الصحافة في مواجهة التفاهة..أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام

جمال المحافظ

تحت عنوان «محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، ما بين حرية التعبير والتفاهة»، نظم المركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الإعلام والاتصال ونادى الصحافة بالمغرب بشراكة مع المعهد العالي للإعلام والاتصال، لقاء فكريا يوم 10 نونبر بمناسبة اليوم الوطني للإعلام، الذي يصادف يوم 15 نونبر من كل سنة، وذلك مساهمة في « فتح نقاش علمي هادئ ورزين» حول هذا الموضوع الذي لا تخفى أهميته البالغة في هذه المرحلة الدقيقة.
ويبدو أن الحكمة الصينية التي مفادها «أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام» أطرت اللقاء الفكري الذي قارب خلاله المشاركون في هذه التظاهرة الفكرية، التي عرفت حضورا مكثفا ونوعيا من زوايا متقاطعة، جوانب من الإشكاليات التي قد تطرحها بعض محتويات وسائط التواصل الاجتماعي، ضدا على حرية التعبير ومبادئ حقوق الإنسان، وانعكاساتها في غالب الأحيان على تفشي التفاهة.

التفاهة ظاهرة كونية

وإذا كانت محتويات التفاهة تعد ظاهرة كونية، فإن ما يزيد الوضع تعقيدا غياب دراسات وأبحاث علمية حول هذه الإشكاليات «التواصلية» التي تستثمر في الشبكة العنكبوتية وتعرف اقبالا متزايدا من لدن المبحرين في الفضاء الأزرق، وتداعياتها وتكريسها بالخصوص لصور نمطية عن المرأة والتمييز ومحاولة بث الكراهية والعنصرية، وترسيخ الفكر الخرافي والجهل والعنف.
فبقدر ما كان هذا اللقاء مساهمة فعلية في إثارة مزيد من الانتباه لهذه الظاهرة التي أضحت تستأثر باهتمام جمهور واسع من الرأي العام، فإنه شكل مناسبة حقيقية لتحفيز النقاش حول خطوط التماس القائمة ما بين ضمان حرية التعبير ونشر التفاهة في وسائط التواصل، وفتح أفق جديد في التعامل معها، من خلال إجماع المتدخلين في اللقاء على الدعوة إلى اعتماد مقاربات متعددة الأبعاد تشمل كل الميادين وفي مقدمتها تضمين المقررات والبرامج المدرسية لمادة التربية الإعلامية وإنتاج محتويات ومضامين مضادة، خاصة على مستوى وسائل الإعلام وخاصة السمعي البصري منها المطالب بالارتقاء بمنتوجه.

مقاربة متعددة الأبعاد

وإذا كان الفكر اليوم يهدده الابتذال والتفاهة فإن سؤال الفكر هو سؤال مهم جدا، وأن ما يحدث اليوم هو تبخيس للفكر، وهذا أخطر شيء تسببه التفاهة، كما سجلت الجامعية والأديبة زهور كرام في مداخلة بعنوان «كيف نفكر في محتوى رقمي» والتي قالت إن المقصود من العنوان الذي اختارته لمساهمتها هو التفكير في الفكر باعتباره موضوعا،لأنه عندما لا يتم طرح السؤال فهناك مشكل ما في الفكر على حد قولها، وشددت في هذا الصدد على ضرورة إعمال الفكر لمحاربة انتشار ظاهرة التفاهة في الوسائط الرقمية، باعتبار أن «التفكير عندما لا يطور نفسه يصبح مشاركا في التفاهة»، وقالت إن «الافتراضي شيء خطير جدا، لأن الإنسان لن يخرج منه كما دخل فهناك خوارزميات تتحكم فيه».
وبعدما أشارت إلى أن القاعدة تمنح السلطة للتافهين الذين يتحولون إلى رموز بسبب الكثير من التابعين، أوضحت زهور كرام الباحثة في مجال الأدب الرقمي والوسائط الرقمية، أن هناك فرقا كبيرا بين أن تكون متابعا وبين أن تكون تابعا، فكما أن هناك المحتوى التافه هناك أيضا المستقبل التافه الذي يستقبل التفاهة ويُشجعها، وبالتالي يتعين التوقف عن متابعة التفاهة في الوسائط الرقمية والتسلح بالوعي الذي يجب أن تكون له رؤية وطنية من أجل محاربة التفاهة مع ضرورة مراجعة ما اسمته ب» الإنسانيات الرقمية باعتبارها العلم الجديد الذي يحلل ويفهم كل هذه الظواهر».

