العجز عن الفهم كان مشكلة بشار الأسد الأهم

هيثم الزبيدي

كل محاولة لتفسير ما جرى في سوريا خلال الأسبوعين الماضيين، بدءا من دخول قوات هيئة تحرير الشام حلب ووصولا إلى دخولها دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد، ستصطدم بنقطة عصية على التفسير. حدث كل شيء بسرعة. الانهيار الشامل للنظام أمام قوة متوسطة الحجم مثل قوة الهيئة، يصعب وضعه في إطار التحليل السياسي أو العسكري. لكن من الواضح أن نظام بشار الأسد في مرحلة ما بعد “انتصاره” في الحرب الأهلية، استنفد الزمن في عملية تآكل داخلية كبيرة حولته، بكل ما للكلمة من معنى، إلى نظام أجوف.
قد يقول البعض إن النظام لم ينتصر أصلا، ولكن كل الأطراف خرجت مستنزفة إلى درجة أن لا أحد يريد ادعاء النصر في الحرب، فبادر الأسد وقال “أنا المنتصر”. هذا وارد بالطبع، لكن كان بوسع النظام أن يستمر في التواري خلف أرقام عديدة من الجند والأمن، وخلف دعم روسي وإيراني. لكن العديد كان يتطلب إنفاقا كبيرا لا يتوفر لدى النظام بحكم وضعه كنظام مغضوب عليه دوليا بسلسلة عقوبات. في حين انشغل الروس بحربهم في أوكرانيا التي تحولت إلى مواجهة شاملة مع الغرب، وتخبط الإيرانيون بمغامرة حماس في هجوم “طوفان الأقصى” وانجرار حزب الله إلى المغامرة وصولا إلى تدمير شبه كامل لحماس وغزة من جهة، وقطع رأس حزب الله وتفكيك هيكليته بضربات إسرائيلية ستدرّس يوما على أنها حبكة حربية أشبه بمشهد درامي معد سلفا، لم يفلت فيه المخرج من يده أدقّ التفاصيل.
في قلب التفسيرات يقف بشار الأسد بحكم كونه اللاعب الأول في دراما الأسبوعين الماضيين. ما حدث هو تكرار لطبيعة عجز الأسد، لمرات بعد مرات، عن فهم أهمية الزمن وعن إدراك قدرة الحدث الجديد على إزاحة المشهد القديم. فخلال ثلاثة عقود من تواجده السياسي في الموقع الأول (أو شبه الأول) في السلطة، لم يتمكن الأسد من التحرك بوعي يتناسب مع الزمن وحراجة الموقف. إذا صح القول، فإن الرئيس السوري السابق بشار الأسد مثال على الشخص الذي يمعن في إضاعة الفرص التي تقدمها إليه الأقدار. بشار الأسد، ابن الصدف السياسية والأقدار، ظل يعول على بقاء الأقدار على ديدنها معه بأن تلقي له بالمزيد من الفرص. هذه المرة، تركته الأقدار لمصيره.
لا نريد الخوض عميقا في تاريخ أسرة الأسد. يكفي أن نقول إن حافظ الأسد أحسن اقتناص فرصة الوصول إلى الحكم، وحالما وصل إلى الحكم لم يترك شيئا لم يفعله كي يستمر حاكما مطلقا لسوريا.
لم يكن ثمة شيء اسمه بشار الأسد تقريبا إلى حد ذلك الفجر المظلم الذي أضاف إليه الضباب المزيد من العتمة. قُتل باسل الأسد، الأخ الأكبر لبشار، ليولد بشار كوريث محتمل لوالده (ولسلطة أسرة الأسد التي لا ينقصها طموح العم أو أولاد العمومة أو أولاد الخؤولة). قُتل باسل في حادث على طريق المطار، وسارع الأسد الأب إلى استدعاء ابنه “المجهول” من كلية طب العيون في لندن.
