المرأة والمجتمع (بمناسبة 8 مارس)

عبد المجيد حيمر السفياني

 

حينما نتحدث عن المرأة وعلاقاتها بالمجتمع، يجب أن نتذكر حقائق طبيعية وحضارية منها، أن أساس الطبيعة والثقافة والحياة عموما هو التنوع، وأن المرأة عنصر فاعل أساسي في هذا التنوع الحيوي؛ ذلك أن المرأة أحد دعامات التناسل واستمرار النوع الإنساني، الذي بدونه لا يوجد تاريخ ولا ثقافة أو حضارة. فبالإضافة إلى كونها كائنا طبيعيا، المرأة كائن ثقافي وحضاري؛ وهذه إحدى دلالات العبارة الشهيرة «المرأة نصف المجتمع».
إذن، المرأة منتج بيولوجي ومنتج اجتماعي واقتصادي وثقافي، وفاعل تربوي أساسي في بناء الأسرة والمجتمع والأجيال. منها يستمد منذ طفولته معاني الإنسانية الأولى؛ وهي منبع الرحمة والحنان ؛ لذلك يقول أحمد شوقي:
الأم مدرسة إن أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
واليوم كما الأمس، حينما نعيد، وكمجتمع، قولا مكرورا حول دونية المرأة وحول القوامة، ونغمطها حقوقها المدنية العامة كالحق في التمدرس والعلاج اللائق وولوج معترك الحياة والمسؤوليات الخاصة والعامة، والحق في الاختيار والتفكير والتعبير وممارسة طاقاتها الإبداعية والخلاقة في كل المجالات، والحق في الاستمتاع بالحياة… وحينما نقول بأن الجنة تحت أقدام الأمهات، ونمارس على المرأة ألوانا من الاستغلال وأشكالا من الحرمان، كالحرمان الكلي أو الجزئي من تركة أو إرث ما (في المغرب كانت المرأة لا ترث في الأراضي السلالية )…. حينما نتخذ مثل هذه المواقف الإرتكاسية التي تقفز على حركية الواقع والتاريخ وتطوراته النوعية، نتناسى أن المرأة هي الرحم الأول للإنسان، وأنها ليست كائنا مجردا، ولا كائنا غريبا عنا وخصما لنا؛ بل هي الأم والأخت والزوجة والبنت؛ وهي المعلمة والطبيبة والمهندسة والأستاذة والعاملة المعيلة للأسرة؛ وهي المحامية والأديبة الفنانة والعالمة، وأول ربان طائرة في مغرب الخمسينيات من القرن الماضي، كما هو شأن الشهيدة «ثريا الشاوي». وقبل كل هذا وبعده، المرأة تسهم في ضمان استمرار النوع الإنساني والثقافة والحضارة كما سبق الذكر.
أقول هذا وعيني على المرأة في الحواضر، المرأة العاطلة أو التي تتعرض في المصانع وغيرها لأنواع التحايل المهني والابتزاز ولأجور بخسة يندى لها الجبين، وذلك قبل أن تغلق هذه المصانع أبوابها وترحل بثرواتها التي هي عصارة استغلال فاحش، تاركة شركاءها لمصير قاتم، لدوامات وتصدعات مشرعة على عالم الجريمة والفساد.
وعيني أيضا، وخاصة، على المرأة في الأرياف، المرأة حاملة الأثقال والرجل بجانبها يمتطي دابته من الأسواق إلى المساكن؛ المرأة التي تجلب الماء من المسافات البعيدة وتقوم بالرعي والحصاد ومستتبعاته، ناهيك عن تكاليف البيت من طهي وغسيل ونظافة وآلام الوضع وكل شيء…، وذلك في عالم موارد عيشه شبحية ومراكزه الصحية بعيدة وصورية و….
