بـلال الحسن.. كما عرفته في بيروت وباريس والرباط
د. عبد الغني أبو العزم
1
صعب هذا الرحيل، رحيل من أعز الأصدقاء، وقد جاء ليذكرنا بمأساة النكبة التي عاشها الشعب الفلسطيني بكل وقائعها خلال أواخر سنة 1948، وكأنه جاء ليصفع العالم بأنظمته وقوانينه ومجتمعاته وبزيف معاييره ومقاييسه، وكيف لهذا الرحيل ألا يترك في النفس أثر الفاجعة، وكما ظل يتساءل عن خانة يمكن أن نضع وقائع تاريخها؟ وكيف يمكن أن تصبح معاييرها قابلة للتصنيف، وتشكيل رؤية من دون عرج، أو تغيير الحقائق التي لم تعد قابلة للانمحاء، وهي الآن تزداد كثافة وثقلا.
2
لقد عاش الولد حرقة الجمرة المشتعلة وهو ابن السنة الثالثة من عمره، عندما غادر مدينته حيفا مع أسرته، مسقط رأسه، وها هو التاريخ يعيد نفس شطط الجمرة الحارقة في عصر الحداثة والعصرنة والتكنولوجيّة وحقوق الإنسان، ومنذ السابع من شهر أكتوبر من السنة الجارية.
3
ألم يئن الأوان لهذه الوقائع الإجراميّة وهي تتكرر يوميّاً أمام أعين العالم أن تظهر، وأن تعبر عن ذاتها وبلباسها العسكري المفضوح، هل سيظل عالم اليوم خاضعاً لإرادة الصهاينة للكشف عن هويتها، من دون إخفاء جرائمها من خلال صور الأحداث اليوميّة المتراكمة على أرض غزة وتفصيل المفصل، وإظهار الحقائق، كما هي بارزة في الوقائع، ومازالت مشتعلة إلى الآن.
4
لقد تمكنت أساطير الصهاينة أن تعيد حبك أسطوريّتها لتمارس أفظع جرائمها بكل علانية ولتطبيق الإبادة الجماعيّة التي لم يعرف التاريخ البشري مثيلا لها.
وكنت شديد الرغبة للقائه في بيروت، فالتجأت إلى رفاق الديمقراطية لما بيني وبينهم من ضوابط رفاقيّة، وهكذا تم أول لقاء بيني وبين بلال الحسن في مقر جريدة «السفير»، ومعي توصية من لدن نايف حواتمة، كان لهذا اللقاء طعمه الخاص، وله تاريخه ومعلمته، إذ تمكنت من تسليمه فذلكة عن ميلاد الحركة التقدميّة المغربيّة، وكان لهذا اللقاء وجهاته وقيمته التاريخيّة من عدة جوانب، وبالأخص خلق ارتباط بين الحركة المغربيّة والحركة الفلسطينيّة، لقد وجدت صاحبي منشغلا بتحضير صدور أول عدد من جريدة «السفير»، وكان ذلك في أواخر سنة 1974. لقد اكتشفت، من خلال الفترة الزمنيّة التي قضيتها معه، قدرته الفائقة على استحضاره للمعلومات وصياغتها. لقد امتلك بلال الحسن ثقافة واسعة ومعرفة أدبيّة، وهذا ما يفسر تَحَمُّلَهُ لمهام تحريريّة لعدد من المجلات الصادرة عن مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينيّة مثل : شؤون فلسطينيّة، ومجلة الدراسات الفلسطينيّة، لا شك أن دراسته بجامعة دمشق مكنته من توسيع معارفه وكتابة مؤلفات سياسيّة وأدبيّة ونقديّة. وأشير إلى بعضها :- ثقافة الاستسلام، قراءة نقديّة في كتابات كنعان مكية، حازم صاغية، صالح بشير، العفيف الأخضر، أمين المهدي، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2005؛ هذا بالإضافة إلى قراءاته لأدبيّات القوميين العرب.
– قراءات في المشهد الفلسطينيّ، عن عرفات، وأوسلو، وحق العودة؛ وهو الموضوع الذي تخصص فيه وظل يكتب فيه من دون ملل؛
– الخداع الإسرائيلي، رؤية فلسطينيّة لمفاوضات كامب ديفيد وتوابعها.
5
وأذكر هنا قبوله أن يكون ضيفاً على برنامج «أقواس» الذي كان ينجزه الصديق محمد الهرادي، وهو برنامج تلفزيوني حيث تحدث بلال عن العلاقة التي ربطتني به مند التقيت به في بيروت، وعن اهتمامي بالقضية الفلسطينية وتتبعي لمسارها.
6
وتمر الأيام، وظهر الهوس الإسرائيليّ مرة أخرى، وهكذا وجد الصهاينة فرصة ملائمة لبداية الصراع القائم، ونظراً لاختلال موازين القوى بينهما والتشبث بالغلبة العسكريّة مما أدى بإسرائيل الكيان المحتل لتجاوز كل الأعراف والقوانين العسكريّة هذا بالإضافة إلى رفض كلي لوقف إطلاق النار، وقد وجدت إسرائيل فرصة ملائمة لممارسة الإبادة الجماعيّة للوجود الفلسطيني:
-تصفية أطفال فلسطين إناثاً وذكوراً.
– عدم إتاحة الفرص لأي معالجة طبيّة.
– هدم المستشفيات الموجودة.
– هدم البنايات.
– سد الباب أمام أي نوع من القرارات الدوليّة، سواء تعلق الأمر بالمنظمات الدوليّة القائمة، أو القرارات الدوليّة الحقوقيّة.
– عدم الاعتراف بقرارات محكمة العدل الدوليّة.
– التصفية الجسديّة للصحفيين.
– هدم مدارس الأطفال والثانويات والكلّيات والجامعات.
والهدف من كل ذلك يتجلى في إغلاق كل سبل التعليم والتعلم، وتطبيق مفهوم الإبادة الجماعيّة للشعب الفلسطينيّ، والإبقاء على السيطرة الإسرائيليّة.
-واضح جداً من هذه المواقف أن إسرائيل تجد في موقفها فرصة هائلة للمزيد من السيطرة لتحقيق الأهداف التي ظل نتنياهو في ضوئها يرفض الحلول التي تنص عليها القوانين الدوليّة للمزيد من المستوطنات، والغلبة العسكريّة للاحتلال الإسرائيليّ.
لقد تمكنت إسرائيل من السيطرة على الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينيّة، ويلاحظ تعلقها بالضفة الغربيّة، وبذلك ازداد عدد المستوطنات خلال الحرب على غزة، وهذا ما يفسر أن إسرائيل ليس لها أي رغبة لإنجاز أي خطوة تتعلق بالسلم، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينيّ وتكوين دولة فلسطينيّة.
7
قد أدى مناضلو الحركة التقدميّة أدواراً إيجابيّة، إلا أن هذا التطور لم يدم طويلا، إذ عرف انتكاسات سواء على مستوى الأقطار العربيّة أو الإسلامية، وهنا يجب التذكير بالدور الذي أداه بلال الحسن حيث استطاع أن يعبئ أغلب الطاقات الصحفيّة عندما تمكن من تأسيس مجلة «اليوم السابع» بباريس، إذ أدى دوراً متميزاً في هذا الصدد على الساحة الفرنسيّة.ويمكن القول أنني عشت معه لحظات هائلة لكوني تمكنت من الاستفادة من ثقافته الصحفية منذ التقيت به في بيروت أو في الرباط أوفي باريس.
الكاتب : د. عبد الغني أبو العزم - بتاريخ : 16/12/2024