كانت هذه أول فرصة أضاعها بشار الأسد. الأب كان ضعيفا وبحاجة إلى من يسنده بعد أن راهن على باسل واستبعد أخاه رفعت. لكن بدلا من أن “يتدرب” الأسد الشبل على أن يصبح رجل دولة محنكا، تلهى بالحديث عن الجمعية المعلوماتية السورية، وكان كلما تحدث عن المستقبل ربط الأمر بانتشار الإنترنت في سوريا وقدم هذا الانتشار على أنه معجزته القادمة. هذا كان سقف بشار السياسي بداية من موقعه شبه الأول من خلف والده، إلى حين وفاة حافظ الأسد عام 2000.
كان وصوله إلى الرئاسة الفرصة الثانية التي بددها يوم وصل تقريبا. فقد استقبله السوريون كشخص عاش لفترة (مهما كانت قصيرة) في الغرب، وتزوج من سورية درست وعملت في بريطانيا، ما يعني أنه سينقل بعضا مما تعلمه أو تعلمته زوجته إلى واقع سوريا. لم يطلب السوريون ديمقراطية أو مرونة في الحكم، واكتفوا بأن يروا شيئا من الهدوء في التعامل بين السلطة والمواطن ينسيهم قسوة الأب. صرنا نسمع السوريين يبشرون بعهد بشار، في حين تعامل الرئيس الشاب مع الوضع المستجد كما لو أن الدهر كله له. لا شيء كان يبدو مستعجلا عند الرئيس، واستمرت المماطلات في كل شيء. بعد فترة أضاف الرئيس الشاب خليطا عجيبا لعلاقاته الإقليمية والدولية، إذ لم يكتف بعلاقات مصلحية محسوبة على طريقة أبيه حافظ مع الإيرانيين وحزب الله وحماس، بل صدّق الأمر وصار مؤمنا بطورين متجانسين من الإسلام السياسي هما الطور الخميني والطور الإخواني. سجل الأسد سابقة سياسية بالإيمان بالخلاص على يد حزبين دينيين وهو زعيم حزب البعث القومي العلماني.
بعد فترة بدأ السوريون يفقدون حماسهم، ثم ركض الأسد خلف الوهم الإيراني من بوابة حزب الله وبدأ سياسة معادية للخليج وتصادم مع السعوديين من دون سبب مفهوم سوى قدرته المذهلة على عدم فهم ما يجري.
ذهبت المنطقة إلى اغتيال رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان وحرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وبقي بشار الأسد على “دهريته” في أن الزمن لصالحه وأن ما لا يُصلَح اليوم، فمن الممكن إصلاحه بعد عقد أو عقدين. تحرك الإقليم وتغير بشكل كبير بعد غزو العراق، وبقي الأسد عاجزا عن فهم خطورة ما حدث وأنه يصب في صالح الإيرانيين، وأنه بقصور فهمه واستيعابه صار الحلقة التي أوصلت الإيرانيين عبر العراق إلى المتوسط. إنها الحلقة نفسها التي ربطت مع حزب الله موضوع الهيمنة الإيرانية على لبنان والشأن الفلسطيني. لم يتمكن من إدراك حجم التهديد الذي كانت المنطقة تواجهه بأن تحول المشروع الأيديولوجي الإيراني إلى مشروع إمبراطورية شيعية.
حينما تستمع لما كان الأسد يقوله، تصير لا تصدق أذنيك إذا كان فعلا يؤمن بما يقول. ومع عدم قدرة الآخرين على تصديق ما يقوله الأسد، كان الأسد يضيع المزيد من الفرص، إلى أن وصلنا إلى نكبة الربيع العربي. فخلال أسابيع تمكن الأسد، وبدلا من احتواء الأزمة، من تحويل حركة احتجاجات شعبية إلى حرب أهلية كاملة الأوصاف. لا حاجة إلى الحديث عن المستوى البشع الذي وصلت إليه الأوضاع في سوريا فهذا أكثر من موثق. لكن تكفي الإشارة إلى أن تراجع العنف بعد سنوات كان يفترض أن يفتح الباب للعثور على حل. إلا أن الأسد، مرة أخرى، عجز عن فهم عامل الزمن وأهمية التوقيتات، وترك الأمر لينجرف سنوات وصولا إلى الفترة الأخيرة من حكمه.