في مرحلة ما يسمى بالحماية، قـام الملك الراحل محمد الخامس بزيارة تفقدية لجامعـة القرويين، فاستفسر عن غياب المرأة عن التمدرس في تلك الجامعة، فأجابه أحد علماء السوء: المرأة والتعلم كالأفعى تُسْقَى سمًّا . إذن فالمرأة سُمٌّ والتعليم وما تدرسه القرويين سمٌّ. سمٌّ ثقافي يضاف إلى سمٍّ طبيعي. وهذه هي كل حصيلة الأذهان السَّامَّةُ؛ فعقَّب عليه محمد الخامس رحمه لله بالقول: نحن لا نرضى لأبنائنا وبناتنا أن يكونوا أفاعي.(مجلة الزمان المغربية).
هذا النموذج من العلماء/الفقهاء هو من كان له نصيب وافر في أعطاب مغربنا وتخلفه عن بقية الأمم منذ قرون عديدة. نتذكر سياساتهم وفتاويهم ضد كل أشكال الإصلاح والتحديث، ليس دفاعا عن الشريعة السمحاء وعن الهوية ضد دار الكفر والأجنبي  كما يوهمون، بل دفاعا عن مصالحهم ونفوذهم في السلطة والمجتمع؛ وهو النفوذ الذي يقف على طرفي نقيض من الحداثة ومقتضياتها.
فالتحديث السياسي يعني الديموقراطية، والديموقراطية تعني الدستور والسيادة للأمة والقوانين؛ وتعني الانتخابات الحرة والتعدد الحزبي والبرامج المتنافسة والاختيارات الشعبية والبرلمان وفصل السلط والتتبع والمراقبة…، وتعني الأخلاق لا سيما «الرأي العام» الذي اعتبره «روسو» الأهم من بين جميع الأنواع الأربعة من القوانين، والقانون «الذي لا يمكن نقشه لا على الرخام ولا على البرونز وإنما طَيَّ أفئدة المواطنين»، وهو ما «يصنع دستور الدولة الحق(…) والذي يكتسب يوما بعد يوم عنفوانا جديدا»، بحيث «إذا ما أصاب الهرمُ القوانينَ أو خَمدت شعلتها كان هو الذي يحييها أو يقوم مقامها»؛ و»هو الذي يديم الشعب على مقاصد نشوئه ويستعيض شيئا فشيئا عن قوة السلطة بقوة العادة»؛ كما أنه هو الذي « ينشغل به في الخفاء كل مشرع عظيم «(العقد الاجتماعي). فكل هذه المنظومة السياسية تتعارض مع ما كان ابن رشد يسميه بـ «وحدانية التسلط»، أي تتعارض مع سلطة ومصالح العالم الفقيه الذي كان هو المشرع الأساسي لسياسة الدولة والمحتكر للنظر والقرار في شؤون الفرد والمجتمع؛ لذلك قاوم الفقيه العالم هذه الحداثة السياسية واعتبرها خروجا عن الملة.
والتحديث القضائي يعني وجود مدونة قانونية مدنية مؤسسة على العلوم الإنسانية وتجارب الحاضر وفضاء العالم، ويعني وجود هيكلة قضائية تعتمد مؤسسات وكتابة الضبط والمنتدب القضائي وأنواع القضاة والمحامين والمداولات العلنية وحق الطعن والاستئناف والنقض وغير ذلك من مقتضيات الحداثة القضائية. وكل هذا يتعارض مع سلطة العالم الفقيه الذي يحتكر الشريعة والحقيقة وإصدار الأحكام والفتاوى التي لا تقبل الجدل والرد. لذلك قاوم الفقيه التحديث القضائي لأنه ينزعه من مكانته في الدولة والمجتمع .
والتحديث الاقتصادي يعني تقنين الملكية والعمل المأجور وتحديث وسائل الإنتاج والبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية، وكذا إقرار مدونة الشغل وحق الإضراب والنقابات. وهذا كله يتعارض مع البنيات الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة التي يستفيد الفقيه من استنزافها وتأبيدها .
