العنف ضد نساء ورجال التعليم والبحث عن الكرامة في زمن «التشرميل» الرقمي

سعيد الخطابي (*)

 

في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع، بات العنف داخل الفضاء المدرسي جزءا من مشهد مألوف، بل ومقلق إلى حد الفزع. ولم يعد اعتداء تلميذ على أستاذه، أو التشهير به، مجرد حالة معزولة، بل صار ناقوس خطر يقرع بقوة في وجه الجميع: آباءً، ومربين، ومسؤولين، ومجتمعا بأسره. إن العنف الموجه ضد نساء ورجال التعليم هو العنوان الأبرز لأزمة مركبة، تتداخل فيها اختلالات المجتمع مع أعطاب المدرسة، في زمنٍ فقدت فيه التربية على القيم موقعها، وتراجع فيه وعي الناشئة بمعاني الواجب، واحترام الضوابط، وقدسية الفضاء التربوي.
ما الذي جرى حتى تحولت المدرسة من فضاء آمن، إلى ساحة متوترة؟ ومن المسؤول عن تفشي مظاهر الاعتداء، اللفظي والجسدي والنفسي، في قلب المؤسسة التي من المفترض أن تكون مصدرا لتكريس السلوك المدني، والتربية على الاحترام، والتشبع بثقافة الحوار؟ هل هو انهيار منظومة القيم، أم غياب التربية الأسرية، أم الانفلات الرقمي الذي يجر الناشئة التعليمية نحو التشبع بثقافة التباهي بالعنف، و»التشرميل»، وإشهار السلاح الأبيض كوسيلة للظهور والتموقع داخل محيطهم؟
لقد أصبحت الوسائط الرقمية، وعلى رأسها تطبيقات كـ»تيك توك» و»ويل»، منابر لترويج مشاهد السلوك العدواني، والتمرد على السلطة الرمزية للمدرس، في مشهد يختلط فيه الترفيه بالعنف، والبطولة بالانحراف. لم تعد هذه المنصات محطات لتزجية الوقت، بل أضحت أدوات قوية لتشكيل نمط من الذهنيات، وخلق تمثلات مشوهة عن القوة والحرية والتفوق، في غياب تأطير أسري وتربوي يتيح للناشئة فهما نقديا لما تستهلكه ولا متابعة ورصد لما تتبناه من أفكار وقناعات مشوشة ومضطربة.
ويزداد الوضع خطورة عندما نعلم أن عددا من هؤلاء التلاميذ (ات)، الذين يظهرون سلوكا عدوانيا داخل الفصول الدراسية، يعانون في الأصل من صعوبات في التأقلم مع محيطهم التربوي وفي مسايرة تعلماتهم، أو من مشكلات أسرية ونفسية عميقة، أو من الإقصاء الاجتماعي والهدر المدرسي العاطفي والتربوي، حتى وإن لم يغادروا المدرسة فعليا. هؤلاء التلاميذ غالبا ما يُتركون لمصيرهم، دون استماع، ودون مرافقة، في ظل محدودية أو غياب فعلي لدور خلايا الإنصات، وعدم إدماجهم في أنشطة الحياة المدرسية، التي تشكل رئة ضرورية يتنفس بها التلميذ خارج ضغط الامتحانات والمقررات الدراسية.
إن ما نعيشه اليوم يستدعي من الجميع، وبشكل استعجالي، إعادة النظر في مفهوم المدرسة وأدوارها. يجب أن تتجدد المدرسة من الداخل، لا فقط عبر إصلاحات بنيوية أو مناهج تعليمية، بل عبر ثورة تربوية تعيد للتربية على القيم موقعها المركزي. فالواجب القيمي والأخلاقي يفرض علينا أن نربي أبناءنا منذ المراحل الدراسية الأولى ( التعليم الأولي ) أن لكل حق واجبا، وأن الحرية لا تعني الفوضى وفعل ما تريد، وأن الاحترام لا ينتزع بالقوة، بل يبنى بفضيلة الحوار والمسؤولية. وأن ثقافة الحق والواجب يجب أن تغرس في المدرسة بنفس الإلحاح الذي ندرس فيه مواد أقطاب العلوم واللغات والتفتح.
وبالموازاة مع كل هذا، لا بد من تعزيز الثقافة القانونية والحقوقية بشكل تدريجي في المقررات، وتبسيط مفاهيم مثل المسؤولية القانونية، والحق في الأمان والعيش المشترك رغم الاختلاف، وواجب الاحترام، وقواعد التسامح حتى يفهم التلميذ(ة) منذ صغره أن العنف ليس خيارا، وأن الاعتداء على الأستاذ أو زميله ليس «شجاعة» بل فعل تترتب عنه تبعات قانونية وأخلاقية. لا يمكن أن نترك التلميذ يكتشف هذه المفاهيم فجأة في الجامعة أو في مخافر الشرطة.
كما أن إعادة الروح لأنشطة الحياة المدرسية، الثقافية والرياضية والفنية، من شأنه أن يفتح منافذ جديدة للتعبير والاندماج أمام التلميذ، ويمنحه شعورا جميلا بروح الانتماء والتقدير داخل فضائه المدرسي. وحين يشعر التلميذ بأن له صوتا يسمع، وموهبة تحتضن، وقيمة إنسانية يعترف بها، فإن السلوك العدواني يتراجع، لأن خلف كل عنف، شعور بالإقصاء، أو رغبة مضطربة في إثبات الذات.
في المقابل، لا يمكن أن نتحدث عن تربية على القيم دون أن نؤمن بضرورة تقوية المراقبة داخل المؤسسات التعليمية، لا من باب الزجر، ولكن من منطلق توفير الأمن النفسي والجسدي للجميع. يجب أن يشعر الأستاذ أن له حماية حقيقية، وأن المدرسة لا تتركه وحيدا في مواجهة متمدرسين عنيفين أو سلوكات خطيرة. كما يجب أن يشعر التلميذ نفسه أن الفضاء المدرسي محكوم بقواعد واضحة، تحفظ كرامته، وتضع له حدودا يلتزم بها.
العنف ضد نساء ورجال التعليم ليس إلا مرآة لما يحدث خارج أسوار المدرسة: عنف في الشارع، في البيوت، على الشاشات، في الخطاب العام. لكنه أيضا صرخة في وجهنا جميعا بأن المدرسة، في صورتها الحالية، لم تعد قادرة على أداء دورها القيمي إلا إذا أعدنا إليها الاعتبار، وأعدنا صياغة علاقتنا بها كمجتمع.
ولعل اللحظة الراهنة، بكل ما تحمله من توتر وانزياحات، تشكل فرصة ثمينة لنراجع أنفسنا، ولنبدأ في بناء مدرسة لا تُلقن فقط، بل تربي، لا تدرس فقط، بل تصغي، لا تعاقب فقط، بل تحتضن.
(*) رئيس مصلحة الشؤون التربوية بمديرية الحسيمة.

الكاتب : سعيد الخطابي (*) - بتاريخ : 16/04/2025