمحوا لي أن أعلنه صاحب قضية…
للحسين بلحساني حضور أكاديمي قوي، حضور ينشده كل يوم ويذكره، بل ويغنيه ويتصاعد في تناغم مع مسار تعليمي ومهني… هو أصلا تربى ضد الصمت.. تربى على كره النفاق والغدر.. وهو طفل، وهو  ينمو، نما فيه كره الاختفاء وراء الأقنعة… مترفع في لحظات الهرولة… واثق في زمن التيه… مؤمن بأن النجاح اجتهاد وعمل… وأن التدريس اختيار والتزام…
تلقى تربية نزعت منه للأبد الإحساس بالخوف والاستسلام… وزرعت فيه الإمساك بزمام مسار حياته مهما كانت العراقيل والعوائق… تربية زرعت فيه الصمود والتصدي… تنفس عبق تربية ريفية هادفة ومسؤولة… تربية تعتمد الجدية والصرامة مرات وتعلن الليونة والمرونة مرارا… تمطر حبا حينا ونارا أحيانا….
الحسين بلحساني يتصف بكل خصال الأستاذ الإنسان… بسيط ومتواضع، كريم وصادق، مخلص ووفي؛ وفي للوطن، وفي للتاريخ، للأصدقاء واسألوا أعز زملائه وأصدقائه الأستاذ الدكتور إدريس الفاخوري… نزيه فكريا وأخلاقيا..
بالرغم من أنه غادر عمر الزهور، فإنه مازال محتفظا ببريقه وديناميته، بأناقته وتألقه، مازال متمسكا بوهج الحياة… صفة الشباب تلازمه أينما حل وارتحل… أستاذ ديناميكي… يتمتع بخاصية فريدة في التواصل والمرح التي لا تخفي جديته وصرامته، يتميز بحسن الدعابة… عنيد مثل جغرافية الريف….
إنسان بشوش في طيبوبته، وطيب ببشاشته… قوي بهدوئه، وهادئ بقوته… هكذا كما نعرفه، اسمه الحسين بلحساني… اجتماعي بطبعه.. وما أسهل تأقلمه في المجال إذا أراد بمحض إرادته، دون أن يخضع لأي أمر أو قرار… ويقول «لا» لإعطاء الدروس بالمجان…
الأستاذ الذي يستحق ألف تحية… ألف احترام… ألف تقدير… الأستاذ الذي يستحق التكريم هو الأستاذ الحسين بلحساني… فتحية له وتحية للأستاذ عبد القادر عوذري عميد كلية الحقوق بالنيابة، تحية له على هذا التقدير والاعتراف بزميل له؛ ارتبطا منذ بداية البدايات بصداقة أخوية عنوانها الاحترام…

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 09/01/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *