الصحراء المغربية … الجزائر في مفترق الطرق

علي الغنبوري

 

 

في ظل التطورات المتسارعة على الساحة الدبلوماسية حول ملف الصحراء المغربية، وجدت الجزائر نفسها في وضع حساس ومعقد، حيث أصبحت قضية الصحراء عاملا أساسيايحدد توجيهات السياسة الخارجية الجزائرية، ومن ثمّ استراتيجياتها الإقليمية والدولية، ومع اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب بهدف تعزيز العلاقات الثنائية، إلى جانب تبني مجلس الأمن موقفاأقرب إلى الطرح المغربي في قراراته الأخيرة، اضطرت الجزائر إلى التحرك سريعالإبراز موقفها الثابت من هذا الملف، فجاء الرد الرسمي عبر استقبال رئيس جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، في زيارة رسمية، في خطوة واضحة لإعادة تأكيد دعمها العلني للبوليساريو في مواجهة التحولات الدولية المتسارعة التي تصب في مصلحة المغرب.
هذا التحرك الجزائري جاء، في الظاهر، ليظهر صلابة موقفها، لكنه يثير العديد من التساؤلات حول أبعاد السياسة الجزائرية وأهدافها الآنية، وما إذا كانت الجزائر قادرة على مواكبة هذه التحولات الدولية، لا سيما في ظل تزايد الاعترافات الدولية بسيادة المغرب على الصحراء، مما يعكس حجم الضغوط التي تجد الجزائر نفسها فيها اليوم.
الجزائر بين الإصرار الدبلوماسي والارتباك في الخيارات
خطوة استقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لرئيس جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، هي رسالة واضحة من الجزائر تؤكد فيها أن دعمها للبوليساريو لا يزال ثابتا رغم تغير المواقف الدولية، هذه الخطوة تأتي في وقت شهدت فيه الساحة الدولية تحولات مهمة، أبرزها الموقف الفرنسي الأخير الداعم للطرح المغربي في قضية الصحراء، مما جعل الجزائر في موقف حرج ومتأرجح بين إصرارها على دعم البوليساريو والضغوط الدولية المتزايدة التي تتجه نحو الاعتراف بمغربية الصحراء.
يمكن النظر إلى الموقف الجزائري على أنه محاولة لإبراز قوة القرار الجزائري في السياسة الخارجية، إلا أنه، من جانب آخر، يعكس حالة من الارتباك والضغط، خاصة وأن الجزائر أصبحت مُطالبة باتخاذ قرارات أصعب مع توالي الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء، ويبدو أن الجزائر ترفض، ولو ظاهريا، الاعتراف بتحول الموقف الدولي لصالح المغرب، كما تحاول جاهدة إظهار عدم اكتراثها بالتغير الفرنسي تجاه الملف.
في هذا السياق، يعكس استقبال رئيس البوليساريو حرص الجزائر على التأكيد أن هذا التحول الفرنسي لا يعني، بالنسبة لها، زوال الدعم الدولي لجبهة البوليساريو، مما دفعها إلى إعادة تثبيت دعمها العلني للجبهة، على الرغم من التكلفة المتزايدة لهذه السياسة على مستوى الساحة الدولية.
وبينما تحاول الجزائر الموازنة بين إصرارها على دعم البوليساريو وإدارة ضغوط التغيرات الدولية، تجد نفسها أمام تحديات متزايدة؛ إذ باتت الخيارات المتاحة أمامها محدودة أكثر من أي وقت مضى، في ظل تغير ميزان القوى الدبلوماسي لصالح المغرب، ما يجعل من سياسة الجزائر الراهنة، في نهاية المطاف، مرهقة ومعقدة، تتطلب مراجعة عميقة تدفع نحو التكيف مع التحولات الدولية المتسارعة.
العزلة الدولية المتزايدة
يشكل تزايد الاعترافات بمغربية الصحراء ضغطًا دبلوماسيًا قويًا على الجزائر، التي باتت تجد نفسها معزولة بشكل متزايد في الساحة الدولية نتيجة تمسكها بموقفها الثابت بشأن النزاع، ومع توالي الاعترافات من قِبل دول مؤثرة، بدءا بالولايات المتحدة ووصولا إلى فرنسا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، أصبح موقف الجزائر أكثر تعقيدا، حيث تجد صعوبة متزايدة في كسب حلفاء جدد لدعم رؤيتها، بينما يواصل المغرب بناء شبكة علاقات وشراكات استراتيجية متينة تعزز موقفه الإقليمي والدولي.
العزلة الدبلوماسية الجزائرية تتعمق بشكل ملحوظ وتزداد كلفتها على المستويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، إذ يبدو أن تغير ميزان القوى لصالح المغرب قد جعله شريكا مفضلا للعديد من الدول الأوروبية، خصوصا في مجالات حساسة كالأمن ومكافحة الهجرة غير الشرعية والتجارة، وهي ملفات ترتبط مباشرة بالاستقرار الداخلي لهذه الدول، حيث أصبح المغرب لاعبا استراتيجيا في المنطقة، مما يجعل من الصعب على الجزائر أن تنافس في تلك الشراكات دون تغيير جوهري في سياساتها.
هذه العزلة تفرض كلفة باهظة على الجزائر، حيث تجد نفسها مضطرة لتعويض نقص الشراكات الاقتصادية والأمنية، بالإضافة إلى فقدانها النفوذ اللازم للتأثير على مجريات النزاع لصالحها، ومع تقلص الخيارات أمامها، تصبح الجزائر في موقف دفاعي يستهلك موارد كبيرة من حيث الدبلوماسية والموارد المالية الموجهة لدعم جبهة البوليساريو، مما يزيد من العبء الاقتصادي والسياسي ويؤدي إلى تراجع قدرتها على تحقيق مكاسب دبلوماسية، ويعزز من عزلتها الدولية بشكل يضعف موقفها في هذا النزاع.

