السمو في‮ ‬السياسة

عبدالله‭ ‬رضوان ‭(*)‬

 

في‭ ‬زمن‭ ‬انقلبت‭ ‬فيه‭ ‬المعايير،‭ ‬وغدت‭ ‬السياسة‭ ‬عند‭ ‬البعض‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬للاغتناء‭ ‬أو‭ ‬للوصول،‭ ‬يبقى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬السمو‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬الترف‭ ‬الأخلاقي‭ ‬لدى‭ ‬العامة،‭ ‬أو‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬النوستالجيا‭ ‬لدى‭ ‬من‭ ‬عاشوا‭ ‬زمن‭ ‬النضال‭ ‬النزيه‭. ‬لكن،‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬الغبار‭ ‬الذي‭ ‬يلف‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي،‭ ‬هناك‭ ‬نماذج‭ ‬مضيئة،‭ ‬تذكرنا‭ ‬بأن‭ ‬السياسة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬فنا‭ ‬راقيا،‭ ‬وساحة‭ ‬للبذل،‭ ‬وأداة‭ ‬نبيلة‭ ‬للتغيير‭. ‬
الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬للقوات‭ ‬الشعبية،‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية،‭ ‬يشكل‭ ‬نموذجا‭ ‬لهذا‭ ‬السمو‭ ‬الذي‭ ‬نفتقده‭ ‬اليوم‭.‬
ولد‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬مفصلية‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب،‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال،‭ ‬حين‭ ‬انكشفت‭ ‬هشاشة‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الوليدة،‭ ‬وبدأت‭ ‬بوادر‭ ‬الانحراف‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬الديمقراطي‭ ‬تظهر‭ ‬بوضوح‭. ‬
خرج‭ ‬الحزب‭ ‬من‭ ‬صلب‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية،‭ ‬لكن‭ ‬برؤية‭ ‬تقدمية،‭ ‬تعتبر‭ ‬أن‭ ‬الاستقلال‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بالعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والمساواة،‭ ‬والكرامة،‭ ‬وتحرير‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬والحاجة‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬التأسيس‭ ‬قرارا‭ ‬إداريا‭ ‬أو‭ ‬صفقة‭ ‬سياسية،‭ ‬بل‭ ‬جاء‭ ‬باعتباره‭ ‬فعل‭ ‬مقاومة‭ ‬جديدة،‭ ‬مقاومة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحرية‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الوطن،‭ ‬ومن‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات،‭ ‬وبأدوات‭ ‬سياسية‭ ‬سلمية،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬التسلط‭ ‬والقمع‭.‬
انخرط‭ ‬مناضلو‭ ‬ومناضلات‭ ‬الاتحاد‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬ليس‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬مناصب‭ ‬أو‭ ‬جاه،‭ ‬بل‭ ‬إيمانا‭ ‬منهم‭ ‬بأن‭ ‬خدمة‭ ‬الوطن‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬المنظم،‭ ‬وبأن‭ ‬التغيير‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات‭ ‬والمجتمع‭. ‬لهذا،‭ ‬سلكوا‭ ‬طريق‭ ‬النضال،‭ ‬بصبر‭ ‬وعزم،‭ ‬ودفعوا‭ ‬الأثمان‭ ‬الغالية،‭ ‬من‭ ‬اعتقال‭ ‬إلى‭ ‬نفي،‭ ‬من‭ ‬تعذيب‭ ‬إلى‭ ‬اغتيال‭.‬
لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬تنظيم،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬حركة‭ ‬وعي‭ ‬ومسؤولية‭ ‬تاريخية،‭ ‬ومدرسة‭ ‬في‭ ‬النبل‭ ‬والنقد‭ ‬الذاتي‭.‬
