الماء كعقيدة دولة

يونس وانعيمي

منذ أكثر من ثلاثين سنة أصدرت مجموعة بحث بجامعة القاضي عياض بمراكش تقريرا متعدد التخصصات (ساهم فيه مهندسون زراعيون وجيولوجيون وعلماء بيئة…) حول وضعية المياه الجوفية والفرشات المائية بجهتي الحوز وسوس. وكان عنوان التقرير الأبرز هو الإنذار بشح وشيك هو بمثابة كارثة.
رفع التقرير لرفوف وزارة التعليم العالي آنذاك وأكلته جرذان الدهاليز من دون أن يحظى ولو بقراءة شبه مسؤولة. وبعد مضي أكثر من ثلاثين سنة سيتم تشييد متحف الماء بمراكش وهي إشارة ضمنية (ربما غير واعية) تجعلنا نفهم أن الماء بالجنوب أضحى كما الدايناصور البريكامبري، مادة حيوية منقرضة وجب إحياء ذكراها في المتاحف.
لم تتعامل الدولة لحد الساعة بجدية مع موضوع شح الماء وخطر العطش المحدق بالمغرب ودول شمال الصحراء وجنوب المتوسط.
الماء أول عقائد الدول في طور النمو كما العقائد المترسخة لحماية مصادر الحياة والطاقات الحيوية. وبالتالي لا يصلح الصمت المطبق عن عقيدة صون الماء وانتظار الكارثة لتشرع الدولة في دق ناقوس متأخر. التنبيه يكون متدرجا في الزمن ومصاحبا لسياسات واقعية وصارمة واحترازية وهذا ما لم يحصل في المغرب. هذه بعض تجليات الاسراف في إهمال عقيدة الماء:
1 – سياسة السدود كانت في مطلعها حكيمة لأنها جاءت لتدبير ضياع الماء الفائض وبالتالي هي سياسة جاءت لترشيد الوفرة..ولا نتصور أنها اليوم سياسة تحتفظ بنفس درجة النجاعة أمام الندرة (لا معنى للسدود في وضعية جفاف المنابع والأودية)… ثم هناك غياب فاضح لإجراءات مواكبة بنيات السدود (حيث يشكل الوحل والحجر أكثر من ثلثي الحقينة الإجمالية للسدود) وغياب شبه تام لتقارير تقييم هذه السياسة من أجل تقويمها…أصبح انتقاد سياسة السدود من طابوهات السياسة كما طابو انتقاد كارثة النهر الليبي العظيم الذي كان من بنات افكار القذافي. وحتى إن سقطت علينا أمطار الخير فإن سبعين بالمائة منها يضيع في جوف البحر
2- راهن المغرب على سياحة غير متناسبة مع قدراته الطاقية والمائية…مسالك غولف شاسعة حتى بدون ممارسين وبدون قيمة استثمارية مضافة. فنادق بمسابح ورياضات بمسابح واقامات بمسابح بل حتى مساكن الأفراد أصبحت تتباهى بامتلاكها لمسابحها الخاصة حيث مياهها تأتي من آبار عشوائية «إجرامية.»
3- تواجد وحدات صناعية وإنتاجية وطنية ودولية تحوم حول مياه المغاربة لتستغله بترف وبشاعة منقطعة النظير…كوسيمار، براسري المغرب، هولدينغ بن صالح المبني على استغلال الماء ثم هولدينغ زنيبر للمشروبات الكحولية فالشركات الكبرى لصناعة المشروبات الغازية …هذا الاقتصاد النهم مائيا لم تواجهه أبدا أي رقابة أو صرامة وإذا حسبنا نسب ابتلاعها للماء سنجدها على الأقل تجاوزت نصف ما لدينا من ماء. مناجم تأكل كل فرشات الجنوب الفقير لتغسل معادنها وسمعنا أن السيد التراب، المدير العام للمكتب الشريف للفوسفاط، وضع مخططا لتعويض نقل الفوسفاط عبر القطارات بنقله في قنوات مائية، ظنا منه أنه يقلص من كلفة النقل المرهقة لكنه ينسى أنه يكلفنا أكثر بشكل كارثي.
4- نمط استعمال المواطن للماء هو عنصر من هذه العوامل لكنه يبقى الحلقة الأقل وقعا. لكن مع ذلك فالمغربي لا يحترم ماءه.. يدخل المغربي للحمام ليستهلك أكثر من خمسين لتر ماء….ويغسل سيارته بنفس السعة المائية ..ويسقي حديقته بأكثر منها …ويغسل أوانيه بماء يكفي لغسل ثلاثة فيلة…وفي المدرسة وفي الإعلام لا أثر لبرامج تحسيسية وتربوية تنبهه حول إسرافه المميت .. وفي عاشوراء وعيد الأضحى يتحول المغربي لكائن عدو للماء ولا يقدر أحد أن ينتقد ذلك لأنه أمر طقوسي ديني مقدس…وفي كل الندوات والمؤتمرات والمهرجانات والاجتماعات التي ينظمها المغاربة يتم توزيع غنائم من قوارير مائية يشرب نصفها ويلقى بالباقي في مجاري مياه الصرف الصحي .
الماء عقيدة قبل أن يكون سلوك استهلاك .. لأن العقائد هي المحددة للسلوكيات .. ثم ضياع الماء ليس على عاتق المواطن أولا بل على عاتق الدولة غير المتوفرة على عقيدة تمنع الجشع والإسراف وتتناسى أن ثورات العطش هي الأشرس في التاريخ.

الكاتب : يونس وانعيمي - بتاريخ : 02/08/2022