المرجعيات الثلاث لتجديد اتفاقية الصيد البحري

نوفل البعمري

يدور حالياً نقاش حول مستقبل اتفاقية الصيد البحري التي تم توقيعها سنة 2019، بعد سلسلة المسارات الطويلة التي خاضها المغرب آنذاك مع الاتحاد الأوروبي، وكانت قضية الصحراء المحدد الأساسي في موافقة المغرب على توقيع الاتفاقية، من خلال رفضه لأي اتفاق لا يشمل الصحراء، وهو ما استجاب له الاتحاد الأوروبي انطلاقا من التوصيات التي أصدرتها اللجنة الأوروبية، التي تشكلت بغرض تقييم انعكاسها الاقتصادي على الأقاليم الصحراوية، انتهت باستفادة الساكنة المحلية الصحراوية والمقاولات البحرية المتواجدة بالمنطقة من عائداتها، لتوصي بتجديد الاتفاقية التي وُقعت وإلى جانبها تم توقيع البروتوكول الملحق بها، وهو البروتوكول الذي جاء ليلائم الاتفاقية مع القانون الدولي تفاديًا لمحاولات إسقاطها عن طريق استصدار قرارات قضائية من طرف المحاكم الأوروبية لإبطالها.
هذا البروتوكول، وعلى عكس ما يتم الترويج له، هو الذي سينتهي أجله بتاريخ 17 يوليوز، وليس اتفاقية الصيد البحري، التي تم توقيعها لأمد مفتوح، لذلك فالنقاش اليوم لا يجري على الاتفاقية في حد ذاتها بل على البروتوكول الملحق بها.
المغرب يعي جيدًا مختلف التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا، وانعكست على مختلف أجهزتها، بما فيها التنفيذية داخل الاتحاد الأوروبي، وإذا كان هذا الأخير قد ظل يعلن، عن طريق المفوضية الأوروبية، تشبثه بالشراكة مع المغرب وتطويرها، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود بعض «اللوبيات» التي استغلت البرلمان الأوروبي وحولته إلى منصة لضرب المغرب، والتشويش على مصالحه المشتركة بينه وبين أوروبا، واختلاق قضايا من أجل ابتزازه في محاولة لإضعافه أمام الأصوات اليمينية التي تنامت بأوروبا، هنا لابد من وقفة مع الاتحاد الأوروبي من أجل أن يوقف مثل هذه التحركات، وأن يجد صيغة داخلية للحفاظ على الشراكة المغربية الأوروبية، وعدم اختزالها في الجوانب الاقتصادية دون السياسية، خاصة ما يتعلق بالمس بالمؤسسات المغربية سواء الدستورية منها أو الأمنية، وهي مسؤولية أوروبية ملقاة اليوم على الاتحاد الأوروبي، الذي يريد الحفاظ على هذه الشراكة لكن بدون أن يضغط داخليا قصد ضمان احترام قواعد الشراكة هاته وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للمغرب تحت ورقة «حقوق الإنسان»، التي ثبت أنها آخر ما يهم البرلمان الأوروبي.
من هذه المنطلقات الكبرى سيعمل المغرب، بالتأكيد، على فتح حوار مع الاتحاد الأوروبي يراعي محددات أساسية تُعتبر من ثوابت السياسة الخارجية، التي وضع أسسها ملك البلاد، وحدد ملامحها في عدة محطات وأزمات عاشها المغرب سابقًا، سواء مع بعض الدول الأوروبية أو مع بعض أجهزة الاتحاد الأوروبي، وبنفس المنطق الذي خاض به الحوار سابقًا مع هذه الأطراف سيخوضه اليوم، لذلك يمكن القول إن هذه المحددات الثلاثة التي وضعها المغرب في حواره مع الاتحاد الأوروبي، في إطار اللجنة العليا المشتركة التي أنشئت لهذا الغرض لتطوير الشراكة التي تجمع الطرفين، ستنطلق من طرح ثلاثة أسئلة تعتبر هي المترجمة لهذه المحددات:

المحدد الأول: أي شراكة يريدها المغرب؟!

الأمر يتعلق ليس فقط بسؤال مرتبط بأي شراكة مستقبلية يريدها المغرب مع الاتحاد الأوروبي بقدر ما هو سؤال استراتيجي بالنسبة لبلد شهد، في الفترة الزمنية ما بين سنة 2018 حيث انطلقت المشاورات لتجديد الاتفاقية التي وقع بروتوكولها سنة 2019 وسنة 2023، تغيرات كبيرة وعميقة أصبح فيها مغرب اليوم مغايرا تمامًا لمغرب تلك اللحظة ولما قبلها، بلد ظل يؤسس لمغرب آخر أكثر قوة ومتانة، وأكثر عمقًا في علاقاته الإقليمية والدولية التي نوَّعها في إطار استراتيجيته الجديدة وسياسته الخارجية الموجهة للخارج، خاصة وأن ملف الصحراء، الذي كان يُعد ورقة يتم الضغط بها على المغرب، قد تم طيه أمميًا وانتصر فيه المغرب لمبادرة الحكم الذاتي، كما أن الملك أعلن، بشكل واضح لا لبس فيه، ألا شراكة إلا بوجود الصحراء في قلبها، لذلك فالوضعية، التي كان عليها المغرب سنة 2018 ليست هي نفسها التي يوجد عليها اليوم على مختلف المستويات، لقد قام بإصلاحاته السياسية والمؤسساتية، واسترجع مقعده بالاتحاد الإفريقي، مع ما عناه ذلك من عودة قوية لعمقه الإفريقي وتحوله لقنطرة أوروبا نحو القارة الأوروبية…
كل هذا الوضع وكل المتغيرات الإقليمية والقارية، التي جعلت منه بلدًا قويًا، استطاع المغرب فيها تجاوز كل لحظات «الارتباك» التي كان قد عاشها آنذاك خاصة على مستوى محاولات استغلال قضية الصحراء للضغط عليه، هذا الوضع الجديد يفرض، وبشكل طبيعي، أن يكون هنآك حوار جديد يراعي كل المصالح الحيوية المستجدة، التي تشكلت لكلا الطرفين، خاصة منها ما يرتبط بمراعاة وضعية كل طرف بشكلٍ أساسي. المغرب الذي تحول إلى بوابة العالم نحو إفريقيا، وقام بإعادة هيكلة اقتصاده المحلي بالصحراء ليتحول لنقطة تمركز اقتصادي قاري خاصة منه الاقتصاد البحري، مع ما يعني ذلك من انفتاح على السوق العالمية ورغبة عدة دول وتكتلات دولية في توقيع اتفاقيات الصيد البحري تشمل الصحراء، وعليه فهو لم يعد رهينة طرف واحد هو الاتحاد الأوروبي، الذي كان يُفاوض سابقًا من منطلق ألا بديل للمغرب عنه!! إذ أصبحت السوق، اليوم، مفتوحة أمامه نحو إفريقيا والعالم العربي، والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وبريطانيا…وبالتالي فالمغرب يرغب في أن يكون هناك حوار يراعي هذا الوضع الجديد انطلاقا من هذه المستجدات الداخلية والخارجية.

المحدد الثاني: كيف يمكن أن تخدم الاتفاقية الاستراتيجية الوطنية في مجال الصيد البحري؟

المحدد الثاني في الحوار، الذي يريده المغرب، ينطلق من الكيفية التي ستخدم فيها اتفاقية الصيد البحري والبروتوكول الملحق بها، الذي سيكون موضوع حوار بين الطرفين، الاستراتيجية الاقتصادية التي وضعها المغرب في مجال الصيد البحري في عموم التراب المغربي بما فيه الأقاليم الجنوبية، هذا المحدد أصبح اليوم ضاغطًا على الجانبين، اعتبارًا لكون المغرب له رؤيته المرتبطة بتطوير المجال البحري، سواء في ما يتعلق ببنيته التحتية أو ما يتعلق بالاستثمارات التي قد يشملها القطاع، وهي رؤية يجب أن تكون الاتفاقية في قلبها تخدم الأجندة الاقتصادية المغربية في هذا المجال، إذ لا يمكن أن يعمد الطرفان إلى فقط توقيع بروتوكول جديد بنفس المضامين القديمة، وكأن لا شيء تغير في المغرب على هذا المستوى، فالمغرب بفضل رؤيته الاقتصادية في مجال الصيد البحري أصبح هو المصدر الأول في العالم للسردين المعلب سنة 2022، بقيمة تقارب 5,7مليار دولار، كما أن هذا القطاع أصبح يخلق سنويا مئات مناصب الشعل، سواء على مستوى ممارسة الصيد البحري أو في المعامل التي تقوم بتعليب السمك وبيعه، كما أن الصادرات التي حققها المغرب في هذا القطاع خلال سنة 2022 تعدت28 مليار درهم، أي بزيادة وصلت 16 في المائة عن السنوات السابقة، بحيث طور قطاع الصيد البحري بالمغرب استراتيجيته التسويقية، وجعلها سياسة مؤسساتية تشتغل وفق الضوابط، التي حددها مخطط “أليوتيس”، خاصة محوره المتعلق بالتنافسية، الذي يهدف إلى تعزيز وتقوية سمعة وصورة علامة المنتجات البحرية المغربية ومكانتها على المستوى الوطني والدولي، فاستراتيجية المغرب التي يشتغل عليها في مجال الصيد البحري حاليًا تهدف إلى قيام قطاع مؤهل للتنافس يقوم على ضمان الشروط الملائمة للجودة عند معالجة المنتجات، مع خلق المزيد من الشفافية وضمان ميكانيزمات محددة للبيع بالأسواق الداخلية والخارجية، كما تهدف هذه الاستراتيجية إلى ضمان إنتاج المغرب لمنتجات تتسم بالجودة تستجيب لمعايير التنافسية في الأسواق الدولية.
هذه الاستراتيجية التي وضعها المغرب وفقا للرؤية الملكية تحت مسمى « أليوتيس»، البروتوكول الجديد للصيد البحري، يجب أن يكون مواكبًا لها ومعززًا لأهدافها، ولا يمكن للمغرب أن ينخرط في أي اتفاق لا يراعى أهدافه الاستراتيجية في هذا المجال، مما يستدعي قيادة حوار يروم ملاءمة البروتوكول مع أهداف هذه الاستراتيجية، وجعل اتفاقية الصيد البحري في خدمة هذه الأهداف الواعدة، لا على هامشها بحيث تؤثر عليها سلبا.

