السياسة وحقوق الإنسان.. أية علاقة؟

عايشة زكري

يمكن أن أبدأ في صياغة الجواب انطلاقا من تساؤل آخر قد يكون هو المفتاح للخوض في هذا الموضوع الشائك، ألا وهو : ما الدافع إلى طرح هذا الموضوع ؟ وهل له راهنية ؟ وبالتالي ما هي حيثياته وملابساته وأبعاده ؟

من الواضح أننا نعيش في عصر اختلطت فيه المفاهيم بشكل كبير، وكثرت فيه الأحداث وتداخلت بشكل رهيب بحيث نحتاج، أحيانا، إلى تأمل كبير من أجل تفكيك أوصالها وإعادة نسجها من جديد، علنا نستطيع الوصول إلى إضاءة مصباح الحقيقة، هذه الحقيقة التي هي غاية كل متتبع للشأن العام في بلادنا وفي العالم.
لكن لا بأس أن أبدأ من تحليل المفاهيم الواردة في العنوان كمدخل للإجابة عن كل هذه التساؤلات المهمة .
فما هي السياسة إذن؟ وما هي الأغراض التي تهدف إليها ؟ وما هي شروط ممارستها ؟
يمكن أن أجيب وانطلاقا من ممارستي البسيطة ودون اللجوء إلى القواميس الفقهية، فأقول: السياسة هي فن تسيير أمور الشأن العام في البلاد بشكل يضمن للمواطنين والمواطنات حقوقهم التي يطمحون ويعملون ويجاهدون من أجل الوصول إليها في مقابل القيام بواجباتهم تجاه أنفسهم وتجاه الغير وتجاه الوطن بل وتجاه الإنسانية جمعاء .
ويرتبط هذا الفن بقواعد وقوانين تنظيمية علمية ضرورية كي لا تبقى هذه السياسة خاضعة للوجدان والعواطف الطائشة دون ضبط أو تقنين، ذلك أننا في مجال علم أو علوم إنسانية تتعلق بحياة البشر، وعلاقات بعضهم بالبعض الآخر بشكل يضمن الكرامة في العيش.
واضح جدا أن السياسة كفن وكعلم، في نفس الوقت، هي عمل يتطلب كثيرا من التدبر والتفكر والكياسة وليست خبط أخماس في أسداس لأن موضوعها هو الإنسان، أسمى مخلوق على وجه الأرض، وما يتمناه هذا الإنسان هو ما يتمناه الآخر على الأقل في الإطار العام، والذي هو حفظ الكرامة الإنسانية لأي فرد .
هكذا فكل قرار يتخذه السياسي وكل فعل يقوم به يجب أن يراعي بل ويخضع لهذا الشرط العظيم: حفظ الكرامة الإنسانية.
إن السياسي إذن رجل يعمل من أجل الآخر – الإنسان (أي المواطن والمواطنة) أكثر مما يعمل من أجل ذاته ولذاته، وهذا يمثل قمة النبل والفضيلة الإنسانية، لذلك يعلق هذا الآخر كل آماله على هذا السياسي خاصة حينما يكون (هذا الآخر) في طور بناء مستقبله (أي في طور الشباب) .
من كل هذا نستنتج أن السياسي رجل يجب أن يتحلى بخصلة الإنصات إلى الغير لمعرفة همومه والنقائص والمشاكل التي يعاني منها، وهذا يحتم عليه التواضع وعدم ممارسة سلوك الاستعلاء والتبجح، وأن تكون لغته رقيقة بسيطة تفوح منها رائحة الاحترام والود والمحبة والإنسانية، بل حتى حركاته وسكناته يجب أن تكون مضبوطة مغلفة بالاحترام، تراعي الآخر الذي يكون في وضع قلق يتخوف فيه على مستقبله مما يحتم ملاطفته والاهتمام بمشاعره .
وأما القرار السياسي أو القانون الذي يمكن أن يصدره أو يساهم فيه هذا السياسي، فيجب أن يراعي مصالح وأوضاع ومصائر أولئك، من هنا يجب أن يضع نفسه مكانهم وأن يفكر في ما يفكرون فيه، بل أن يحاول أن يتمثل عيشهم كي يستطيع تلبية حاجياتهم في إطار الممكن بطبيعة الحال .
هكذا يكتسي البعد الأخلاقي حيزا كبيرا في عمل وسلوك السياسي، فالسياسة أخلاق قبل كل شيء، وقديما صنفها الفلاسفة اليونان ضمن مبحث القيم الأخلاقية، ورسالة أرسطو إلى ابنه نيقاخوماس تؤكد ذلك .
والآن أصل إلى الجزء الثاني من السؤال، ألا وهو: حقوق الإنسان أية علاقة ؟
وسأبدأ بتحديد مفاهيم هذا الشطر الثاني من السؤال كما فعلت في السابق، فما المقصود بالحقوق ؟ أي حقوق الإنسان ؟
الحقوق جمع حق، والحق هو كل ما هو لي، ويجب أن أتمتع به كفرد أو كجماعة، ولا يمكن لأي كان أن ينتزعه مني أو يمنعني من الحصول عليه .