والتحديث الثقافي والقيمي عموما يعني التحرر ممَّا كان يسميه «فرنسيس بيكون» بـ «أوهام الكهف» و«أوهام القبيلة» و«أوهام السوق» و«المسرح»، واعتماد العقل والتجربة والعلوم الإنسانية والحقة، واعتماد النقد وتعددية الرأي، حيث «لا شيء يجب أن ينفلت من النقد» حسب عبارة «كنط». وكل هذا أيضا يتعارض مع الاستبداد الفكري والحجر والوصاية وتجميد الفكر على حقائق واحدة يمتلكها صنف من الناس ويمارسون رسومها على من تبقى من البشر. فقد كان العالم الفقيه طيلة قرون هو «واهب الصور» حسب عبارة «الفارابي» في «العقل الفعال»، حيث هو المالك لكل حقائق الحياة والآخرة، وحقائق الغابرين والقادمين في الأزل والأبد. كان هو الأمر والنهي، والكل في الكل حيث هو المشرع للأخلاق والدين والسياسة والقضاء والاقتصاد والتربية والثقافة ولكل جزئيات الأفراد والمجتمع.
فإذن، الحداثة منظومة متكاملة شاملة وزاحفة تتعارض مع مركز الفقيه والمُحَدِّث، لا يملك لها ردًّا فتجرفُه إلى مهاوي الهزيمة والنسيان.
كان ولا يزال نموذج من علمائنا وفقهائنا يواجهون كل ما هو مفيد ونافع، حتى دعاة الإصلاح الديني المتنورين في قضايا المرأة والمجتمع؛ وكانوا يدافعون عن حصونهم ومعاقلهم، أي مصالحهم، عبر الشريعة وباسمها؛ وكان « هراقليطس «اليوناني يقول منذ غابر الأزمان» دافعوا عن عقولكم كما تدافعون عن حصون مدينتكم». فالعقل في علاقته بالإنسان كالحصن في علاقته بالمدينة. إذا كان الحصن يحمي المدينة من الغزو الخارجي وما يتبع ذلك من مهانة وضياع، فإن العقل حصن يحمي الإنسان من غزو خارجي هو غزو اللامعقول  وما يتبع ذلك من ضعف وهوان.
تلقف الغرب دعوات أبنائه هيراقليطس وسقراط وديكارت وكنط وغليليو وأجيالا من المفكرين، فأحدث نهضته وحداثته وبسط سلطانه على العالمين، وبقينا نحن غارقين في الأوهام والتَّيه.
وخلاصة القول، المعركة شاقة ومتعددة الواجهات من أجل تأهيل مجتمعاتنا، والاعتراف فيها للمرأة بكيانها وقيمتها التاريخية. والمرأة في كل هذا، مطالبة هي ذاتها بالمزيد من الكرم؛ لذلك فإن مطلب المرأة اليوم بمناصفة البرلمان والحكومة، لا يمكن أن يكون له إلاَّ بعد رمزي، إذ أن المرأة، وهي نصف المجتمع، ليست بحاجة إلى مطلب الكوطا والهبة والامتياز الأنثروبولوجي،لأنه يتعارض مع مبدأ الكفاءة والاستحقاق، وبالتالي مع المبدأ الديمقراطي الذي كانت المرأة دائما حاضرة وفعالة فيه. المرأة ليست بحاجة إلى وضعية «ذوي الاحتياجات الخاصة « ومن هم « في وضعية حرجة»، لأن النضال الدستوري الذي شاركت فيه قد أقرَّ لها ـ مبدئيا ـ بعدد من الحقوق السياسية والمدنية التي ترتقي بها، كالحق في التعليم والشغل والانتماء السياسي والنقابي، وحق الترشح وتحمل المسؤوليات… وقد أثبت الواقع الملموس أن المرأة قادرة على التنافس والتفوق في كل المجالات العلمية والعملية، وقادرة على خوض الانتخابات في أكبر الحواضر والانتصار فيها.
المرأة اليوم في حاجة إلى دعم المبدأ الديمقراطي الذي هو مطلب المجتمع، ومصدر قوة هذا المجتمع وأفراده.
فألف وردة ومحبة للمرأة في كل أعيادها وكل أيامها.

الكاتب : عبد المجيد حيمر السفياني - بتاريخ : 12/03/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *