المغرب عند مفترق الطرق: بين شعارات الدولة الاجتماعية وواقع الفوارق والحرمان

سعيد الخطابي (*)

إن المتتبع للشأن المغربي اليوم لا يسعه إلا أن يلاحظ أن المغرب يقف على مفترق طرق مصيري، قاب قوسين أو أدنى حيث تتقاطع الشعارات الرسمية عن «الدولة الاجتماعية» مع واقع يومي يكشف هشاشة السياسات العمومية وعمق الفوارق الاجتماعية والمجالية. في مغرب الألفية الثالثة، حيث نتابع، بقلق كبير، أنه لا يزال المواطنون يخرجون في مسيرات على الأقدام للمطالبة بالماء، وينظمون اعتصامات أمام المستشفيات بحثا عن العلاج، ويحتجون ضد الانقطاعات المتكررة للكهرباء، في وقت تُسوّق فيه صورة بلد يستعد لتنظيم كأس العالم 2030. فأي مفارقة أكبر من هذه؟ وأي معنى لوعود التنمية إذا كان المواطن البسيط عاجزا عن الحصول على ضروريات الحياة؟
ما نعيشه اليوم هو نتيجة مباشرة لتوجه حكومي نيوليبرالي متوحش، جعل من الحقوق الأساسية سلعا تجارية، وحوّل المدرسة والمستشفى إلى فضاءات للحرمان بدل أن تكون رافعة للمساواة. الدولة الاجتماعية الحقيقية تقتضي أن تكون الصحة والتعليم والسكن الكريم حقوقا مضمونة وليست امتيازات، وأن يتحمل القطاع العام مسؤوليته كاملة في ضمان هذه الخدمات. غير أن ما نراه على الأرض هو انسحاب ممنهج للدولة من التزاماتها، وترك المواطن فريسة لقانون السوق.
العدالة المجالية، باعتبارها الوجه الآخر للعدالة الاجتماعية، ما زالت غائبة. التنمية تتركز في محاور محدودة، بينما جهات بأكملها تُقصى من المشاريع الكبرى. هذا الوضع يعيد إنتاج المغرب النافع والمغرب المهمش، ويزرع الإحساس بالغبن لدى مواطنين يعيشون على هامش الاهتمام العمومي. كيف يمكن أن نتحدث عن دولة عادلة بينما تركت مناطق بأكملها لتواجه العطش، العزلة، والبطالة؟ العدالة المجالية هنا ليست خيارا سياسيا عاديا، بل شرطا أساسيا لتماسك الوطن وضمان استقراره.
الأزمة لا تقف عند هذا الحد، بل تتعمق بفعل تضارب المصالح وتغول لوبيات الريع. حين يختلط المال بالسياسة، وحين يصبح الفاعل السياسي هو نفسه المستفيد الاقتصادي، تضيع الشفافية ويفرغ الإصلاح من مضمونه. النتيجة: احتكار للثروة والسلطة من طرف أقلية نافذة، وتهميش لأغلبية تبحث عن قوتها اليومي. وما يزيد الوضع اختناقا هو الارتهان المفرط للمديونية الخارجية، التي تحولت من وسيلة لتمويل التنمية إلى قيد سياسي واقتصادي يضعف القرار الوطني. المغرب اليوم مثقل بخدمة الدين على حساب الاستثمار الاجتماعي. كيف نتحدث عن السيادة الوطنية ونحن مرتهنون لوصفات المؤسسات المالية الدولية؟
أما مؤشرات النمو، فهي خير دليل على الفشل البنيوي. بطالة متفشية في صفوف الشباب، تراجع القدرة الشرائية للطبقات الوسطى، ضعف تنافسية الاقتصاد الوطني، واستثمارات أجنبية محدودة الأثر. كل هذا يعكس غياب نموذج تنموي حقيقي يجعل الإنسان في صلب السياسات العمومية.
لكن أخطر ما يهدد أفق الدولة الاجتماعية هو غياب العدالة الانتخابية. فبدون انتخابات نزيهة، وبدون قطع الطريق أمام المفسدين وتجار الأصوات، لن يكون هناك أي أمل في تجديد النخب وضمان مؤسسات تمثيلية حقيقية. العدالة الانتخابية تعني أن تُمنح الكلمة للشعب بحرية، وأن يُفتح المجال أمام الكفاءات والنخب النظيفة القادرة على خدمة الصالح العام، لا أولئك الذين حوّلوا الانتخابات إلى سوق للمساومات والزبونية. كيف يمكن أن نثق في الخطاب عن التنمية والديمقراطية، إذا كان التدبير الجماعي مرتهنا في كثير من الجماعات المحلية لأشخاص جاؤوا عبر شراء الأصوات واستعمال المال الفاسد؟
إن تقييم الأداء الجماعي يكشف أن الكثير من المجالس المنتخبة عاجزة عن الوفاء بوعودها لأنها محكومة بنفس الآليات الريعية والزبونية التي أوصلتها إلى السلطة. الإصلاح الحقيقي يمر عبر منظومة انتخابية عادلة، تضع حدا للإفلات من العقاب، وتربط المسؤولية بالمحاسبة. ومن هنا، فإن المغرب مدعو اليوم إلى فتح حوار وطني واسع ومنتديات تشاورية حول «المغرب الذي نريد»، على قاعدة عدالة انتخابية تضمن العمل في إطار مواطنة تشاركية حقيقية، تسمح بإشراك المواطنين في صياغة القرار، وتمنح الكلمة للنخب القادرة على حمل هموم الشعب، وقطع الطريق أمام المفسدين وتجار الأصوات.
إن المغرب لن يخطو خطوة حقيقية نحو المستقبل إلا إذا تم القطع مع هذه الأعطاب مجتمعة: النيوليبرالية المتوحشة، تضارب المصالح، اقتصاد الريع، المديونية الخارجية، وغياب العدالة الانتخابية. الدولة الاجتماعية التي نطمح إليها تقتضي إصلاحا داخليا جذريا، يبدأ من محاربة الفساد السياسي والمالي، ويمر عبر إعادة الاعتبار للمدرسة والمستشفى العموميين، ويصل إلى إعادة توزيع الثروة بشكل عادل بين الجهات.
اليوم نحن أمام خيارين: إما الاستمرار في مسار الواجهة والتجميل الإعلامي الذي يسوق صورة وردية خارجيا بينما الواقع الاجتماعي يزداد قتامة، وإما الانخراط الجدي في مشروع وطني جديد قائم على العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية والعدالة الانتخابية. هذا هو الطريق الوحيد لبناء دولة قوية بإنصافها، عادلة بمؤسساتها، متوازنة في مجالاتها، قادرة على استرجاع ثقة مواطنيها وضمان كرامتهم.

(*) عضو المجلس الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية

الكاتب : سعيد الخطابي (*) - بتاريخ : 18/09/2025