ليس‭ ‬سمو‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬نابعا‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬تاريخه‭ ‬النضالي،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬أسلوبه‭ ‬في‭ ‬الممارسة،‭ ‬فعلى‭ ‬خلاف‭ ‬أحزاب‭ ‬كثيرة،‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬الاتحاد‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي،‭ ‬حين‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬التناوب‭ ‬أواخر‭ ‬التسعينيات،‭ ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬إنقاذ‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬الانسداد،‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وبعد‭ ‬تجربة‭ ‬الحكم،‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬مراجعة‭ ‬أخطائه،‭ ‬وتقييم‭ ‬أدائه،‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬المعارضة‭ ‬عندما‭ ‬اقتضى‭ ‬الأمر‭ ‬ذلك‭.‬
هذا‭ ‬التواضع‭ ‬السياسي،‭ ‬وهذه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬محاسبة‭ ‬الذات،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬مدرسة‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬فقط‭ ‬نخبا‭ ‬سياسية،‭ ‬بل‭ ‬ثقافة‭ ‬سياسية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الوضوح‭ ‬والمسؤولية‭.‬
يعيش‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬المغربي‭ ‬اليوم‭ ‬أزمة‭ ‬قيم،‭ ‬أصبح‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المناصب‭ ‬هدفا‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته،‭ ‬وتمت‭ ‬مصادرة‭ ‬النقاش‭ ‬السياسي‭ ‬الجاد‭ ‬لصالح‭ ‬التفاهة‭ ‬والاستعراض،‭ ‬وتراجع‭ ‬منسوب‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬الأحزاب،‭ ‬خصوصا‭ ‬لدى‭ ‬الشباب،‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬اليوم‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلهمهم‭ ‬أو‭ ‬يحرك‭ ‬فيهم‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬التغيير‭.‬
في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬تصبح‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬ليس‭ ‬حنينا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬نموذج‭ ‬بديل،‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬سياسية‭ ‬نزيهة،‭ ‬تعيد‭ ‬للسياسة‭ ‬بريقها،‭ ‬وللشأن‭ ‬العام‭ ‬احترامه‭.‬
صحيح‭ ‬أن‭ ‬الاتحاد،‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬ذات‭ ‬الجذور‭ ‬التاريخية،‭ ‬يواجه‭ ‬اليوم‭ ‬تحديات‭ ‬كبرى‭: ‬تراجع‭ ‬القاعدة‭ ‬الجماهيرية،‭ ‬التنافس‭ ‬الشرس‭ ‬من‭ ‬أحزاب‭ ‬لا‭ ‬تشترك‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬المرجعية‭ ‬أو‭ ‬العمق‭ ‬الفكري،‭ ‬صعود‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬السياسة‭… ‬لكن‭ ‬قوته‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬النضالية،‭ ‬وفي‭ ‬ما‭ ‬راكمه‭ ‬من‭ ‬رصيد‭ ‬أخلاقي‭ ‬وثقافي،‭ ‬وهو‭ ‬اليوم‭ ‬أمام‭ ‬رهان‭ ‬التجديد‭ ‬والانفتاح،‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬السمو‭ ‬القيمي،‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬حزبا‭ ‬استثنائيا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب‭.‬
إن‭ ‬السياسة‭ ‬ليست‭ ‬مهنة‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬مهنة‭ ‬له،‭ ‬ولا‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة‭ ‬لبلوغ‭ ‬المناصب‭.‬السياسة،‭ ‬كما‭ ‬مارسها‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬مفصلية‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب،‭ ‬هي‭ ‬التزام،‭ ‬أخلاق،‭ ‬تضحية،‭ ‬ومشروع‭ ‬مجتمعي‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬نستعيد‭ ‬المعنى‭ ‬الحقيقي‭ ‬للسياسة،‭ ‬وندرك‭ ‬أن‭ ‬السمو‭ ‬ليس‭ ‬وهما،‭ ‬بل‭ ‬خيارا‭ ‬شجاعا،‭ ‬يتطلب‭ ‬الثبات‭ ‬على‭ ‬المبدأ،‭ ‬لكسب‭ ‬ثقة‭ ‬التاريخ‭…‬

‭ (*)‬عضو‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني

الكاتب : عبدالله‭ ‬رضوان ‭(*)‬ - بتاريخ : 09/07/2025