تقديم دليل الإضراب
محمد طارق *
قبل أن يكون الإضراب حقا دستوريا فهو ظاهرة اجتماعية نقابية عرفتها مجتمعات كثيرة، ومارسها العمال والأجراء قبل أن تنظمها القوانين وتضمنها الدساتير وتحميها المرجعيات الدولية لحقوق الإنسان، إذ أن الديناميات التاريخية والانتقال من أنظمة اقتصادية قائمة على الرق والعبودية والخضوع المطلق، إلى عصر الأنوار ونظام الليبرالية القائم على الاقتصاد الحر والملكية الخاصة والمبادرة الفردية وحرية العمل أفرز تضاربا في المصالح مما أدى الى ظهور صيغ وتجارب جديدة ساهمت في تكتل العمال
والأجراء في اطار جمعيات مهنية أولا وتحث لواء نقابات عمالية كمرحلة ثانية، حيث اتخذت من ممارسة الإضراب كآلية نقابية لحماية حقوق العمال والدفاع عن مصالحهم والذي يعني التوقف الجماعي المدبر عن العمل من أجل الضغط على المشغل أو الدولة، وهو الأسلوب الذي انطلق من المجتمعات الصناعية ليتطور ويشمل باقي أو جه النشاط البشري اليوم، حتى أصبح الإضراب حقا عماليا كونيا محميا بمقتضى المرجعيات الدولية لحقوق الإنسان، ابتداء من الإعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948، ومرورا بالعديد من الاتفاقيات والعهود الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية، والتي اعتبرت «حق الاضراب حق انساني أساسي وجزء لا يتجزأ من الحريات والحقوق الأساسية».
وترجع أولى الإضرابات التي عرفها المغرب الحديث إلى سنة 1936، إذ مارس العمال المغاربة في فترة الحماية الإضراب لأسباب اقتصادية واجتماعية، لكن سرعان ما تحول إلى أداة سياسية لمواجهة الاستعمار جسدتها إضرابات 8 دجنبر 1952، مما أ عطى للإضراب في السياق الوطني حمولة تاريخية ومعنوية ارتبطت ممارسته بالمسار التاريخي التحرري للشعب المغربي من براثين الاستعمار حيث قدمت الطبقة العاملة المغربية والحركة النقابية تضحيات جسام لانتزاع هذا الحق الذي كان محرما ومجرما إبان الاستعمار، مشكلة في نفس الآن، أداة كفاحية حاسمة في معركة التحرير الوطني ووسيلة في يد الحركتين الوطنية والنقابية لتقوية المطالبة باستقلال المغرب.
كما شهد المغرب المستقل تطورا في الثقافة النقابية وخصوصا على مستوى ممارستها للحق في الاضرابات بوثيرة ترتفع في لحظات تاريخية معينية (1962 / 1965 / 1974 / 1981/ 1990 / 1995)، وتخفت في سنوات عديدة إلى أن تتراجع حدتها ووثيرتها.
وانطلقا من سنة 1962 أقر المشرع الدستوري المغربي الحق في الإضراب كجزء من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات، كما اعتبر في التعديلات الدستورية اللاحقة كجزء من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين (الفصل14 من دستور 1962 / 1970)، وكونه حق يدخل ضمن الحقوق الفردية والجماعية (الفصل 14 من دستور 1972 / 1992 /1996)، ليتم التنصيص عليه في باب الحريات والحقوق الأساسية بموجب الفصل 29 من دستور 2011، شروط ولكن كيفيات وشروط ممارسة حق الإضراب بقيت معلقة بإصدار قانون تنظيمي لما يزيد عن 63 سنة، و6 دساتير، وأزيد من 10 ولايات تشريعية.