وهي حقوق خاصة بالإنسان ككائن عاقل ناطق له وجدان وإرادة وحرية، كائن فاعل مؤثر يعيش في جماعة منظمة بواسطة قوانين تسهر على تطبيقها سلطة شرعية .
إذن هي حقوق خاصة بالإنسان كيفما كان لونه، لغته، جنسيته، عقيدته، موطنه، طبقته، جنسه …أي الإنسان بصفة عامة .
وهي حقوق كثيرة ومتنوعة أولها الحق في الحياة، في بالحرية ، في التعلم، في الشغل، في الصحة، في الراحة، في السفر، في السكن، في التنقل، في التعبير، في إبداء الرأي، في الانخراط في الأحزاب وفي النقابات، في التصويت، في الترشيح، في الجنسية، في الهجرة، في الزواج، في المحاكمة العادلة، في التدين…إلى غير ذلك من الحقوق التي يتضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص عليها الشرعنة الدولية.
وهي حقوق عامة كونية، غير قابلة للتجزيء، طبيعية أي من الطبيعي أن يتصف بها الإنسان، إلزامية أي أن الدولة ملزمة بحمايتها، محمية قانونيا بواسطة القوانين والدساتير الوطنية، ومكفولة دوليا بواسطة المواثيق والمعاهدات الدولية، ولذلك فهي غير قابلة للخرق أو الانتزاع .
كل هذا شيء جميل ورائع، والآن سأرجع إلى العلاقة الممكنة بين السياسة وحقوق الإنسان، خاصة في وطننا الحبيب من طرف مسؤولينا، وبين ظهراني مواطنينا ومواطناتنا .
ذكرت سابقا أن من خصائص حقوق الإنسان أنها إلزامية بمعنى أن الدولة ملزمة بحمايتها، قانونيا ودستوريا، وهذا شيء متوفر لدينا والحمد لله .
لكن أين يكمن النقص إذن؟ وهل فعلا سهر السياسيون في المغرب على حماية حقوق الإنسان ومارسوا السياسة بشكل نبيل يحقق السعادة للمواطنين والمواطنات ؟
إن الجواب عن هذا السؤال لا يتسعه مقال سريع يمكن نشره في الجريدة، على الرغم من أنه جواب عشت جزءا كبيرا من مكوناته منذ سنوات الرصاص إلى الآن، وبالتالي يحتاج إلى مؤلف ضخم أفكر فيه جديا وبعمق لأن أحداثا جساما ما زالت تفاصيلها تمر أمام فكري وذاكرتي في لحظات الخلوة وباستمرار .
وعلى كل حال، يمكن القول إنه حدث تقدم في بلادنا لا يمكن نكرانه من خلال هذه العلاقة ( علاقة السياسة بحقوق الإنسان)، لكنني، ومثلي مثل كل من يحلم بغد أفضل لهذا البلد الحبيب، ما زلت أطمح في المزيد كي تتبوأ بلادنا مرتبة الصدارة على مستوى الحكامة الجيدة سياسيا وحقوقيا .
لكن سأختم بتساؤل آخر كان هو شرط هذا الحديث السياسي الحقوقي، ألا وهو: ما مناسبة الخوض في القول ؟ وما الدافع إليه ؟
كما قلت سابقا قطعت بلادنا مراحل على مستوى تجويد الفعل والممارسة السياسية، وعلى مستوى احترام حقوق الإنسان، وعلى كل حال لا يمكن تشبيه الألفية الثالثة التي نعيشها اليوم، وعلى هذا المستوى،بسنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وأنا أومن بالتدرج وبالصعود عبر السلالم والأدراج ولو ببطء أحيانا، لأننا في مجال الممارسة الإنسانية بالخصوص ، لكن تزعجني أحيانا بعض التصرفات لبعض المسؤولين السياسيين حاليا، والذين يعمدون بسلوكاتهم التافهة إلى محو المجهودات الجبارة التي بذلها غيرهم، ويقومون بتصرفات مشينة يندى لها الجبين، وإليهم أتوجه بخطابي هذا راجية منهم مراجعة أنفسهم وضبط سلوكاتهم والتشبث بالرزانة والمعقولية ومراعاة مصالح الناس وعواطفهم ومشاعرهم، واللبيب بالإشارة يفهم .
فلا يمكن أن نسمح، إطلاقا، بسلوكات صبيانية من بعض المسؤولين، ولا بقرارات ظالمة، ولا بهدر لكرامة المواطنين والمواطنات، ولا بالاستهزاء بهم، ولا بتكريس الطبقية التي ناضلنا لمدة أكثر من أربعين سنة في سبيل التخفيف من حدتها داخل هذا المجتمع، فأنا وأنت والآخر مغاربة أحرار قادرون على الدفع بهذا الوطن إلى مرتبة الرقي والازدهار، ويكفينا أن نتشبث بسلاح العقل والمنطق والاستقامة وحب الوطن، ولا يصح إلا الصحيح ، وإن غدا لناظره لقريب.

الكاتب : عايشة زكري - بتاريخ : 14/01/2023

التعليقات مغلقة.