التحديات الداخلية والاقتصادية

تعيش الجزائر تحديات اقتصادية واجتماعية متصاعدة تتطلب من الحكومة إعادة نظر شاملة في أولوياتها، حيث يبدو أن الوضع الحالي يستدعي توجيه موارد أكبر نحو تعزيز التنمية المحلية وتحسين جودة الحياة للمواطنين، فالاقتصاد الجزائري، الذي يعتمد إلى حد كبير على عائدات النفط والغاز، يعاني من تقلبات الأسعار العالمية وتراجع احتياطيات النقد الأجنبي، مما سيزيد من وطأة الأعباء الاقتصادية على البلاد، ودفع الحكومة إلى بذل جهود أكبر لضمان الاستقرار المالي والاجتماعي، ومع ذلك، يتزامن هذا الوضع الداخلي الحرج مع استمرار الجزائر في تقديم الدعم لجبهة البوليساريو، وهو دعم يتطلب تخصيص موارد سياسية ومالية ودبلوماسية كبيرة، ما يطرح تساؤلات جوهرية لدى الرأي العام الجزائري حول الجدوى الحقيقية لهذه السياسة، ومدى تأثيرها على فرص التنمية الوطنية.
في ظل هذه الظروف، تواجه الجزائر معضلة ذات أبعاد استراتيجية، فمن جهة، ترى في دعم البوليساريو جزءا من استراتيجيتها الإقليمية ودورها في شمال إفريقيا، ولكن، من جهة أخرى، تجد نفسها مضطرة إلى مواجهة تحديات داخلية تتطلب حلولًا عاجلة، مثل تحسين مستوى الخدمات العامة، توفير فرص العمل، وتنمية المناطق الفقيرة، وهو ما يضع الجزائر أمام ضرورة إعادة النظر في سياستها الخارجية وأولوياتها الاقتصادية، حيث أصبح من الواضح أن التزاماتها الخارجية تؤثر على قدرتها على معالجة القضايا الداخلية الملحة.
ويعكس هذا الوضع، التوتر المتزايد بين السياسة الإقليمية والاحتياجات المحلية، إذ بات المواطن الجزائري يطالب بتوجيه استثمارات البلاد نحو مشاريع تنموية داخلية تساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي وتحسين البنية التحتية وتطوير الخدمات الأساسية. ومن هذا المنطلق، ستجد الحكومة الجزائرية مضطرة إلى وضع استراتيجية متوازنة تعطي الأولوية للتنمية المحلية، وتضع الموارد الوطنية في خدمة المواطنين بشكل مباشر، فتحقيق هذا التوازن لن يعزز الاستقرار الداخلي فقط، بل سيساهم أيضا في تحسين صورة الجزائر على الصعيد الدولي كدولة تركز على تحقيق الرفاهية لشعبها وتتبنى سياسات فعالة في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة.