وبناء عليه، فقد شكل مشروع قانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، الوثيقة المرجعية التي ستأطر ممارسة الاضراب بعد أن قطع مسار التشريع الذي انطلق بتاريخ 28 يوليو 2016، بعرضه على المجلس الحكومي، ومصادقة المجلس الوزاري عليه بتاريخ 26 شتنبر 2016، وايداعه بمجلس النواب بتاريخ 6 أكتوبر2016، ليتم تجميد مسطرة التشريع حول مضامينه بسبب ضغط المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، إلى غاية التوافق حول مسطرة المناقشة البرلمانية، حيث تم تقديمه بتاريخ 16 يوليوز 2024، و حضي بمصادق مجلس النواب بالأغلبية في القراءة الأولى بتاريخ 24 دجنبر 2024، وبعد دراسته ومناقشته من قبل مجلس المستشارين صودق عليه بالأغلبية بتاريخ 03 فبراير 2025، وفي القراءة الثانية صادق عليه مجلس النواب بالأغلبية بتاريخ 5 فبراير 2025، وبعد عرضه الالزامي على مراقبة المحكمة الدستورية والتي صرحت في قرارها رقم 25/251 م د، المؤرخ بتاريخ 12 مارس 2025، بأن «القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب ليس فيه ما يخالف الدستور، مع مراعاة الملحظات المتعلقة بالمواد 1 و5 و12»، ليصدر بتاريخ 24 مارس 2025 الظهير شريف رقم 1.25.34 بتنفيذ القانون رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب والذي سيدخل حيز التنفيذ بعد انصرام ستة أشهر من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية أي يوم 24 شتنبر 2025، مما يجعلنا جميعا معنيين باستيعاب مقتضيات القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، و نحن في حاجة ماسة إلى معرفة مساطره واجراءاته واثاره القانونية والجنائية، وبالتالي ، فهذا الدليل يعتبر بمثابة وثيقة مرجعية تبسط مضامين القانون التنظيمي وتشرح مبادئه العامة وتقدم التعاريف الضرورية لفهمه، كما تستعرض مختلف مراحل ومساطر وآجال ممارسة حق الإضراب في القطاعين العام والخاص أو بالنسبة للمهنيين، والعاملات والعمال المنزليين، وصولا الى تحديد أدوار ومهام الجهة الداعية للإضراب من منظمات نقابية أو لجن الإضراب، وضبط أدوار مختلف السلطات العمومية والترابية المتدخلة بمناسبة الإعلان وتنفيذ الإضراب وما يترتب على مخالفة قواعده من جزاءات جنائية.
لذلك، يمكن الاسترشاد بهذا الدليل من قبل المركزيات والمكاتب النقابية، ابتداء من التفكير في قرار الإعلان عن الإضراب، مرورا بمختلف مراحله ووصولا للحظة تنفيذه وسريانه وتدبير أثاره، كما يمكن لهذا الدليل أن يكون مفيدا أيضا للمشغلين والمسؤولين الحكوميين ليتعرفوا على حقوقهم ومسؤولياتهم أثناء سريان الإضراب، كما يقدم في نفس الوقت أجوبة عن أدوار مختلف السلطات الحكومية المعنية بسريان الاضراب سواء في القطاع العام أو الخاص أو إضراب المهنين أو العاملات والعمال المنزليين.
وينقسم هذا الدليل إلى ستة (6) محاور:
+ المحور الأول: عبارة عن مدخل عام للمبادئ التي تؤطر ممارسة الإضراب، ويحدد بشكل دقيق
المفاهيم الأساسية التي وردت في القانون التنظيمي للإضراب، ويحصر مجال تطبيق الاضراب، عبر تحديد الفئات المسموح لها ممارسته، ويذكر بالفئات الممنوعة من ممارسة هذا الحق.
+ المحور الثاني: يخص حصريا الإضراب في القطاع العام، عبر تحديد المنظمة النقابية المؤهلة
للدعوة إليه وكيفيات وشروط ممارسته في المرافق الحيوية، ويوضح آجال الدعوة إليه والبيانات الواجب توفرها في قرار الاضراب واجال ومسطرة تبليغه.
+ المحور الثالث: يهم حصريا الإضراب في القطاع الخاص، ويعالج شروط ممارسته عبر تحديد الجهة المؤهلة للدعوة إليه، وشروط ممارسته في المرافق الحيوية، ويشرح آجال الدعوة إليه والبيانات الواجب توفرها في قرار الاضراب وآجال ومسطرة تبليغه.
+ المحور الرابع: يتناول شروط ممارسة الاضراب من قبل المهنيين والعاملت والعمال المنزليين،
عبر تعريف الجهة المؤهلة للدعوة إليه وآجاله، وتقديم البيانات الواجب توفرها في قرار الاضراب واجال ومسطرة تبليغه.
+ المحور الخامس: يشرح مرحلة سريان الإضراب، ويحدد مسؤولية ومهام الجهة الداعية إليه، ويحدد
بدقة أدوار مختلف الأطراف المعنية والسلطات المتدخلة بمناسبة ممارسة الإضراب.
+ المحور السادس: فيخصص لتحديد العقوبات المقررة على من يخالف احكام القانون التنظيمي
للإضراب، وتصنيف وترتيب الجزاءات ويحدد الفئات المعنية بها.
* أستاذ القانون الخاص جامعة
الحسن الثاني الدار البيضاء
الكاتب : محمد طارق * - بتاريخ : 11/12/2025

