المرأة بين الدين والحداثة سياقات وإكراهات الحداثة

خدوج السلاسي

للحداثة سياقات تاريخية معلومة، أهمها التحولات الهائلة التي حدثت في الغرب في مجالات الفكر والمعرفة والتقنية عموما انطلاقا من القرن 16 فما بعد، مرحلة عرفت إصلاحات دينية وازنة وتوسعات جغرافية وتجارية هامة وثورات علمية وصناعية أعادت النظر في الكثير من البداهات الفلسفية والعلمية خصوصا في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية لاحقا.
ارتبط التحديث كمشروع عقلاني بإعادة بناء المجتمعات الغربية على أسس نقدية جديدة سقطت معها أنماط كثيرة من اليقين وتراجع معها مفهوم قداسة السلطة، لتقوم هذه الأخيرة على العقل والحرية والحق والقانون. تم الانتقال إلى مفهوم التفوق والترقي عن طريق الكفاءة والتخصص وأصبحت شرعية السلطة مسندة إلى القانون كعقد اجتماعي. مع فعل التحديث تراجع المفهوم الكاريزمي والشخصي والعائلي التقليدي. وما كان ذلك ليحدث لولا مجموعة من القطائع سمحت بالانتقال والتطور.
لقد أصبحت الحداثة قدر العالم وأصبح التحديث الشرط الرئيس للانخراط فيها، إلا أن الملاحظ أن هذه التحولات المقرونة بالحداثة والمفضية إليها اعترضتها مجموعة من الإكراهات في بلدان العالم الثالث والعالم العربي والمغرب نموذجا. وقف المفكرون المغاربة – وبمقاربات مختلفة ومتفاوتة الأهمية – عند أهمها (العروي، الجابري، سعيد بنسعيد، آفايا، سبيلا وآخرون)
➢الإكراه الأول: لم نتمكن في عالمنا العربي من تحديد موقف نقدي مؤسس وصريح من التراث، إذ ظهرت مجموعة من المقاربات تناولها الأستاذ الجابري في مشروعه الفكري على امتداد متونه بالكثير من النقد الإيبيستمولوجي:
-العودة إلى التراث لمعالجة مشكلة التخلف وصناعة النموذج المحلي للحداثة. إنها مقاربة تشي بلاتاريخية المعرفة وتعتبر أن العودة إلى التراث هو السبيل للخروج من الأزمة والدخول إلى مجال التحديث.
-تربط المقاربة الثانية سببيا بين تخلف الإنسان العربي والعودة إلى التراث: إنه موقف يرفض الإستنجاد بالإرث الثقافي للإفلات من إشكالية التخلف فكما يقول (سعيد بنسعيد)، إذا كانت جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر تجعل كل ثقافة إنسانية حالية تحمل، تستوعب وتحتوي على جزء من الماضي، فإنه يراد للثقافة العربية المعاصرة أن تكون حاملة لإرث الماضي في كليته وشموليته، كأن الدهر والتعاقبات التاريخية لم تنل منه «عندما يقرأ المفكر العربي نصا تراثيا، يقرأه متذكرا، لا مكتشفا أو متسائلا أو ناقدا، يقرأه رافعا الفرق التاريخي والزمني.
-لا تقتصر المقاربة الثالثة على مقاربة الواقع الحالي انطلاقا من الماضي، ولا على استيراد النموذج الغربي لحل إشكاليات الحاضر العربي بل إن شعارها «لا معاصرة دون أصالة، ولا أصالة صادقة دون معاصرة فاعلة» فإذا كان الحاضر هو الإدراك فإن الماضي هو الذاكرة كما يرى علماء النفس
➢الإكراه الثاني: يتجلى في إشكالية الديمقراطية.