حدود الحرية والتفاهة

أما الإعلامي والكاتب عبد العزيز كوكاس فمهد لمداخلته بعنوان «الحدود الدقيقة بين الحرية والتفاهة في وسائط التواصل الاجتماعي»، بالإحالة على ما تضمنه كتاب «نظام التفاهة»، الذي يعني حسب مؤلفه، أن نظام التفاهة يعني انسحاب التفكير العميق والتأملي في النظر إلى الأشياء، وبالتالي إفساح المجال أمام تغول النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي الذي تكفله القواعد والأعراف الأكاديمية المرعية.
وفي زمن اللايقين اعتبر كوكاس أنه من الصعب الترسيم ما بين حرية التعبير والتفاهة، وأن وظيفة الصحافي «ليست وظيفة قضائية»، وإنما «محاولة إثارة الفهم» حول العلاقة القائمة ما بينهما، في ظل «الإنسان المتصل»، بيد أنه لاحظ أن «التفاهة أصبح لها أبطال» يلجؤون إلى استخدام «الميكروفونات بلا صحافيين»، وهو ما يستلزم «الحاجة إلى تربية إعلامية».
«فصل الخطاب في ذريعتي الكم وشباك التذاكر إنتاج التفاهة سينمائيا»، العنوان الذي اختاره المخرج السينمائي عز العرب العلوي لمداخلته مؤكدا على ضرورة اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الانسان في التعاطي مع موضوع اللقاء، وأن التفاهة ليست وليدة العصر الحالي لكن شهدتها مختلف العصور، والفضول يظل المحرك الأساسي في هذا المجال خلال كل الأزمنة.
وبعدما تساءل عن أي أساس نحدد السينما، أشار العلوي إلى أن المغرب عرف «سينما النخبة» التي تعاني من غياب دعمها ملاحظا سيادة «المنتج الراعي» وتحكمه في غالب الإنتاجات الفنية، وإن كنا نشهد اليوم انتصار الفضول على التفاهة فإن الأمر يتطلب»إعادة النظر في مناهج التعليم»، في الوقت الذي تشكل الثقافة والأدب مرآة المجتمع، حسب ذات المخرج السينمائي.
إذن كيف جرى تحويل الفن والثقافة إلى صناعة؟ يجيبنا الفيلسوف الكندي آلان دونو بالقول، كما هو الحال مع نظيراتها لم تفلت مجالات الفن والثقافة من سيطرة التافهين أصحاب الذوق الهابط، في حين أضحت الأعمال الفنية والثقافية الرزينة التي تحترم ذائقة المتلقي عملة نادرة.
محمد عبد الوهاب العلالي، الذي عنون تدخله ب»صناع المحتوى وتحديات الإعلام الراهنة»، أشاد باختيار موضوع هذا اللقاء الفكري الذي يكتسى أهمية بالغة مشيرا إلى الانتقال من الإعلام الجماهيري التقليدي إلى نظام مجتمع الإعلام والمعرفة، تزامنا مع ظهور ما أسماه بـ «الفاعلين المقنعين».

من أجل تحالف واسع ضد التفاهة

ولدى حديثه عن الفرق القائم ما بين الإعلام وصناعة المحتوى التي تعتبر في نظره «ممارسة شبه صحفية»، أوضح أن الصحفي مقيد بالقواعد المهنية وبمبادئ أخلاقيات المهنة، ولمواجهة التفاهة في وسائط التواصل اقترح بالخصوص تأسيس «تحالف كبير ضد التفاهة»، وإقرار نظام تعليمي جديد، والتربية الإعلامية، مع توفير الصحافيين لمواد ومحتويات جيدة وفق المعايير المهنية وحماية القيم الصحافية.
«محتويات وسائط التواصل في المنظومة إعلامية» عنوان مداخلة الفاعلة الجمعوية فدوى ماروب التي شددت على ضرورة أن تحتكم هذه المنظومة إلى المهنية وأن تعمل على إنتاج محتوى جيد يكون في مستوى الرهانات الإعلامية المطروحة. ولاحظت أن التفاهة لا تقتصر على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى في الإعلام العمومي الذي يظل في حاجة إلى إصلاح عميق.
وإذا كان الأخذ بعين الاعتبار الانشغال بتطور المهن الإعلامية، فإن فدوى ماروب شددت في هذا الصدد على دور الهيئات الإعلامية المهنية وفي مقدمتها المجلس الوطني للصحافة، داعية إلى « فتح نقاش وطني حول المهن الإعلامية».
إذن ما العمل للإطاحة بنظام التفاهة؟بالعودة إلى الفيلسوف الكندي آلان دونو الذي يرى أن السبيل للإطاحة بنظام التفاهة لا يمكن أن يتم إلا بكيفية جماعية ، وليس عبر نُشدان الخلاص الفردي، مع ما يستلزمه ذلك من طرق تفكير راديكالية لإنهاء وجود مايضر بالصالح العام.

الإطاحة بالتفاهة مسؤولية جماعية

وعندما يظل الجمهور حاضرا من الخامسة إلى التاسعة والنصف ليلا بدون كلل ولا ملل، فاعلم أن الجميع يحمل هم هذا البلد ويحب أن يراه في قمة العطاء والتضامن… في قمة النقاء الفكري والروحي ويحز في نفسه أن يرى العكس.. هو ذاك ما تم نقاشه في رحاب المعهد العالي للإعلام والاتصال في حضور وازن ومتنوع.. التفاهة التي تغزو المجتمع وتعصف بهويته..الكل أجمع على أن ما بين التفاهة وحرية التعبير خيط رفيع جدا يصعب أن تلم به جلسة يتيمة.. هو إذن مشروع مجتمع برمته.. المشاركون رموا بحجر في بركة راكدة، كما جاء في تدوينة للمخرج عز العرب العلوي مباشرة بعد اختتام اللقاء. في ظل واقع إعلامي أقل ما يمكن أن نقول عنه، إنه ليس بخير، وماذا بعد هذا اللقاء، كما تساءلت الإعلامية عزيزة حلاق – واحدة من مهندسي عريضة «أوقفوا التفاهة..» والندوة الفكرية- فإن المشاركين اتفقواعلى تأسيس لجنة لمتابعة مخرجاتها وتقديمها إلى كافة المؤسسات الرسمية والمدنية ووسائل الإعلام.

الكاتب : جمال المحافظ - بتاريخ : 22/11/2022

التعليقات مغلقة.