المحدد الثالث: أي اتفاق مغربي-أوروبي لصيد بحري مستدام؟!

المغرب لم يعد يسعى إلى توقيع اتفاق الصيد البحري فقط من أجل توقيعه بل له أهدافه الاستراتيجية المرتبطة بضمان عدم استنزاف ثروته البحرية، بالتالي ضمان صيد بحري مستدام، يستجيب لواقع الصيد البحري ليس في المغرب فقط بل في العالم الذي باتت ثروته البحرية مهددة بسبب المتغيرات المناخية التي أصبحت تؤثر سلبًا عليها، مما يستلزم حمايتها من الاستنزاف إما بالصيد العشوائي أو بوجود اتفاقات قد لا تحترم ولا تتلاءم مع المتغيرات التي شهدتها الثروة السمكية وفقًا لواقعها الجديد، خاصة حاجتها اليوم إلى حمايتها من الاندثار، لأن ذلك سيشكل تهديداً حقيقيا لثروة وطنية تحتاج اليوم للحماية، من خلال القيام بكل الدراسات العلمية من أجل تحديد حجم مجال الصيد وطبيعة الأسماك المسموح بصيدها، وفترات الصيد وكل ما يمكن أن يساهم في الحفاظ على هذه الثروة السمكية الطبيعية، وقد سبق في هذا الإطار «للائتلاف من أجل الحفاظ على الثروة السمكية»، أن دق ناقوس الخطر على مستوى استنزاف الثروة السمكية، مؤكدًا على ضرورة احترام الفترة البيولوجية التي يجب وقف الصيد فيها خاصة « صيد الرخويات»، بحيث تدخلت السلطات أكثر من مرة لإيقاف الصيد للحفاظ عليها وللحفاظ على الثروة السمكية.
لذلك فالبروتوكول الملحق باتفاقية الصيد البحري التي ستكون موضوع نقاش وحوار بين المغرب والاتحاد الأوروبي، يسعى من خلاله المغرب إلى صيد بحري مستدام وبرؤية مستديمة لا تستنزف ثروته السمكية بل تحافظ عليها من الاندثار، حماية لها وللاقتصاد الوطني الذي يعتبر قطاع الصيد البحري واحدا من أعمدته، سواء من حيث حجم اليد العاملة التي تشتغل بهذا القطاع وتصل إلى أكثر من 700 ألف، وكذا من حيث حجم المداخيل التي تحققها للدولة، وهي كلها عوامل تدفع بالمغرب، في إطار رؤيته الاستراتيجية لتدبير هذا القطاع، إلى ضرورة إعادة ضبط كل المحاور من هذا البروتوكول الذي سيكون موضوع نقاش بين المغرب والاتحاد الأوروبي، والذي سينظم عملية الصيد البحري بالسواحل المغربية.
المغرب في حواره مع الاتحاد الأوروبي يسعى لتعزيز شراكته معه، وكذا وضعه المتقدم لدى هذا الشريك، وهو ينطلق من تقييم أولي يعتمد على المكاسب المشتركة التي تم تحقيقها من شراكتهما في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية ذات الطبيعة الحيوية لكليهما، لذلك فإعلانه رغبته في تقييم هذا الاتفاق بالمحددات التي يراها مناسبة لمصالحه الحيوية ذات البعد الاستراتيجي في هذا القطاع كما حددتها الرؤية الملكية، لا يتعارض مع إيمانه العميق بضرورة تعزيز هذه الشراكة، ورغبته في الحفاظ عليها لكن بما يخدم مصالح الجميع، وبما يراعي مختلف المتغيرات التي شهدها المغرب، والتي جعلته يطالب بحوار أوروبي-مغربي يقف فيه الجميع الند للند.

الكاتب : نوفل البعمري - بتاريخ : 17/07/2023

التعليقات مغلقة.