يسجل الإنسان في المجتمع العربي ضعفا كبيرا في الديمقراطية والتدبير الديمقراطي، ليس فقط باعتبارها ممارسة سياسية ولكن وأساسا، باعتبارها فكرا وممارسة في مجموع العلاقات الإنسانية والاجتماعية والثقافية: علاقات الحكام بالشعوب، علاقة المدرس بالتلميذ، علاقة الراشد بالطفل، علاقة المرأة بالرجل… فالإنسان العربي حتى وأن فكر في الديمقراطية فهو لا يعيشها في الواقع إلا كأزمة، كقواعد لا تحترم: وتتجلى هذه الأزمة في غياب العدالة الاجتماعية وانعدام التوزيع العادل للثروة وضعف التبني المجتمعي الفعلي لمنظومة حقوق الإنسان…
➢الإكراه الثالث: من أهم العوائق التي تعترض عملية التحديث بكل تداعياته هو الاستهلاك غير المستند للإنتاج إذ تقوم الحداثة على تنظيم الإنتاج وتحسينه والرفع من مستوى أنظمة التواصل والتحكم في العمليات الاقتصادية بينما نسجل أن مجتمعاتنا شديدة الانخراط في مجال الاستهلاك غير المقرون بالإنتاج المحلي.
➢الإكراه الرابع: عائق الذهنية الخرافية: على الرغم من وجود هذا التفكير اللافيزيائي واللاعقلي في مجموع المجتمعات الإنسانية وبنسب متفاوتة قصد تحقيق أهداف مختلفة، إلا أنه يشكل عندنا في الوطن العربي عنصرا أساسيا يتدخل في حل الكثير من المشاكل اليومية. إن التفكير الخرافي تعطيل للعقل، تنصل من المسؤولية في الفعل، جوهره تمثل الفرد باعتباره منفعلا لا عاقلا حرا فاعلا ومسؤولا. فهو، عائق أمام الحداثة الحقيقية القائمة على التحديث المتزامن والمتوازي على مستوى الذهنية كما على مستوى الاقتصاد والسياسة، على مستوى الفكر كما على مستوى الممارسة. وقد تكون نسبة النساء أكبر في مجال تبطن التفكير الخرافي وإعادة إنتاجه نظرا لاختلال موازين القوى فهن الحلقة الضعيفة (أمية، جهل، حيف…) فالخرافة عندهن بمثابة المحاولة المستميتة للاستعانة بقوى خارجية غير مرئية للتغلب على قوة الذكورة الثقافية الضاغطة.
وما يعترض مشروع تفكيك البنية الذهنية الخرافية هو ارتباطها في التمثلات الجماعية بالدين إذ يحدث التداخل بين الدين والتقليد والخرافة، وما يثير الانتباه في مجتمعنا هو تمسك الرجل (الذكر) بتفاضلية وتراتبية تكاد تكون عنده طبيعية، تفاضلية باسم خطاب ديني نزعت عنه روحه الإنسانية، لدرجة يصبح معها هذا الخطاب مناهضا للمرأة ضدا على العديد من النصوص الدينية التي تسير معانيها في عكس هذا الاتجاه. فكثيرا ما توارى الرجل العربي وراء نزعة تقليدية محافظة تحتقر المرأة باسم الدين. وباسم الأصالة والحفاظ على الهوية تصبح المرأة المحروسة بقوة رمزا لاستبعاد الغرب وحجب الحداثة، والمفارقة الغريبة هي أن هذه المحروسة ستصبح بدورها حارسة للقيم العتيقة التي أضفي عليها وباسم الدين طابع قدسي.
➢إن الدين مقوم عقدي وثقافي وقيمي أساسي، ونحن اليوم وتيسيرا للتحديث من جهة، واستجابة للإلحاحية التصالح بين الحداثة والدين والمرأة مطالبون بالرفع من مستوى قراءة النص الديني على قاعدة الاجتهاد وتجويد التأويل بتفعيل مقتضيات الفقه المقاصدي.
إلا أن السؤال الحارق يفرض نفسه: انطلاقا من بنية النص، هل يمكن أن نؤسس لرؤية نسائية متقدمة تقطع مع المقاربة الذكورية التفاضلية وتتميز بنوع من التجرد والموضوعية، هل يمكن للباحث في هذا المجال أن يسجل بعض الاستقلال عن الذات المتجدرة في النص من أجل محاولة موضعة الظاهرة والحفاظ على المسافة الضرورية؟
فعندما يقع التماهي بين الذات والموضوع وينصهر أحدهما في الآخر وتتقلص المساحة تستحيل المساءلة والنقد والاجتهاد، والحال أن العقل شرط أساس في التحديث. إن المعرفة العصرية أو الحديثة تنتصر للشك والتساؤل ولإعمال حقوق الإنسان وتفعيل شروط الإبداع والمبادرة. من أكبر ضحايا التوثر القائم بين الحداثة والدين والمرأة هي المرأة نفسها: أولا بقوة بعدها أو إبعادها عن المجالات الفقهية الاجتهادية لمدة طويلة، ثانيا لعزلها في زاوية اللااعتراف والحال أن من أهم مقومات الحداثة إشاعة ثقافة الاعتراف فكرا وسلوكا. فوحده الاعتراف يؤسس للثقة في الذات ويحمي المقومات السيكولوجية الضرورية للنضج والتوازن ويهيئ لإرادة التعايش المشترك بين المرأة والرجل.