تعطيل التكامل المغاربيوالتحديات الأمنية و الاقتصادية

يعتبر موقف الجزائر المتشدد من قضية الصحراء أحد أبرز العوامل التي تعرقل التعاون المغاربي، خصوصا مع المغرب، في وقت تحتاج فيه المنطقة المغاربية إلى تعزيز التعاون الإقليمي بشكل ملح لمواجهة تحديات مشتركة تهدد استقرارها ورفاهية شعوبها، حيث تواجه المنطقة مشاكل و تحديات عديدة ومتشابكة، أبرزها مكافحة الإرهاب العابر للحدود، حيث أصبحت الجماعات المتطرفة تستغل أي فراغ أمني أو ضعف في التنسيق الإقليمي للتمدد والانتشار، مما يزيد من الحاجة إلى تعاون أمني فعّال بين الدول المغاربية. بالإضافة إلى ذلك، تشهد المنطقة تحديات في مجال الهجرة غير الشرعية، إذ أصبحت ممرا رئيسيًا للهجرة نحو أوروبا، ما يستدعي تكاتفًا حقيقيًا للتعامل مع تدفق المهاجرين والتقليل من التداعيات الاجتماعية والأمنية لهذا الظاهرة.
إلى جانب هذه التحديات، تواجه المنطقة تأثيرات متزايدة جراء التغيرات المناخية، التي تؤثر على الموارد الطبيعية والأمن الغذائي وتزيد من وتيرة التصحر، مما يجعل من التعاون البيئي والاقتصادي حاجة ضرورية لتأمين الاستدامة لشعوب المنطقة، إلا أن النزاع حول الصحراء بين الجزائر والمغرب يعقد العلاقات الثنائية، ويجعل أي تقارب أو تنسيق بين البلدين صعب المنال، حيث تستمر الخلافات السياسية وتؤثر سلبا على جهود التكامل الإقليمي الذي تحتاجه المنطقة بشدة.
غياب التعاون بين الجزائر والمغرب لا يعطل فقط المشاريع التنموية التي تخدم شعوب البلدين، بل يعطل أيضا الجهود التي تسعى إلى إنشاء اتحاد مغاربي فعال وقوي يمكنه مواجهة التحديات الإقليمية والدولية بشكل مشترك، ففي ظل هذا النزاع، تبقى المنطقة المغاربية واحدة من أقل المناطق تكاملا اقتصاديًا في العالم، مما يحرمها من فرص اقتصادية كبيرة ويؤثر على الاستقرار والازدهار في المنطقة ككل.
آفاق تطور الملف ومستقبل موقف الجزائر
تواجه الجزائر خيارات محدودة في ظل التطورات الدولية السريعة المتعلقة بالصحراء المغربية،فإذا استمرت الجزائر في نهجها الحالي، فإن هذا قد يؤدي إلى زيادة عزلتها الدولية وتصاعد التوترات مع دول الجوار، وخاصة المغرب. بالمقابل، قد يكون التوجه نحو مراجعة شاملة للموقف الجزائري هو الخيار الأنسب في ظل هذا السياق.
يمكن للجزائر أن تتخذ خطوات نحو التخفيف من حدة موقفها والانخراط في حوار بناء مع المغرب، وذلك بمساعدة المجتمع الدولي، خاصة أن حل قضية الصحراء سيعزز من الاستقرار في المنطقة بأسرها، ويمكن لهذا الحوار أن يتضمن ترتيبات تحقق التوازن بين تطلعات الجزائر وتحفظ سيادة المغرب على الصحراء، مع توجيه الجهود نحو التنمية الإقليمية المشتركة.
كما انالجزائر مطالبةبإعطاء الأولوية لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل البلاد، من خلال توجيه المزيد من الاستثمارات إلى القطاعات الأساسية، بما يسهم في رفع مستوى المعيشة وتحقيق الاستقرار الداخلي. هذا المسار سيسمح لها بزيادة نفوذها الإقليمي كدولة قوية وفاعلة اقتصاديا.
لقد تحولت قضية الصحراء المغربية إلى محور رئيسي في العلاقات الدولية لمنطقة المغرب العربي، مما جعل الجزائر في وضع دبلوماسي حرج بسبب دعمها المستمر لجبهة البوليساريو. رغم محاولات الجزائر للرد على التحولات الدولية من خلال خطوات تصعيدية، فإن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى زيادة العزلة الدولية ويجعلها تواجه تحديات داخلية وإقليمية متصاعدة، فالخيارات المتاحة أمام الجزائر تكمن في إعادة تقييم سياستها الخارجية تجاه هذا الملف واعتماد حلول توافقية تسهم في استقرار المنطقة وتتيح لها فرصة التركيز على التنمية الداخلية، مما يحقق مصلحة الشعب الجزائري ويعزز من قوتها الإقليمية بشكل إيجابي.

الكاتب : علي الغنبوري - بتاريخ : 02/11/2024