القيم المؤسسة للهوية الوطنية

عبد السلام المساوي

ذكر جلالة الملك محمد السادس، في خطابه أمام أعضاء البرلمان بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، بالقيم المؤسسة للهوية الوطنية الموحدة، التي رسخها دستور المملكة، ويتعلق الأمر :
أولا، بالقيم الدينية والروحية، وفي مقدمتها قيم الإسلام السني المالكي القائم على إمارة المؤمنين الذي يدعو إلى الوسطية والاعتدال والانفتاح على الآخر والتسامح والتعايش بين مختلف الديانات والحضارات.
إن تدين أهل المغرب تدين اجتماعي
إن المغرب بلد إسلامي، والطابع الإسلامي ينبع أساسا من قيمه الثقافية النابعة من الإسلام، غير أنها ليست قيما مغلقة ولا متحجرة .
إن تدين أهل المغرب هو تدين اجتماعي غير عالم ومفتوح في الوقت ذاته، الواجبات الدينية تؤدى بينما الحياة الاجتماعية والاقتصادية تعرف مجراها.
معروف على سكان المغرب حرصهم الكبير على الالتزام الديني، وحرصهم الكبير جدا على أداء وممارسة الشعائر ذات الطبيعة الدينية .
ولقد منح الإسلام أهل المغرب وسيلة لتأكيد هويتهم الثقافية وهي الوسيلة التي تحولت في نهاية المطاف إلى محرك رئيسي للحركة الوطنية .
كان المغرب دائما ذا بنية جماعية متماسكة، وذا توجه مذهبي واحد، وكان أهله وما زالوا متآزرين معتزين بدينهم وهويتهم ووطنهم، لهذا كانوا وسيظلون وطنيين صادقين، أبطالا ساهموا في تحرير البلاد من الاستعمار ويساهمون الآن في البناء والتنمية.
إن المغرب متمسك بالمرجعية المميزة لطبائع «الإسلام المغرببة» كما عرفها يوما النظم الشهير لابن عاشر:
في عقد مالك وفقه الأشعري
وسلوك الجنيد السالك
ومعلوم أن هذه الثوابت «العقيدة الأشعرية، المذهب المالكي، التصوف السني على طريق الجنيد السالك» تشكك فيها بعض الحركات الإسلامية المغربية، بحكم المرجعية العقدية والمذهبية لهذه الحركات أي «السلفية الوهابية» التي تتميز بسمات عامة مؤرقة للغاية في حال إسقاطها على التدين المغربي.
هذا هو جوهر التدين المغربي قبل أن يفسده الذين تعرفوا على الدين فقط عبر القنوات المشرقية.
وثاني هذه القيم هي القيم الوطنية التي أسست للأمة المغربية، والقائمة على الملكية التي تحظى بإجماع المغاربة، والتي وحدت بين كل مكونات الشعب المغربي، وعمادها، وفق الملك، التلاحم القوي والبيعة المتبادلة بين العرش والشعب، كما يعد حب الوطن والإجماع حول الوحدة الوطنية والترابية من ثوابت المغرب العريقة التي توحد المغاربة.
هناك إجماع وطني، يوحد المغاربة حول ثوابت الأمة ومقدساتها، والخيارات الكبرى للبلاد، وأولها «الملكية الوطنية والمواطنة، التي تعتمد القرب من المواطن، وتتبنى انشغالاته وتطلعاته، وتعمل على التجاوب معها»، وثانيها، مواصلة الخيار الديموقراطي والتنموي بعزم وثبات. يقول جلالة الملك عن الملكية المواطنة «يعلم لله أنني أتألم شخصيا، ما دامت فئة من المغاربة، ولو أصبحت واحدا في المائة، تعيش في ظروف صعبة من الفقر أو الحاجة . لذلك أعطينا أهمية خاصة لبرامج التنمية البشرية، وللنهوض بالسياسات الاجتماعية، والتجاوب مع الانشغالات الملحة للمغاربة».