ما بعد الحداثة وبداية انهيار أسطورة التفوق الذكوري.
معلوم أن الحداثة كانت انتصارا للعقل، للعلم، للقانون، واعتبر الرجل هو الفاعل المركزي فيها فالغياب أو الحضور الضعيف للمرأة في هذه التحولات كان انتصارا للذكورية.
لكن مرحلة ما بعد الحداثة شهدت تحولات عميقة في هذا الاتجاه أكتفي بثلاثة أمثلة.
-أكد تطور البحث العلمي الذي قادته نساء من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أساسا، أن للمرأة العالمة إضافة نوعية وفارقة للعلم: أكدت العلاقة القوية بين العلم والمرأة والأخلاق لدرجة أصبحنا معها أمام عبارة: أنثوية العلم. أصبحت الأخلاق المتجلية في قيم النسبية ومبدأ التضامن ومطلب احترام البيئة وضرورة إدماج العلم في إطاره الاجتماعي الثقافي، أصبح كل ذلك من خصائص المقاربات العلمية النسائية حيث ثم تليين الصرامة المنطقية والموضوعية المطلقة والاستدلال الجاف لصالح إنسانية العلم ودفئه.
-أما على المستوى الحقوقي فقد حمل زمن الحداثة الصراع بين الرجل والمرأة، وكان نضال الحركات النسائية حينئذ قائما على ضرورة تمتيع النساء بذات الحقوق التي يتمتع بها الرجال لحسم هذا الصراع، أما ما بعد الحداثة فقد اتخذت الحركات النسائية فيها اتجاها مختلفا قائما على تصور استراتيجي متكامل ينظر إلى النضال من أجل قضايا النساء كمدخل رئيس لمجتمع الحداثة والديمقراطية ودولة الحق والمؤسسات.
-بعد أن ارتبط مفهوم الرجل دائما بالعقل والمنطق والاستدلال، ومفهوم المرأة بالعاطفة والانفعال أكدت العلوم النوروعصبية أن الدماغ الإنساني في شقيه الأيمن والأيسر عقل وانفعال عند كل من المرأة والرجل: يمكن أن يتخذ الرجل قرارات صادرة عن شقه الانفعالي ويمكن أن تتخذ المرأة قرارات ناتجة عن شقها العقلي.
– هذه أمثلثة، -وغيرها كثير- في السيكولوجيا والعلم وجديد النظريات الفلسفية، كلها تسير في اتجاه تليين الصراع وعبور الجسور بين الثنائيات المتقابلة والمتعارضة: الرجل المرأة – العلم الأخلاق – العقل الانفعال.
هل يمكن أن نجعل الناس حداثيين؟
يعاني مجتمعنا من عدم تساوق السلوك مع الأفكار الحداثية التي يحملها الأفراد، وهنا نطرح السؤال التالي كيف يمكن أن نجعل الناس حداثيين في بلد كبلدنا؟
قادت جامعة هارفارد ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي دراسة تجريبية ميدانية ضخمة (6000 مفحوص ينتمون إلى ست دول من أفقر دول العالم). لقد كان الغرض من هذه الدراسة اختبار ما يجعل الناس حداثيين، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف البيئات الثقافية من أجل تحديد القوة الفاعلة في التحديث. ولقد كان الهدف من الدراسة هو الوصول إلى نموذج الشخص الحداثي الذي يحقق اتفاقا مع المفهوم النظري المنطقي للإنسان الحديث وذلك قياسا على مواقف وسلوكات معيارية أهمها:
-الانفتاح على التجارب والطرق الجديدة لمعرفة الأشياء وإنجازها (معرفة سبل منع الحمل وضبط الإنجاب مثلا)
-الاستقلال المتزايد عن سلطة الرموز التقليدية (سلطة الوالدين، سلطة رجال الدين، تحول السلطة من الأشخاص إلى المؤسسات…)
-الإيمان بفعالية العلم والطب ومدى الابتعاد عن السلبية والقدرية والاتكالية في مواجهة وحل مشاكل الحياة اليومية.