شهدت الأعوام الأخيرة من حكم الأسد إعادة انفتاح عربي على النظام، ومنح أكثر من فرصة وصار مشهد حضوره القمم العربية والإقليمية مألوفا. لم يستفد الأسد من الانفتاح العربي عليه، بل ساعد الانفتاح على حلحلة العلاقة مع عدوه اللدود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لوهلة، بدا أردوغان وكأنه يتوسل المصالحة مع الأسد، وفي المقابل واصل الرئيس السوري تمنعه لضعف في إدراك أن الأمور لا تبقى محصورة في الأسود والأبيض، معك وضدك. التمنع السوري كان سمة السنوات الطويلة من حكم الأسد الابن، لكنه صار مشكلة متأصلة أعجزت حتى من يريد مساعدته من الدول العربية التي كانت تدرك أن العالم يتغير بسرعة كبيرة وأنه لن يترك “دهر الأسد” على حاله.
لعل آخر تجسدات عهد العجز عن الفهم كان في عدم قدرة الأسد على استيعاب ما كان يحدث على بعد خطوات عنه، بل في عقر داره. دمرت إسرائيل حماس، ودمرت قدرا كبيرا من رصيد إيران العسكري والسياسي في سوريا، ثم التفتت إلى تدمير حزب الله. كان الأسد على موقفه “الزعلان” من حماس، والمقتنع بأن حزب الله قوة لا تقهر لن تستطيع إسرائيل النيل منها، وأن الردع “حقيقة” إيرانية في مواجهة إسرائيل وليس مجرد جداريات لصواريخ على حيطان طهران أو تقدم خلال استعراضاتها. وحتى حين خضع كل شيء للاختبار وسقط فيه، منذ اليوم الذي تمكنت فيه إسرائيل من توجيه ضرباتها إلى كبار قادة الحرس الإيراني في سوريا، وتقطيع أوصال حزب الله باستهداف كل عضو ذي حيثية في هيكليته عبر استهداف البيجر والووكي توكي، ثم قتل حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، فسر الناس صمت الأسد على أنه حلم استراتيجي. لم يكن أحد يتخيل أن العجز عن الفهم وصل إلى هذا المدى مع الرئيس السوري.
انتهى الأمر، وسقط النظام وأخذ (وسيأخذ) معه الكثير من الاستثمار السياسي والمالي والاستراتيجي الإيراني. لم يمر يوم سيء على إيران وقيادتها مثل فجر يوم 8 ديسمبر 2024 وسقوط نظام الأسد. إيران، التي بدت وكأنها تخلت عن الأسد، استوعبت مبكرا ما يحدث بعد أن تم تدمير قوتها الصاروخية والمعنوية على يد إسرائيل. تركت الأسد يموت موتا سريعا لتلتفت إلى ما يمكن إنقاذه من بقايا أحلام إمبراطوريتها. لا وقت لديها لإطالة التأمل تحت غطاء تصنّع الحكمة، على حال ما كان يفعل الأسد.
إذا كان ثمة شيء يمكن أن يتعلمه السوريون من العجز عن الفهم وعدم القدرة على إدراك عامل الزمن، فهو أنهم أمام فرصة فهم وإدراك تدفع بهم بعيدا عن الوضع الذي وصلوا إليه. بعض الخليجيين -ممن بقوا حريصين على سوريا رغم كل ما حدث من الأسد ونظامه- لا يزال يريد العمل على إنقاذ سوريا من كبوتها الطويلة. ومن بينهم من مد اليد ووصل إلى مرحلة أولى في الإنقاذ، ولا شك أنه سيستمر في دعمه للسوريين. هذه فرصة ربما لن تتكرر، ومن الضروري أن يلتقطها السوريون وألا تتحول إلى جزء من لعبة سياسية إقليمية بسبب أطماع ضيقة. الحظ لا يستمر في قرع الباب نفسه لمرات.

الكاتب : هيثم الزبيدي - بتاريخ : 13/12/2024