على المتتبع للوضع المغربي، خصوصا الأجانب غير المطلعين على تاريخ المغرب جيدا ويسارعون إلى انتقاد الملكية والنظام، أن يعلموا أن الملكية في المغرب نظام عرف تجارب وأخذ دروس التاريخ. فالملكية متعددة القرون «multiséculaire» تعايشت مع حركات مناوئة «antagonistes» وأخرى صديقة عبر تاريخ نشأتها وتطورها، تفاعلت مع الزوايا واحتجاجاتها، تعاملت مع بلاد السيبة وبلاد المخزن، تجنبت الصدامات الخارجية والدولية وتفادت القوى الدولية والإقليمية ….
إن الملكية في المغرب عاشت الاستعمار الأوروبي والحجر الأجنبي، تفاعلت مع مختلف الايديولوجيات السياسية والأفكار الاجتماعية الإنسانية من تصوف وتشيع ومذاهب دينية وسياسية كثيرة، تجاذبت مع الإيديولوجيات اليمينية واليسارية وعاشت على وقع الصراع بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي زمن الحرب الباردة، تمرست على التعامل مع حركات وأفكار الانفصال، في محطات تاريخية مهمة ومفصلية، كلها محطات قوت الملكية، وشكلت عقلها الباطن بمثابة خزان للأعراف والتقاليد في تدبير العقليات والأزمات ….
إن الملكية تمثل النظام الوحيد الذي جمع ووحد المغاربة حول مشروع وطني لبناء الدولة من منطق مغربي خالص، في غياب أي تصورات أو مشاريع يمينية أو يسارية أو غيرها حقيقية للبناء . فهي المؤسسة الوحيدة، التي استطاعت أن توفق بين التاريخ والحاضر من أجل المستقبل، بدون حسابات شخصية أو سياسوية ، وإلا كان مصيرها كعدد من الأنظمة في فضائنا العربي والثقافي والجغرافي : الاندثار والتفكك والتطاحن الدموي…
إن الملكية هي المؤسسة الوحيدة التي أتقنت فنون تدبير التناقضات الداخلية والخارجية، وخلقت توازنا لاستمرار الدولة والمجتمع. فالملكية المغربية هي ملكية تدبيرية وليست تنفيذية كما يقول البعض، ذلك أن الملك يضع التصورات الكبرى ويرسم الخطوط العريضة ليس فقط لتدبير مرافق الدولة ومؤسساتها السياسية والاجتماعية وإنما أيضا يحدد هوامش التفاعل مع المجتمع ومختلف الأفكار الرائجة فيه ….
وفي المقام الثالث، وفق الخطاب الملكي، تأتي قيم التضامن والتماسك الاجتماعي بين الفئات والأجيال والجهات، التي جعلت المجتمع المغربي كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، ودعا الملك إلى مواصلة التشبث بهذه القيم اعتبارا لدورها في ترسيخ وتحصين الكرامة الإنسانية، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وخاصة في ظل ما يعرفه العالم اليوم من تغيرات عميقة ومتسارعة أدت إلى تراجع ملحوظ في منظومة القيم والمرجعيات والتخلي عنها أحيانا.
ملحمة الملك والشعب خلدها نشيد المملكة منذ عقود، جربوا قراءته بإمعان وفق كرونولوجيا الأيام الأخيرة . كل بيت من أبيات هذا النشيد يحكي قصة هذا التلاحم إلى آخر بيت: «إخوتي هيا …للعلا سعيا» …وقد لبوا النداء في قوافل ومسيرات التضامن التي تسلقت الجبال العالية، وأشهدوا على أنفسهم كل العالم كما يحكي النشيد في مقطع : نشهد الدنيا …أنا هنا نحيا «، فأكدوا للعالم، وبما لا يدع مجالا للشك، أنهم يحيون في كل بقعة من هذه البلاد في الصحراء كما في الجبال، للوطن ومن أجله، كي يصنعوا ملحمة «لله …الوطن …الملك».

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 16/10/2023

التعليقات مغلقة.