-تنامي الطموح الفردي والأسري لتحقيق مكانة مهنية علمية وثقافية عالية.
-تنامي الاهتمام بالتخطيط ودقة المواعيد.
-إظهار الاهتمام القوي بالقضايا المدينية والمجتمعية والسياسية.
-متابعة الجديد من الأخبار والميل إلى معرفة ما هو الوطني منها وعالمي أكثر مما هو قريب ومحلي.
-الموقف الإيجابي من إشراك ومشاركة المرأة في مختلف مجالات الحياة العامة.
لقد كان الهدف من الدراسة واختبار الفرضية من أجل إبراز أن الإنسان الحداثي ليس مجرد تركيبة ذهنية، إنه موجود في الواقع، ويمكن للدراسة أن تحدد هويته بدرجة ما من الثقة والموضوعية بغض النظر عن الاختلافات الثقافية بناء على قواعد مشتركة تنبني عليها الشخصية الإنسانية عموما.
والسؤال هو: ما هي العوامل المؤثرة على هذه المواقف والاستجابة للمعايير، العوامل التي تجعل الإنسان حداثيا أي التي تجعله يربح نقاطا في سلم الحداثة وهل تأثيرها مرتبط بسنوات التكوين المبكرة أم يمتد إلى سنوات الرشد؟
تبين من خلال الدراسة أن التعليم (المدرسة) هو من أكثر المؤثرات أهمية للخروج بالناس من حالة التقليد إلى حالة الحداثة في الدول النامية والفقيرة، إذ يكسب الإنسان عن كل سنة إضافية يقضيها في المدرسة ما بين 2 و3 نقط إضافية على مقياس الحداثة (المدرج من 0 إلى 100). والمدرسة هنا لا تعني المعلومات والمناهج والبرامج الرسمية أساسا، بل المناخ الذي يوفره الفضاء المدرسي والذي يحدث تغيرات في التوجهات الأساسية للأفراد، تغيرات تجاه الطبيعة تجاه الزمن، تجاه القدر تجاه السياسة وتجاه النساء.
فالمدرسة تعلم أكثر مما في المقررات أي أكثر من القراءة والكتابة والحساب والتاريخ… إن المدرسة مشتل تدريبي لغرس القيم وتعليم طرق التوجه نحو الآخر وهي أمور ذات أهمية في المجتمع الحديث.
وفي الدرجة الثانية يأتي الشغل إذ تبين أن للتجربة المهنية دورا في إعادة تشكيل الأفراد، فليس المصنع مثلا مجرد تكنولوجيا ومهارات إنتاجية، بل إنه يمنح الإحساس بالفعالية والثقة في النفس ويساهم في تقليص الخوف من المستقبل ويربي على التدافع والتنافس باعتبار فضاء العمل مدرسة ثانية للتحديث.
عند تأمل نتائج هذه الدراسة نجد أنفسنا أمام الخلاصة التالية: لا يمكن أن نتصور مجتمعا حداثيا يعاني أطفاله وشبابه، رجاله ونساؤه من أعطاب المدرسة العمومية وضعف سياسات التشغيل والاستثمار.
فما هي مسؤولية الدولة تجاه المسارات التحديثية من خلال تدبيرها للسياسات العمومية في مجالي التعليم والتشغيل؟
لاشك أن الحداثة ليست حالة مزاجية ولا زيا مؤقتا ننقد به ماء الوجه أمام الغير بل هي نتيجة طبيعية لحجم المجهودات المبذولة في هذا المجال. وهكذا يصبح الجواب على السؤال: «هل يمكن أن نجعل الناس حداثيين» ممكنا.

الكاتب : خدوج السلاسي - بتاريخ : 10/10/2017